عبق من الخليج
الأسواق الشعبية تحكي تاريخ عُمان
تراث معماري وفكري.. ووصف للحياة الاقتصادية والتجارية.
مسقط: طلعت المغربي
§ التمور والأسماك والفواكه الجرومية والصندل والعاج والسيوف أشهر بضائعها
§ الأسواق مراكز لتبادل السلع والأفكار
§ نزوى والمضيبي وصحار والخابورة وهرمز أبرز الأسواق العمانية القديمة
§ تراث معماري وفكري زاخر بكثير من الأنماط والأعراف
تشكل الأسواق التقليدية القديمة مخزونًا تاريخيًا واجتماعيًا وفكريًا، يرصد التحولات المهمة التي شهدتها عمان، بوصفها أماكن لبيع مختلف السلع والبضائع وشرائها من كل بلاد العالم، وقد رصد كثير من الكتّاب والمؤرخين، أمثال: ابن بطوطة، وابن الفقيه، وابن حوقل، وولستيد، تلك الأسواق، وقدموا وصفًا دقيقًا لها.
أسواق وأنواع
ويمكن تقسيم الأسواق العمانية التقليدية إلى عدة أنواع:
أسواق موسمية «هبطة العيد»
وهي متصلة بمناسبات دينية معينة مثل عيدي الفطر والأضحى. وهذه الأسواق على غرار أسواق بعض المدن، كالخابورة والسويق التي يطلق عليها «سوق سابع». وسمي بسوق سابع لأنه عادة ما يقام في اليوم السابع والعشرين من الشهر الذي يسبق عيدي الفطر والأضحى. وفي بعض المناطق تسمى «الحلقة»، كما هو الحال في فنجاء. وهي عادة ما تكون ساحات فضاء بعيدة عن التجمعات السكنية، وغالبًا ما تكون أمام الأسواق اليومية الدائمة، كنزوى والسيب والخابورة وغيرها، وتستقطب هذه الأسواق أعدادًا كبيرة من سكان المنطقة أو من مناطق أخرى مجاورة، وتتم عمليات البيع والشراء والمساومة على السلع والمنتجات من قبل رواد السوق والبائعين، الذين يأتون لشراء الأضاحي من المواشي والأغنام التي يتم التضحية بها في العيد، بالإضافة إلى المواد والمستلزمات الأخرى من حلوى وملابس وبخور وعطور وغير ذلك، وقد كانت هذه الأسواق تلعب دورًا وظيفيًا حيويًا في عمليات تبادل السلع والمنتجات المحلية وغير المحلية.
أسواق موسمية
وهي متصلة بأيام معينة من الشهر مثل «المضيبي»، أو الأسبوع مثل «سناو وجعلان»، أو في مناسبات موسمية خاصة بمحصول زراعي، أو سلعة معينة، وهي عادة ما تسمى «المناداة»، مثل مناداة الرمان في هضبة السيق بالجبل الأخضر. ومنها ما يختص بالمناداة على المواشي، والتي نجدها، تقريبًا، في كل المناطق، وفي فنجا تقام سوق بعد الهبطة، أو الحلقة، بفترة يطلق عليها «سوق العيايير»، وهي مختصة بالمناداة على التمور والأدوات القديمة. وقد كانت عمليات البيع والشراء في هذه الأسواق الموسمية تتم في ساحات مكشوفة محددة في الهواء الطلق «الأسواق المفتوحة»، وغالبًا ما توجد بالقرب من بناء السوق الدائم التي تعمل يوميًا طوال الأسبوع، في حين أن ساحات الأسواق المكشوفة تباشر عملها كل يوم خميس وجمعة «سوق سناو»، حيث تمتلئ هذه الأسواق بالباعة والمشترين والعملاء، ويأتي الناس من المنطقة الموجودة بها السوق والمناطق المجاورة لها، حيث يبيعون فائضهم من المنتجات الزراعية والحيوانية.. وما إلى ذلك من منتجات محلية. ونجد النساء، أيضًا، لهن مشاركة فاعلة في نشاط السوق، خصوصًا فيما يتعلق ببيع بعض الحلي الفضية القديمة وإصلاحها، والأدوات المنزلية للتجار والصاغة.
الأسواق الدائمة أو اليومية
وتلعب دورًا كبيرًا في المراكز الحضارية، كسوق مطرح ونزوى، وهي إما أن تكون أسواقًا يومية مكشوفة، تزود السكان المحليين والقاطنين باحتياجاتهم اليومية، أو أسواقًا مبنية تفتح أبوابها في الفترة المسائية من بعد الظهر، وذلك بعد أن ينتهي من يعملون بها من أعمالهم الزراعية أو الحرفية، فيكون لديهم بعد ذلك الوقت الكافي لمزاولة التجارة.
التكوين المعماري
لقد ارتبطت الأسواق القديمة ذات الوحدات المعمارية المستقلة بمناطق التجمعات السكنية الفعلية، وارتبطت أهميتها بأهمية هذه التمركزات السكانية ووظيفتها في النظام الاقليمي، لذلك امتدت بامتداد الطرق الرئيسة والمواني، وكانت همزة وصل بين البيئات المختلفة وتلك التجمعات السكنية، ومن هنا قامت الأسواق العمانية، بالإضافة إلى وظيفتها التجارية المهمة، بوظيفة أخرى وهي أنها كانت تلعب دورًا مهمًا في التبادل الاجتماعي، وتبادل الأخبار بين التجمعات السكانية المختلفة.
واختلفت التكوينات المعمارية للأسواق العمانية، وخدمت أغراضًا تجارية واقتصادية بحتة، ويمكن تقسيم منشآت الأسواق في عمان إلى ما يلي:
• أسواق مبنية كثيفة، تتكون من شبكة من المحلات المسقوفة في وسط المدينة القديمة، وتتصل بالأحياء السكنية وقريبة من المسجد الجامع، وذات وحدات معمارية مستقلة مخصصة للبيع. وتصنف الأسواق وترتب على حسب نوعية السلع والمنتجات المعروضة للبيع، بحيث تكون السلع المتشابهة ومن النوع نفسه قريبة من بعضها ومتلاصقة، فمثلاً المواد الغذائية منفصلة عن الأقمشة والمنسوجات، وكذلك فإن الورش الخاصة بالحرف المختلفة تكون منعزلة عن تلك المحلات تمامًا.
والسوق هي الثقل الاقتصادي للمدينة، وهذا النمط التقليدي للأسواق شاع في معظم المراكز الحضرية في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي، كما هو الحال في دمشق. ومن الأمثلة الجيدة في عمان «سوق مطرح»، وبعض المدن الساحلية الأخرى، ويمكن أن نضيف «سوق عبري» إليها، بوصفها تضم بعضًا من سماتها المعمارية والتكوينية.
وهناك سوق أسبوعية خاصة بتبادل السلع بين النساء والمتعاملين معهن، وهي سوق الأربعاء في إبراء وفي عبري، وهي سوق مخصصة للنساء، تجتمع فيها النسوة لبيع كل ما يخص المرأة العمانية وشرائه، من أدوات الزينة والعطور والكماليات. كما تتيح السوق الفرصة للقاءات النساء ونقاشهن في كل أمورهن، وما يختص بقضايا المرأة العمانية. وهي سوق نساء تجتذب السيدات من جميع أنحاء المنطقة وغيرها، للتسوق في الملابس والبخور والعطور.. وغير ذلك.
• أما النمط الآخر لمنشأة الأسواق في عمان، فهو نمط مختلف، ويتميز بأن له بناء قائمًا بذاته يشغل حيزًا مستقلاً، وله أسوار وبوابات يتم غلقها في حالة توقف العمل في السوق، وغالبًا ما يكون بعيدًا عن المنطقة السكنية وقريبًا من الحصن والمسجد الجامع، ويأخذ الشكل المربع أو المستطيل، وعلى طول الجدار من الداخل تمتد المحلات التي تمارس فيها عمليات البيع والشراء، كمحلات الأقمشة، والحبوب، والبهارات، والمواد الغذائية، والمنتجات الزراعية والحرفية المحلية، وفي الحالة الأخيرة فإن الورش الخاصة بأصحاب الحرف والمهن، من حدادين وصاغة وحائكين ونساجين، تكون بمعزل عن المحلات الأخرى، فهي لا تقع داخل السوق مباشرة، ولكن إما في مناطق مستقلة خارج السوق، أو في أفنية المساكن، أو ملاصقة لبعض البيوت من الخارج، مثل: الصاغة، والحدادين، وصناع الحبال، والنساجين، والخزافين، والدباغين.
وتقوم هذه المحلات على مصاطب مرتفعة عن سطح الأرض. وقد كان الغرض الأساسي من عمل هذه المصاطب أمام المحلات توفير عنصر الارتفاع بها عن مستوى سطح الأرض، ما يشكل حاجزًا معماريًا يحول دون وصول المياه والأوساخ، ويمنع من دخولها إلى المحلات. كما كانت تتخذ هذه المصاطب، أيضًا، لعمليات البيع وعرض السلع والمنتجات على حد سواء، كما في أسواق: الحمراء، والسليف، وعبري، ومنح.. وغيرها.
وكان بناء هذه الأسواق، في الغالب، مسقوفًا بأسقف من سعف وجذوع النخيل، ومغطاة بالحصر والطين، كما اشتملت بعض الأسواق على أقواس معقودة تتقدم المحلات، كما هي الحال في «سوق المضيرب». وتتم في ساحة السوق المكشوفة التي تظلل أحيانًا بسعف النخيل عملية المناداة على المواشي والمعز والأغنام والأسماك، وأيضًا المنتجات الزراعية، ويفترش بعض الباعة سلعهم على الأرض.
هذه هي أهم منشآت الأسواق في عمان، ويبدو أنها تحولت في فترات لاحقة من أسواق موسمية مكشوفة واستراحات للقوافل إلى أسواق مبنية تحيط بها الأسرار والأبواب.
الرحالة والأسواق
أشار الجغرافيون والرحالة العرب والأوروبيون إلى عمان في مؤلفاتهم، وركزوا على أهميتها البحرية والتجارية، وعلاقاتها بالصين والهند وسواحل إفريقيا الشرقية، كما ذكروا منتجاتها الزراعية، وأشجارها، وثمارها، وما كان يتداول فيها من سلع تجارية مختلفة.
ويقدم «ولستد» الذي زار عُمان في القرن التاسع عشر إلينا وصفًا رائعًا لأسواق عمان، فمن بين هذه الأسواق يصف سوق مطرح عند زيارته لها، حيث قال:
«.. في مطرح تلوح بيدك إلى أصدقائك وتتحاور مع الغرباء، مع مزاح الصيادين في سوق السمك المفتوح، هنا التفت لأتفحص بإمعان الجزء الكامل المطل على شاطئ البحر.. استطلعت سوق السمك المغطى مع سمك الحليب الذهبي المفضض الطازج المتلألئ في ضوء الصباح الباكر كالسردين والكنعد والتونة وغيرها..
وفي سوق الخضار المغطى حيث فواكه الأرض التي تقلب وتفحص من الجمهور ذي اللهجات المختلفة.. كل شيء مغلق يوم الجمعة، ولكن وجدت بائعي الفودكه في سوق مطرح فاتحين محلاتهم، كما هو الحال مع صائغي الذهب والمكتبات وبائعي السمك. تستطيع أن تدخل سوق مطرح، الذي هو واحد من التجارب الممتعة في عمان من خلال شارع مطرح الكبير.. أو من الكورنيش عبر سوق الملابس».
ومن الأسواق، أيضًا، التي يذكرها «ولستد» سوق إبراء، حيث كتب ولستد هذه المشاهد عام 1835 ويقدم وصفًا ممتعا لمكونات سوقها فيقول:
• «أقيم السوق اليومي لبيع الحبوب والفواكه والخضراوات هنا، حيث البدو وسكان القرى المجاورة لجؤؤا إليه بأعداد كبيرة وضخمة، والأكشاك التي يقف عليها البائعون لبيع بضاعتهم في أثناء ساعات العمل، صغيرة ومربعة البناء، محاطة بجدار منخفض ومفتوحة من الأمام ذات طابق قائم حوالي قدمين عن مستوى الشارع».
كما أشار ولستد إلى سوق المضيرب إشارة عابرة عند حديثه عن المجلس الذي يجتمع فيه الناس فيقول:
- «.. يمثل المجلس اجتماعيًا نصف البيت لنصف المسافة بين المنزل الخاص والسوق الكبير.. والغداء وقبل صلاة الظهر أو قبل الذهاب إلى السوق في المساء.. »، ونفهم من خلال سياق كلام ولستد أنه رأى سوق المضيرب، ولكنه لم يتحدث عنها بشيء من التفصيل.
أما المضيبي فيذكر ولستد سوقها بشكل مختصر، حيث قال: «...مع سوق مستطيل كبير جدًا.. ».
ويصف ولستد سوق سناو وصفًا جميلاً فيقول:
«كانت هناك مدينة حديثة, مع مسجد جديد, وسوق عظيم بني حديثًا في شكل مستطيل، مع محلات حول نطاقها وسوق للخضار والفواكه مغطى في المركز.. وصغار الإبل تنتظر المشتري، أرجلها مربوطة لمنعها من الفرار.. أفضل وقت لزيارة سوق سناو هو في الصباح الباكر.. ».
ويتطرق ولستد إلى وصف سوق إزكي عند حديثه عن المنطقة فيذكر:
«.. يتكون سوق إزكي التقليدي من أشكال مكعبة أكثر منها محلات.. في الشوارع الضيقة من السوق التي يتعذر على الجهات المعادية تفسيرها وفهمها عمومًا، وجدت زيت الطبخ والحلوى ولعب بلاستيكية وصحونًا صغيرة ومجارف معدنية دون مقابض، وأكياس تسوق وتوابل وعلف حيوانات.. ومطاعم على جانبي الطريق.. ولكن سوق إزكي داخلي ضيق متقارب مثل رأس السلحفاة داخل صدفتها.. ».
ابن بطوطة
ومن بين الرحالة العرب الذين زاروا عمان في القرن الثامن الهجري الرحالة الشهير ابن بطوطة، فنجده يصف مدينة نزوى مشيرًا إلى سوقها:
«.. ووصلنا إلى قاعدة هذه البلاد وهي مدينة نزوى.. تحف بها البساتين والأنهار، ولها أسواق حسنة ومساجد معظمة نقيا.. ».
كما يصف ابن بطوطة قلهات ويذكر أسواقها: «.. ومدينة قلهات على الساحل، وهي حسنة الأسواق.. وهم أهل تجارة، ومعيشتهم مما يأتي إليهم في المحيط الهندي، وإذا وصل إليهم مركب فرحوا به أشد الفرح.. ».
في حين أنه يصف أسواق ظفار وما بها: «.. ومدينة ظفار في صحراء.. والسوق خارج المدينة بربض يعرف بالحوجاء، وهي من أقذر الأسواق وأشدها نتنًا وأكثرها ذبابًا، لكثرة ما يباع بها من الثمرات، وأكثر سمكها المعروف بالسردين، وأكثر باعتها الخدم، وهن يلبسن السواد.. وزرع أهلها الذرة، ولهم قمح يسمونه العلس.. والأرز يجلب إليهم من بلاد الهند.. ودراهم هذه المدينة من النحاس والقصدير، ولا تنفق في سواها، وهم أهل تجارة لا عيش لهم إلا منها.. ».
ويصف ابن بطوطة هرمز في أثناء رحلته: «.. ووصلنا إلى هرمز الجديدة، وهي جزيرة مدينتها تسمى جرون، وهي مدينة حسنة كبيرة لها أسواق حافلة، وهي مرسى الهند والسند، ومنها تحمل سلع الهند إلى العراقيين وفارس وخراسان.. طعامهم السمك والتمر المجلوب إليهم من البصرة وعمان.. ورأيت من العجائب عند باب الجامع، فيما بينه وبين السوق، رأس سمكة كأنه رابية.. ».
بالإضافة إلى ذلك، فهناك مجموعة لا بأس بها من الرحالة الذين زاروا عمان ووصفوها، فالمقدسي، مثلاً، يشير إلى صحار في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي فيقول:
«.. قصبة عمان.. ذو يسار وتجار وفواكه وخيرات.. وهي أيسر من زبيد وصنعاء واليمنيتين، بها أسواق عجيبة، وهي بلدة ظريفة ممتدة على البحر.. والجامع على البحر له منارة حسنة طويلة في آخر الأسواق.. ».
في حين أن ماركو بولو يصف هرمز في أواخر القرن الثالث عشر قائلاً:
«.. يأتيها التجار من الهند وسفنهم محملة بالأفاوية والحجارة الثمينة واللؤلؤ والأقمشة الحريرية والمذهبة والعاج، وغير ذلك من المتاجر، هذه كلها يبتاعها تجار هرمز الذين يحملونها بدورهم إلى أسواق الدنيا، إنها في الواقع مدينة عظيمة المتجر.. ».
ويورد بربوزا وصفًا لهرمز في مطلع القرن السادس عشر:
«.. وفي مينائها وأسواقها يتبادل الناس سلعًا من مختلف الأنواع والبلدان، كالأفاوية والتوابل.. وخشب الصندل والنيلة والشمع والحديد والسكر والأرز وجوز الهند والحجارة الكريمة والفخار والبخور والأقمشة.. والنحاس والزئبق وماء الورد وقماش البروكاد والحرير والملح والصمغ والخيول والتمور والكبريت والمسك.. وكل شيء في هرمز مرتفع الثمن، لأن المؤن تحمل إليها من خارجها.. ».
أما فارتما فيورد وصفًا آخر لهرمز عام 1503- 1904م: وفي المدينة ما لا يقل عن 400 تاجر ووكيل، يقيمون فيها بصفة دائمة، للاهتمام بالسلع المختلفة التي تنقل إليها، والتي تشمل الحرير واللؤلؤ والحجارة الكريمة والأفاويه، وما إلى ذلك.. ».