قصة قصيرة

• د.عدنان باجابر

كان الأستاذ نجيب عبدالعال رائدًا لفصلنا في الصف الثالث الابتدائي. كنا نحبه حبًا شديدًا. أذكره وهو يقف في نهاية الصف في الحصة الأخيرة ليبدأ قص إحدى قصص الأنبياء علينا.
كنا نحب الحصة الأخيرة ولا نغادر الفصل إلا بعد نهاية القصة، التي قد تمتد بنا أحداثها إلى ما بعد خلو المدرسة من تلاميذ الفصول الأخرى.
الأستاذ نجيب يحبنا حبًا شديدًا. هكذا كنا نشعر! في أيام الشتاء الباردة تصر أمي على أن نشرب الحليب الساخن صباحًا قبل مغادرة البيت إلى المدرسة. كانت تفتح لنا باب البيت وتتابع خروجنا متجهين سريعًا نحو منزل إمام المسجد الشيخ عثمان العكاس. أختي تأخذ الشارع الأيمن أما أنا وأخي فنتجه إلى الجهة اليسرى متجاوزين مسجد حارتنا الصغير إلى المدرسة. كان البرد شديدًا، وكم رأيت الأستاذ نجيب على دراجته السوداء متحنكًا بشماغه، وقد جمع طرفيه تحت العقال، وهو قادم إلى المدرسة صباحًا، قلبي يقفز فرحًا لدى رؤيته، ثم ما نلبث أن نتسابق نحن أبناء الصف الثالث الابتدائي إلى الالتفاف حوله.
قال لنا الأستاذ نجيب ذات مرة: ما رأيكم أن نشارك في تزيين الفصل؟ بادرنا بجمع القروش واشترينا أوراق الكريشة الملونة. أصبح فصلنا جميلًا ونظيفًا، وكنا نفاخر الفصول الأخرى بجماله.
الأستاذ نجيب بشوش، دائم الابتسامة، أبيض البشرة، متوسط الطول، يميل جسمه إلى النحافة. وهو يبادرنا بتحية الصباح، ثم يأمرنا عريف الفصل بالقيام احترامًا لمدرسنا.
ومرت السنة الثالثة ولا أذكر معالم السنين التالية لها. وعندما تمر بنا السنون دائمًا ما تحمل في طياتها أيامًا جميلة . وعندما نبسط ذكرياتها نجد تلك الأيام الجميلة نقشًا محفورًا عليها. وهكذا كانت السنة الثالثة الابتدائية.
في المرحلة الثانوية قال لي صديقي أحمد: هل تذكر الأستاذ نجيب؟ عاودتني فرحة دفينة غامضة وأنا أردد بصوت خفيض: الأستاذ نجيب! قال أحمد مكملًا: كم كنا نحبه! تبسمت وأنا أقول: نعم.
في المرحلة الجامعية تحلقنا ونحن طلبة قد جمعتنا ذكريات الطفولة. نتجاذب أطرافًا شتى من تلك الذكريات. قال حسن: هل تتذكرون الأستاذ نجيب؟ وأكمل متحمسًا: إنه ما زال في الطائف. وقد تقدم به العمر. عاودتني ذكرى مروري أمام منزله بحي السلامة. فقلت: جزاه الله خيرًا. أكمل أحد الجالسين: ما رأيكم بزيارته؟ وما زرناه.
قلت لابنتي الصغرى وهي تحاول حفظ جدول الضرب: ما رأيكِ أن أعلمكِ طريقة سهلة في ضرب الأرقام عن طريق الأصابع؟ وعندما تعلمَتْها دُهشتْ من هذه الطريقة المبتكرة، فتبسمتُ وقلت لها: إنها ليست مبتكرة، لقد تعلمتها وأنا في الصف الثالث الابتدائي، علمنيها الأستاذ نجيب.
كنت أقص على أبنائي قصة موسى، عليه السلام. استهللت القصة بالقول: «سأقصها عليكم كما كان يقصها علينا الأستاذ نجيب ونحن صغار».
وذات يوم قلت لأخي: وهل تذكر الأستاذ نجيب عبدالعال في مدرسة قروى؟ اعتدل في جلسته وهو يبتسم ويقول: طبعًا أذكره. ثم أكمل سائلًا ومستفزًا للذكرى: وهل تتذكر الأستاذ مفيد؟ انقبض شيء في فكري وأنا أجيب: ذلك الجبار الذي كان يضربنا بأغصان الرمان. كم كنا نكره حصصه ونخاف ضربه وعقابه!
في الصيف الماضي أخذت من شجرة الرمان غصنًا في نهايته رمانة كبيرة، وضعت الغصن جانبًا وفتحت الرمانة. كانت حبوبها مبهجة كاللؤلؤ، حمراء زهرية كأنها ياقوت. هكذا هو رمان الطائف!