الطيار الخاص للملك عبدالعزيز «جوزيف جرانت» لـ«أهلًا وسهلًا»:
كان الملك يجلس في مقعد مساعد الطيار بجواري
تم اختياري للذهاب للسعودية للمساعدة في إنشاء شركة خطوط جوية.
الرياض: طارق أحمد شوقي
§ كنت وأخي نهبط بالطائرة في أي مكان، ما كان يثير فزع الناس!
§ بدأنا في نقل الركاب مقابل دولارين عن الراكب الواحد
§ كانت مدينة جدة المدينة الوحيدة التي يوجد بها مطار، ولم يكن به أضواء!
§ استطاع ابن سعود في خضم القرن العشرين أن يفجر من غمار الرمال أمة جديدة
زار جوزيف جرانت، الطيار الخاص للملك عبدالعزيز، المملكة مؤخرًا، بعد فترة طويلة من الغياب عنها، التقى المسؤولين، وزار العديد من الأماكن التاريخية وفق برنامج محدد. استحضر ذكرياته الجميلة عن تلك الحقبة التاريخية التي عمل بها مع الملك عبدالعزيز.. التقته «أهلًاوسهلاً» فكانت تلك الإضاءات.
الرغبة في تحقيق الذات
للبدايات صعوبات عديدة، كيف ولجت إلى عالم الطيران؟ وما ظروف نشأتك الاجتماعية؟
ولدت مثل العديد من طياري «تي دبليو إيه»، في مزرعة، ولكن على عكس أغلبهم كانت عائلتي تعيش في فلوريدا. ولم أكن من النوع الذي يمكن أن يعيش في مزرعة فغادرتها لأكتشف العالم. وكان ترتيبي الثاني في أسرة مكونة من 12 طفلًا ووالدي. وقد مرت الأسرة بمحن وأيام عصيبة. وفي كثير من الأيام لم يتمكن الوالدان من إطعامنا، وحاولنا مساعدة الوالدين ببيع بعض المنتجات البسيطة في الشوارع.
وحينما أتممت العام التاسع عشر قررت أن أنطلق بدراجتي البخارية ماضيًا في طريقي بعيدًا عن أسرتي. في رحلة طويلة بحثًا عن المتعة والإثارة. عملت في مهن مختلفة في جنوب الولايات المتحدة، ثم انتقلت إلى ولاية تكساس، ومن ثم إلى قلب الغرب الأمريكي. وفي النهاية قابلت شقيقي الأصغر «روي» وعمل معي ميكانيكي طائرات في مدينة بافلو في نيويورك. ولم يمر وقت طويل حتى حصلت على عمل في شركة جلين مارتن GLEEN MARTIN في مدينة بالتيمور. وقد كان عملاً مناسبًا وثابتًا وتمكنت خلال هذا الوقت من دراسة هندسة الطيران في معهد ميريلاند.
واستطعت أن أدخر بعض المال أنا وشقيقي، وسرعان ما اشترينا طائرة من طراز «كيرتيس رايت» Curtis Wright. وبالطبع لم نكن قد تعلمنا الطيران بعد. ولكن ذلك لم يردعنا، فقررنا تعلم الطيران. وكنا ندفع خمسة دولارات في الساعة مقابل تلقي دروس في تعليم الطيران، وسرعان ما أصبحنا طيارين متمرسين. وبدأنا عملًا جديدًا يتمثل في أداء الاستعراضات الجوية في القرى والمناطق الريفية. وانتشرت قصص كثيرة عنا، حيث كنا نهبط بالطائرة في أي مكان، ما كان يثير فزع المشاهدين. ولم يكن للطيران في ذلك الوقت قواعد ولا معايير، فقد كنا مثل الطيور التي تهبط في أي مكان تريده. ولم تتعد ساعات الطيران التي قمنا بها 25 ساعة. وحينما بدأنا في نقل الركاب مقابل دولارين عن الراكب الواحد تمكنا من تحقيق مكاسب طيبة، نظرًا لقيمة الدولار في ذلك الوقت.
أنا شخص محظوظ
قدمت للعمل في المملكة من قبل شركة «تي دبليو إيه»، فما تفاصيل هذا الحدث؟
لقد كنت محظوظًا لأنني تمكنت من الطيران في وقت لم يكن هناك إدارة للطيران المدني «CAA»، ولا إدارة الطيران الاتحادية «FAA » لتمنعنا من أن نقتل أنفسنا ولم نكن بحاجة حتى إلى رخصة طيران قبل أن تتولى وزارة التجارة إصدارها.
وقد تعلمنا الكثير من الطيارين الآخرين الذين كانوا يطيرون في ظروف جوية سيئة. وذلك كان أيام الطائرات التي من طراز OX-5.
وكانت الاستعراضات الجوية فقدت بريقها وإثارتها بالنسبة لي ولشقيقي، ومن ثم اتجهت إلى بنسلفانيا للعمل في شركة الخطوط الجوية المركزية في بنسلفانيا، ثم العمل في «تي دبليو إيه» في القسم الدولي. وفي أثناء عملي بالشركة تم اختياري للذهاب للمملكة العربية السعودية للمساعدة في إنشاء شركة خطوط جوية، حيث إنه مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية منح الرئيس الأمريكي روزفلت الملك عبدالعزيز طائرة من طراز «دي سي-3» «DC-3» بينما تولت «تي دبليو إيه» توفير طاقمها فأتيت إلى المملكة. وقبل أن أعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية امتلك السعوديون خمس طائرات من طراز «دي سي-3».
الاستمتاع بالمهمة
برأيك، لماذا تم اختيارك تحديدًا دون غيرك؟ وكيف كان شعورك؟
لم يكن لدي أدنى فكرة لماذا تم اختياري، ولكن ربما يكون ذلك لأنهم اعتقدوا أنني سأستمتع بتلك المهمة. وقد استمتعت بالرحلة جدًا وأصبحت صديقًا للملك عبدالعزيز، وفي ذلك الوقت كان قصر الملك مصنوعًا من الطين، والأعواد الخشبية، والقش، ومواد أخرى من البيئة المحلية، كان السعوديون يعثرون عليها في الأرض، وكان الملك رجلاً عظيمًا يتمتع بكل مميزات القائد.
إنشاء شركة للخطوط الجوية
للذكريات مكانة في النفس، فكيف ارتأيت ذلك مع الملك عبدالعزيز؟
كان حين يجلس في مقعد مساعد الطيار أشعر بسعادة غامرة. لقد كان كريمًا معي ومع مرور الوقت عرض عليّ الكثير من الذهب لكي أبقى. وفي تلك الأيام لم يكن الملك ثريًا مثلما أصبح بعد ذلك، ولكنه أعطاني بعض أكياس الذهب والفضة، ولكنني أعطيتها للذين كانوا يعملون معي وطلبت منهم أن يقتسموها فيما بينهم.
وحين أتذكر العامين اللذين قضيتهما في السعودية في منتصف الأربعينيات والاختلافات المذهلة التي طرأت على المملكة في ذلك الوقت ينتابني شعور بالبهجة والسرور. ففي تلك الأيام لم يكن في المملكة سوى بعض الأودية والقرى، حتى مدينة الرياض كانت صغيرة. وكانت مدينة جدة هي المدينة الوحيدة التي يوجد بها مطار ولم يكن به أضواء، بل لم يكن به مكان متسع لطائرة دي سي-3 في حالة سقوط أمطار.
كان مطار مدينة الظهران هو المطار الوحيد في البلاد المزود بمهبط للطائرات، لذلك بدأنا بإنشاء شركة للخطوط الجوية، وكانت دون مطارات باستثناء مدينتي جدة والظهران. لقد كان الأمر مثلما كان أيام عملي في الاستعراضات الجوية في المناطق الريفية. كنا نختار منطقة ما ونهبط عليها، وأحيانًا نتعثر في الهبوط، ولكن الأمور كانت تنتهي دائمًا على ما يرام. وحينما كنت أعمل في الاستعراضات الجوية كنت أهبط بالطريقة نفسها.
رحلة الصيد المجهولة
قلت في ثنايا حديثك إنك قمت برحلة صيد مجهولة مع الملك عبدالعزيز، فما أسرار تلك الرحلة؟
أتذكر تلك الرحلة البرية التي قام بها الملك عبدالعزيز بهدف الصيد، وكنت بصحبته في تلك المغامرات الشاقة، ولا أعلم أن أحدًا خاطر بمثلها على الإطلاق، والتي تخللها السير والتوغل في عمق الصحراء في أرض لا ماء فيها، ولا زاد، ولا سكان دون أن يكون معنا أي أداة عملية في ذلك الوقت تحدد الجهات الأصلية تدلنا على معالم الطريق الصحيح، ولا خريطة تبين لنا المعالم والطرقات، وإنما كانت عزيمة الملك عبدالعزيز، والقوة، والجرأة، والشجاعة هي الدافع الأكبر لخوض تلك الرحلة.
دفعني الخوف والفضول الشديدان إلى أن أسأل الملك عبدالعزيز كيف السبيل للخروج من هذا المأزق؟ ارتسمت على محياه بسمة هادئة ثم أخبرني أنه سيهتدي بالنجوم، الأمر الذي جعلني أتعجب كثيرًا من قوله، فقلت له وكيف تهتدي بالنجوم في تلك الصحراء الشاسعة غير المحددة المعالم، فقال لي يا صديقي نحن العرب أبناء هذه الصحراء نعرفها وتعرفنا ولا يمكن لها أن تضيعنا. وبالفعل استطعنا أن نخرج من تلك الصحراء بفضل حنكته، وذكائه، وثباته في المواقف الصعبة.
الكتاب الأول عن الملك عبدالعزيز
من أبرز من كتبوا عن الملك عبدالعزيز؟
كان لارتباطي القوي بالملك عبدالعزيز الدافع الأكبر في معرفة ما يقال عنه وما يكتب، وقد سجلت بعض المقولات والآراء وما كتب عنه في تلك الفترة وأحتفظ بها، وإن لم تخونني الذاكرة أذكر أن أول كتاب عن الملك عبدالعزيز أصدره الكاتب هارولد آرمسترونج بعنوان: «سيد الجزيرة العربية» في عام 1924تناول حياة الملك بالوصف والتحليل. وأتاح له القرب من الملك عبدالعزيز والشغف بمتابعة تجربته إلى أن يصفه في مختلف أطواره فوصفه في شبابه بقوله: «لقد بلغ الآن مبلغ الرجال، وصار له من العمر 20 عامًا، وأصبح شابًا معتدًا بنفسه، فتى بدويًا خشنًا، مليئًا بالنار والروح، جسورًا، مقدامًا، لا يهاب القتال، عملاقًا، يزيد على العرب العاديين بطول القامة، عريض المنكبين، يوحي مظهره بالهيبة والقوة، كانت له عينان بنيتان ثابتتا النظر، ووجه مبتسم، ولكن عندما كان يستفز فإن عينيه كانتا تقدحان شررًا».
ووصفه في طور الرجولة قائلاً: «أصبح ابن سعود الآن في عام 1917 وفي السابعة والثلاثين من عمره في ريعان رجولته، عملاقًا عظيمًا ذا رأس وسيم استقر بثبات واتزان بين كتفيه العريضتين. كان يتمتع بالوجاهة التلقائية في الأسلوب لشخص اعتاد أن يأمر فيطاع، كانت عيناه البنيتان مملوءتين بالضوء على الرغم من أنهما غالبًا كانتا تخفيان أفكاره، إلا أنهما كانتا تعكسان حالاته».
ويكشف آرمسترونج جوانب متعددة من بطولة الملك عبدالعزيز فيقول: «كان سخي اليد، كبير القلب يتمتع بصبر لاحدود له. وكان يعلم طريقة التعامل مع رجال القبائل، كيف يشبع كبرياءهم ويتجاهل نقائصهم، كان يتمتع بالخصال التي يعجب بها العرب، وكان كريمًا سخيًا ومقاتلاً شجاعًا، حاذقًا، ويتمتع بالضحك والتفاخر، وفوق ذلك كان يتمتع بالشباب والإيمان، ويثق بنفسه وشعبه، وبأنه سيستطيع أن يجعل شعبه عظيمًا مرة ثانية، كان بوسعه أن يلهم رجاله أحلامه وتطلعاته، كان يغزو لا لكي يدمر ولكن لكي يحكم، وكلما تقدم لم يكن ينهب بل يزيد في العمران، ويرسخ ما أخذه بوعود الرخاء والازدهار».
حضور منقطع النظير
للقادة صفات متعددة، فكيف كنت ترى الملك عبدالعزيز على المستوى الشخصي؟
كان الملك عبدالعزيز قوي الذاكرة، فهو لا ينسى شخصًا، ولا ينسى قولاً مهما طال عليه الزمن، وهو مع سرعة حديثه محدث بارع، مرتب الأفكار، حاضر البديهة سريع الخاطر، وكان يمتاز بالبساطة، وتكاد لا تفرق بينه وبين حاشيته أو اتباعه، نظرًا لتواضعه الجم، وكنت ألاحظ أنه قليل الطعام مقارنة بحجم جسمه الكبير.
ماء بئر الجعرانة
في أثناء عملك مع الملك عبدالعزيز ما أشهر عاداته التي لاحظتها عليه؟
لاحظت أن الملك عبدالعزيز كان يعتاد شرابًا معينًا دون غيره، فسألت أحد حاشيته عن هذا الشراب فأخبرني بأنه حليب النياق وماء بئر «الجعرانة» على حد قوله، حيث كان يحمل إليه ماؤه يوميًا حينما يكون في مكة أو بالقرب منها، وحين وجوده بالرياض، يكون ماء الجعرانة من هدايا خاصته إليه معبأ في ثلاجات. ولاحظت، أيضًا، أن الملك عبدالعزيز كان يكثر من شُرب القهوة العربية، وكان يسترعي انتباهه الضيوف الجدد، وكان يأمر السقاة بتقديم القهوة إليهم.