تاريخ

من وحي الهجرة

التاريخ الهجري يرى النور

.لكل تاريخ حساباته وأيامه، ولكل أمة تاريخها المميز

جدة: أهلاً وسهلاً

§ وقع الاختيار لبداية التأريخ الإسلامي على حادثة الهجرة، لأنها البداية الحقيقية للدولة الإسلامية في المدينة

§ التقويم مقياس تعرف به دورة الأيام، وينبئنا عن أيام العبادات، والأعياد، والمناسبات

§ التقويم الشمسي هو سنة طبيعية مقسمة إلى فصول أربعة ولا يعتمد على الشهور

§ لا يوجد أي ارتباط بين التقويم القمري والتقويم الشمسي

 

أذن الله تعالى لنبيه، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بالهجرة لما ضاقت عليهم مكة، واشتد عليهم أذى قريش، ولا ينحصر مفهوم الهجرة بالمعنى الشرعي في مجرد الانتقال من بلد إلى آخر، بل هي هجرة عامة عن كل ما نهى عنه الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم.. عن مجالس المنكرات.. عن مجتمع الشرك.. عن الذنوب والسيئات.. عن الشهوات والشبهات.. وبمعنى أشمل كانت هجرة من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.

كانت حادثة الهجرة بكل ما حملته من معان ودروس وقيمة هي التي وقع عليها اختيار الصحابة في عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لتكون بداية للتأريخ الإسلامي، على أن تكون مرتبطة بالحول القمري المعتمد شرعًا، حيث جعل الله الأهلة هي التي تحدد بدايات الأشهر القمرية وجعلها مواقيت للناس في الأحكام. وقد وقع الاختيار لبداية التأريخ الإسلامي على حادثة الهجرة بالذات، لأنها فرقت بين مجتمعي الإسلام والشرك، وكانت بداية حقيقية للدولة الإسلامية في المدينة المنورة. وكانت الهجرة أنسب الخيارات كذلك، لأن تاريخي مولده وبعثته، صلى الله عليه وسلم، مختلف فيهما. وأما وفاته فكانت مدعاة للأسف والحزن عليه، فهدى الله تعالى الصحابة إلى اختيار الهجرة منطلقًا للتأريخ الإسلامي.
وكما أن التاريخ الإسلامي «الهجري» يرتبط في حسابه بالتقويم القمري ويعتمد عليه، فإن التاريخ الميلادي يرتبط بالتقويم الشمسي.
وبداية، لا بد من الإشارة إلى بعض الفروقات التي لا بد من الانتباه لها بين كل من التاريخ والتأريخ والتقويم. فالتاريخ «بدون همزة» علم يشمل أبرز الأحداث وأهمها التي تمر بها الأمم والشعوب، أما التأريخ «مهموزًا» فهو يوم معين تنسب إليه الأحداث المحددة، أي أنه وعاء لأحداث الأمة يساير أيامها ويربط أجيالها بعضهم ببعض، ويوثق حاضرها وماضيها.
أما فيما يتعلق بالعلاقة بين التاريخ والتأريخ من جهة والتقويم من جهة أخرى، فنجد اختلافًا دقيقًا بينهما، فالتقويم لغة بمعنى تصحيح الخطأ أو الاعوجاج، واصطلاحًا: هو تنظيم لقياس الزمن يعتمد على ظواهر طبيعية متكررة مثل دورة الأرض حول الشمس، أو دورة القمر حول الأرض، فهو مختص بحدث مرتبط بظاهرة متكررة كمواسم الزراعة السنوية أو الفصول الأربعة، وهو في الشهور الشمسية ثابت لا يتغير مثل ربط بدء الدراسة سنويًا بأول يوم من أيام الربيع، فهذا يسمى تقويمًا وهو خاص بتلك السنة، ومثله تقويم أم القرى وغيره، فهو تقويم سنوي ينظم تفاصيل سنة من السنين وفي تفاصيل التقويم تجد التأريخ الهجري القمري، أو التأريخ الميلادي الشمسي والفصول السنوية المعروفة.
ويخطئ بعضهم بإضافة كلمة التقويم إلى الهجرة أو الميلاد، فيقول: التقويم الهجري أو التقويم الميلادي، والمقصود هو التاريخ الهجري أو التاريخ الميلادي. أما التقويم فهو هنا إما التقويم القمري، وإما التقويم الشمسي.
ويعد التقويم مقياسًا للزمن كالساعة، فكما أن الساعة مقياس تعرف به ساعات الليل والنهار، كذلك التقويم فإنه مقياس تعرف به دورة الأيام والأسابيع والشهور، وينبئنا عن أيام العبادات، والأعياد، والمناسبات، والمواسم.
وللتقويم أنواع متعددة، فقد اختلفت طرق التقويم المعتمدة في حساب الأيام والتأريخ من أمة لأخرى حسب معتقدات كل منها، واهتدت بعض الشعوب كالعرب والمصريين إلى مراقبة النجوم، ولاحظوا أن البرج يطلع دائمًا في المكان نفسه في الزمان نفسه، ما فتح لهم مجالًا للتأريخ بتعاقب النجوم بدلًا من التأريخ بدورة الشمس وحلول الفصول المرتبطة بموسم الحصاد. أي أن مراقبة الإنسان لتلك الدورات الفلكية ولدت أنواعًا متعددة من التقاويم، منها على سبيل المثال:

التقويم النجمي

يرتبط التقويم النجمي بطلوع نجم معين في وقت معين من العام، ويبدأ من طلوع نجم الشعرى والفيضانات التي تتكرر كل عام، ومدة هذه السنة 366.25 يوم، أي أطول من السنة الشمسية بيوم واحد، ما سبب عيبًا واضحًا في هذا التقويم.

التقويم الشمسي

يرتبط هذا التقويم بحالة الشمس، وهو مأخوذ من دورة الأرض حول الشمس وهي السنة الشمسية. وتنقسم السنة الشمسية إلى الفصول الأربعة المعروفة باحتساب بعد الشمس وقربها، وهي الدورة السنوية ومدة هذه السنة 365 يومًا تقريبًا. وقد عرف هذا التقويم الرومانيون في القديم، وعليه قام التقويم السرياني، والتقويم الفارسي، والتقويم الصيني، والتقويم الفرنسي. وممن استخدم التقويم الشمسي منفردًا الروم، والقبط، وغيرهما.

التقويم القمري

يرتبط هذا التقويم بدورة القمر حول الأرض ووفق حركة القمر تحصل الشهور، وكل دورة للقمر حول الأرض تمثل شهرًا قمريًا تبلغ مدته 29.25 يوم تقريبًا. وعلى هذا الأساس فإن السنة القمرية تكون 354.36 يوم، أي أن عدد أيامها أقل من عدد أيام السنة الشمسية بـ«10.88» يوم. ويلاحظ أنه لا يوجد أي ارتباط بين التقويم القمري والتقويم الشمسي، لأن كلاً منهما مرتبط بحركة ودورة تختلف عن حركة الآخر ودورته.
وعند التأمل نجد أن التقويم الشمسي وثيق الصلة بأمور المعاش كالزراعة ومواسمها وأحوال الطقس، وذلك لأن التقويم الشمسي يحتضن الفصول الأربعة «الشتاء، والصيف، والخريف، والربيع». وتأتي هذه الفصول فيه في مواعيد ثابتة سنويًا، فهذا التقويم أساسه الفصول وليس الشهور، فهو في الأصل سنة طبيعية مقسمة إلى فصول أربعة. والتأريخ الميلادي يعتمد على حركة الشمس السنوية الطبيعية، وهي التي تتكون من دورة واحدة للشمس حول الأرض من شتاء إلى شتاء، أو من ربيع إلى ربيع ونحوه. ويستخدم هذا التاريخ الأشهر الوضعية، وهي تختلف على حسب زيادة أو نقص في الشهر فبعضها ثلاثون يومًا، وبعضها أقل، وبعضها أكثر بلا مستند في ذلك.
أما التقويم القمري فهو يعتمد على الشهور لا على الفصول الأربعة، والشهر فيه يعتمد على دورة القمر الفلكية الثابتة، وتتكرر هذه الدورة اثنتي عشرة مرة، وبذلك تتكون السنة القمرية. عند ذلك يتضح أن السنة الشمسية سنة طبيعية وجاء من قسمتها أشهر قياسًا على الأشهر القمرية، أي أن الأشهر في السنة الشمسية ليست طبيعية بل وضعية. أما التقويم القمري فالأشهر فيه طبيعية وفق دورة القمر. ويرى بعض الفلكيين أن التاريخ الميلادي سيحتاج قطعًا يومًا من الأيام إلى تعديل، إذا كان الهدف هو المحافظة على انطباق السنة الشمسية على الفصول الأربعة.
وبالنسبة للأشهر الميلادية الوضعية التي تتكون منها السنة الشمسية فإنها في الأصل تعود لتمجيد التأريخ الشمسي الميلادي لاثني عشر إلهًا مزعومًا من آلهة الرومان الأسطورية، كما تعود، أيضًا، إلى تمجيد قائدين من قادة الرومان وهما يوليوس قيصر الذي أطلق اسمه على الشهر السابع باسم «يوليو»، وأغسطس الذي أطلق اسمه على الشهر الثامن «أغسطس». وقد قام مجلس الشيوخ في عهده بتعديل أيام الشهر إلى واحد وثلاثين يومًا بدلًا من ثلاثين يومًا، لأنه أحرز في هذا الشهر أعظم انتصاراته وكذا يوليو.
والخلاصة، أن التأريخ الميلادي هو نتاج عمل بشري خالص، مولود في بيئة رومانية، ونشأ برعاية القياصرة.

تقويم العرب قبل الإسلام ونشأة التأريخ الهجري

لم يعتمد العرب قبل الإسلام تقويمًا خاصًا بهم على الأرجح رغم اعتمادهم السنة القمرية وتقسيمها إلى اثني عشر شهرًا، وتسميتها بأسماء مختلفة، وإنما اعتمدوا في تأريخهم لأحداث حياتهم على حوادث تاريخية مشهورة، مثل: عام الفيل، وحرب الفجار، وإعادة بناء الكعبة.. وربما يرجع السبب في ذلك إلى الطبيعة العربية القديمة حيث الترحال، وعدم الاستقرار، وكثرة الحروب والمنازعات بين القبائل المختلفة، وعدم اجتماعهم على حادثة بعينها تكون بداية تأريخ لهم.
ومع ذلك فقد اتفقت القبائل العربية على احترام أشهر بعينها، أطلقوا عليها الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، حرموا فيها الاقتتال والغارات، ورغم ذلك لم تسلم من التحايل عليها، حيث لجؤوا قبل الإسلام إلى نظام النسيء الذي يعطيهم الحق في تأخير هذه الأشهر الحرم أو تسبيقها. واستمرت هذه العادة حتى جاء الإسلام وحرمها بقــــــــــــوله تعالى: ‭}‬إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله‭{‬ «التوبة: 37». وبعد مجيء الإسلام استمر العرب والمسلمون فترة من الزمن على ما كانوا عليه من قبل، يؤرخون بالأحداث المهمة، واستمر ذلك حتى بعد هجرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة المنورة، حيث لم تُعطَ السنوات تواريخ رقمية تدل عليها، وإنما أعطيت أسماء تدل على أشهر الحوادث التي وقعت بها. ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وأصبح لهم كيانهم المستقل أصبحوا يطلقون على كل سنة من السنوات اسمًا خاصًا بها فكانت السنة الأولى تسمى سنة الإذن، والسنة الثانية كانت تسمى سنة الأمر، والسنة الثالثة سنة التمحيص، والسنة الرابعة تسمى سنة الترفئة، والسنة الخامسة تسمى سنة الزلزال، والسنة السادسة تسمى سنة الاستئناس، والسنة السابعة تسمى سنة الاستغلاب، والسنة الثامنة تسمى سنة الاستواء، والسنة التاسعة تسمى سنة البراءة، والسنة العاشرة تسمى سنة الوداع. وقد اتفق حين تم اعتماد التأريخ الهجري في عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، على أن يتخذ أول شهر محرم من السنة التي هاجر فيها الرسول، صلى الله عليه وسلم، مبدأ للتأريخ الإسلامي، لأنه من الأشهر الحرم، وأول الشهور في العد، ومنصرف الناس في الحج، علمًا بأن الهجرة لم تكن في هذا اليوم، وإنما سبقته بنحو 67 يومًا، حيث بدأت في أواخر أيام شهر صفر، ووصل النبي، صلى الله عليه وسلم، المدينة في 12 من ربيع الأول.

مشروعية التأريخ الهجري

الحديث عن التأريخ الهجري يقتضي تأصيل الحكم الشرعي للتقويم القمري الذي ينتمي إليه التأريخ الهجري. فالنصوص الشرعية دلت على وجوب الأخذ بالتقويم القمري ومن ذلك قوله تعالى:
• ‭}‬يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ‭{‬ .. فالله، عز وجل، جعل الهلال علامة على بداية الشهر ونهايته، فبطلوع الهلال يبدأ شهر وينتهي آخر، فتكون الأهلة بمعنى المواقيت. وهذا يدل على أن الشهر قمري لارتباطه بالأهلة وهي منازل القمر.
أي أن ما ثبت من الموقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له، وهذا يدخل فيه أشهر الحج، وصوم رمضان، وصوم النفل، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، والآجال في البيوع والإجارات وسائر العقود، وأحكام العدد وبعض الكفارات، ومدة الإيلاء والعدة... إلخ، كلها مربوطة بالتقويم القمري الذي يتعامل به المسلمون من خلال التاريخ الهجري، حكمة من الله تعالى، ورحمة بهذه الأمة، وحفظًا لهذا الدين، لاشتراك الناس في هذا الحساب وتعذر الغلط والخطأ فيه، فلا يدخل في الدين من الاختلاف والتخليط ما دخل في دين غيرهم، لذا أصبح هذا التاريخ من مزايا الأمة الإسلامية، انفردت به عن غيرها من الأمم.
• قوله تعالى: ‭}‬إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ‭{‬.. فالشهور القمرية التي هي معيار التوقيت الشرعي إذا بلغت هذا الرقم «12» سميت سنة وهذا معنى عدة الشهور، وهذه هي السنة القمرية التي أقرها الشرع. ويرتبط بالسنة القمرية حول الزكاة الذي يرتبط بالتالي بالتاريخ الهجري، والحولان الخاصان بإرضاع الوليد وسائر ما يرتبط بحساب السنة الكاملة، كالبيوع، ومدد الديون، وغيرهما.
• قال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له».. فالرسول، صلى الله عليه وسلم، حدد انتهاء شهر شعبان ودخول رمضان برؤية الهلال، ويقاس على ذلك بقية الأشهر.
ومؤدى هذه النصوص الشرعية صريح في أن المعول عليه والمعتبر هو التقويم القمري، ما يؤكد وجوب تمسك المسلمين به.
أي أن الأصل هو العمل بالتقويم القمري المتمثل في التأريخ الهجري، أما عن الاستفادة بالتقويم الشمسي المتمثل في التأريخ الميلادي متى وجد مقتضى لذلك تتحقق فيه مصلحة فلا مانع أن نأخذ لا أن نستبدل من مواقيت الأمم ما يفيدنا في بعض الحالات فيما لا يتعارض مع الأصل لدينا. وأما ما يتعلق بالفصول الأربعة واستخدامها لتنظيم الاكتساب، والمهنة، والدراسة، والعمل دون ربط ذلك بالسنين فليس من التأريخ، مثل أن يقال يبدأ العام الدراسي كل عام ببرج الميزان، أو يبدأ موعد الحصاد في برج الحمل كل عام.. فهذا من الاستفادة العامة للمواسم، ولا صلة له ببحث التأريخ الهجري أو الميلادي.