دسلدورف:
حورية الراين
.تعشق الفرح والاحتفال وتزيل المسافات بينها وبين من يزورها بسرعة
دسلدورف: أسامة أمين
§ حصلت على الجائزة الذهبية على مستوى ألمانيا في مسابقة «مدينتنا المزهرة»
§ عمر هذه المدينة أكثر من سبعة قرون
§ جاء اليابانيون، وعشقوا المدينة، حتى أصبحت تضم أكبر تجمع ياباني في جميع أنحاء أوروبا
§ الكل يعدها عاصمة الأناقة والجمال في أوروبا
نهير ينساب ماؤه برقة متناهية في منتصف «طريق الملك أو كونيجز آليه»، وبط وبجع يعوم على مهل، وأشجار الكستيناء ترتفع على الضفتين، وزهور ونباتات تشغل خمس مساحة المدينة، أهَّلتها لتحصل على الجائزة الذهبية على مستوى ألمانيا في مسابقة «مدينتنا المزهرة»، كما أنها مدينة الأضواء المتناغمة مع بعضها بعضًا. أما المتاجر الموزعة على جانبي نهير الدوسل، فهي تعرض أحدث ما وصلت إليه الموضة العالمية، والتي تشارك المدينة في رسم معالمها، لأن بعض المصممين المرموقين استقر بهم العيش هنا في دسلدورف.
لكن المدينة تقول إنها لا تستحق سمعتها الطيبة، إلا بسكانها وزوارها، الذين تراهم، خصوصًا في هذا الشارع العريق، وهم يرتدون هذه الموضة، وكأنهم عارضو أزياء، يسيرون طوال اليوم ليروا خطوط الموضة على غيرهم، وحتى يرى الآخرون ،أيضًا، ما يرتدونه.. كل ذلك يتم ضمن اتفاق ضمني، بأن ارتياد طريق كونيجز آليه، له طقوسه، وآدابه، لأن أي نشاز في الملبس أو المظهر، سيفسد على كل هؤلاء استمتاعهم بالجمال الشامل الذي يسود كل شيء.
مدينة تعانق الجميع
لكن دسلدورف على خصوصيتها، فإنها تقع ضمن حوض نهر الراين، ولذلك فإن سكان هذه المدينة يحملون جينات شعب الراينلاند، وهو شعب يعشق الفرح والاحتفال، يزيل المسافات بينه وبين من يزوره بسرعة، ولا يأبه لا بمستوى اجتماعي، ولا بمركز مالي، ولا بمنصب عالٍ، ولذلك فإن الزائر سيجد دومًا ما يتناسب مع إمكاناته، وما يتفق مع احتياجاته.
ففي مطار المدينة، الذي يبعد عشر دقائق فقط عن وسط المدينة، يمكن أن تجد سيارة ليموزين فاخرة تستقبلك من باب الطائرة، وتأخذك إلى قاعة راقية تجلس فيها دقائق قليلة، حتى يقوم قسم خدمة كبار الزوار بإنهاء الإجراءات، طبعًا، مقابل رسوم معينة، وعلى الجانب الآخر يمكنك أن تقوم بإنهاء الإجراءات بنفسك، أيضًا في فترة زمنية وجيزة، ثم تستقل القطار من أسفل المطار، ليصل بك إلى وسط المدينة بأجر رمزي.
يمكنك أن تشتري في طريق الكونيجز آليه حلة فاخرة بثلاثة آلاف يورو، كما يمكنك أن تشتري حلة أنيقة من متجر «الكاوف هوف» في الشارع نفسه بسعر لا يتجاوز 150 يورو، يمكنك تناول الغداء في فنادق خمسة نجوم، التي توفر حتى اللحم الحلال لنزلائها المسلمين، بسعر لا يقل عن 50 يورو للفرد، ويمكنك أن تذهب إلى المطعم اللبناني الموجود هناك أيضًا، وتتناول وجبة شهية للغاية في حدود 8 يورو.
دسلدورف بين الأمس..
عمر هذه المدينة أكثر من سبعة قرون، وتأسس مطار المدينة عام 1925، والذي أصبح ،حاليًا، من أكبر المطارات الألمانية، بعد أن استطاع اجتذاب عدد كبير جدًا من رحلات الشارتر رخيصة السعر، إلى جانب الرحلات العادية، التي تتيح الانتقال إلى الكثير من المدن الأوروبية خلال ساعة واحدة أو أقل، مثل بروكسل، وباريس، وأمستردام، ولكسمبورج، وبرلين، وميونيخ، وهامبورج.
وفي الحرب العالمية الثانية تعرض أكثر من 85٪ من مباني المدينة للدمار، وجرى هدم 40٪ من مصانعها، وحوالي 80٪ من متاجرها، ولقي أكثر من 6000 شخص من المدنيين وحدهم مصرعهم، بفعل الجوع، والبرد، والقصف.
وبعد وصول القوات البريطانية التي احتلت المدينة بعد انتهاء الحرب، أعلن الحاكم العسكري البريطاني في أغسطس 1946 اختيار مدينة دسلدورف عاصمة لولاية شمال الراين وستفاليا، وهي إحدى ولايات ألمانيا الست عشرة، ولكنّ البريطانيين لم يسلِّموا نص هذا القرار إلى الألمان إلا في عام 1986، ولم يتم التصديق عليه من سلطات المدينة إلا في عام 2003.
ويبدو أن سكان دسلدورف لا يأبهون بأن تكون مدينتهم عاصمة للولاية أو لا تكون، فهي مدينة العاشقين الحالمين الغارقين في الرومانسية، المدينة التي شهدت ميلاد هاينريش هاينه، آخر شعراء الرومانسية الألمان، في 13/12/1797، وهو صاحب أجمل قصيدة عن «حورية الراين»، التي تجلس فوق صخرة في نهر الراين، وتغني بصوت ساحر، وتمشط شعرها الذهبي الطويل، فتأخذ بألباب الصيادين الذين ينطلقون نحوها، ولا ينتبهون للصخرة، التي تحطم سفنهم ومراكبهم، وهم في روعة الصوت البديع، وجدائل الشعر الذهبي المتلألئ.
هاينه كتب عنها: «مدينة دسلدورف فائقة الحسن، وعندما يتذكرها المرء في الغربة، يشعر المرء بالحنين الكبير، لقد ولدت هناك، وأشعر بأنه يجب عليّ العودة حالاً إلى داري فيها».
..... واليوم
في دسلدورف تواصل عجيب بين الأمس واليوم، فالشاعر هاينه الذي ولد في «باريس الصغيرة» كما سماها بونابرت، ومات عام 1856، في باريس الفرنسية، ما زال حيًا بذكراه في كل ركن من المدينة، فهناك دومًا أثر أو معلم له لا يمحى، فجامعة المدينة تحمل اسمه، وهناك جائزة مرموقة باسمه بقيمة خمسين ألف يورو للشخصيات التي تدعم حقوق الإنسان وتفاهم الشعوب، ومعهد يعكف على دراسة أعماله، كما يعلو اسمه فوق واحد من أهم شوارع المدينة، ومحطة مترو أنفاق، وتمثاله يقف في ميدان البجع بالمدينة.
وفي المقابل هناك المباني التي ترتفع في الميناء الإعلامي «ميدينهافن»، للمعماري الأمريكي العبقري فرانك أوين جيري، الذي تنشر أعماله المعمارية من متاحف، وفنادق، ومبانٍ في شرق أوروبا وغربها، وفي الولايات المتحدة.
هناك أكاديمية الفنون التي تضم التراث، وقصورًا من القرون الماضية، بجوار مبانٍ حديثة مثل مسرح المدينة، ومتحف مقتنيات ولاية شمال الراين وستفاليا.
الراين الذي هو شريان الحياة في المدينة، ومصدر العشق والإلهام، كان منفصلاً عن المدينة بطريق للسيارات يسير بموازاة النهر، وتستخدمه نحو 55 ألف سيارة يوميًا، كان الزوار ينظرون إليه من على بُعدٍ بحسرة، عوادم السيارات تزكم الأنوف، وضوضاء المحركات تؤذي السمع، فقررت المدينة نقل حركة السيارات بالكامل إلى تحت الأرض، بنفق يسير أسفل المدينة، وتحول أسفلت الشارع، إلى خضرة وزهور، وامتلأت المنطقة بالمقاهي البديعة، ووقفت على شاطئ النهر سفن لعمل جولات بحرية، أو كمطاعم على سطح الماء، وهناك برج الراين بارتفاع 240 مترًا، فيه مطعم يدور بالكامل، وفي حالة صفاء السماء، يمكن للزائر رؤية مدينة كولونيا، وغيرها من المدن القريبة، ومدينة ملاهٍ عملاقة على النهر مباشرة.
دروس من المهاجرين اليابانيين هنا
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت هناك حاجة ماسة في اليابان إلى الماكينات الألمانية، التي تتركز في منطقة الرور، أي في محيط دسلدورف، كذلك أراد اليابانيون تسويق منتجاتهم الصناعية، ومرة أخرى ظهرت ميزة دسلدورف الواقعة في منتصف المسافة بين كبرى المدن في ألمانيا، وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورج، وفرنسا، فجاء اليابانيون، وعشقوا المدينة، حتى أصبحت تضم أكبر تجمع ياباني في جميع أنحاء أوروبا، لهم فيها 450 شركة يابانية، ووفروا بنية تحتية لهم: متاجر، ومطاعم، وأطباء، وبنوك، ومكتبات، وشركات شحن، وغرفة تجارة وصناعة، وقنصلية عامة، ومدرسة يابانية فيها أكثر من 700 طالب وطالبة، وفيها روضة أطفال.
لكنّ اليابانيين ليسوا مثل الجاليات التي تفكر في احتياجاتها فقط، ولا في كيفية الاستفادة من المجتمع الألماني ومؤسساته إلى أقصى درجة فحسب، بل يدركون أن الحياة أخذ وعطاء، وأن عليهم التفكير في احتياجات المجتمع الألماني، حتى يفكر الألمان، أيضًا، في احتياجات اليابانيين، فقامت الشركات اليابانية بتوفير فرص عمل لأكثر من 22 ألف شخص في دسلدورف، ويقدر حجم أعمال الشركات اليابانية في المدينة بعشرة مليارات يورو سنويًا، وينفق اليابانيون المقيمون هناك ما يفوق الخمسين مليون يورو سنويًا.
وقد أهدى اليابانيون لموطنهم الجديد في دسلدورف حديقة ضخمة تكلفت الملايين، مساحتها 5000 متر مربع، على الطراز الياباني، في وسطها «بيت الثقافة اليابانية»، وقاعة للأنشطة والدراسات، ومعبد بوذي، والقنصلية اليابانية، وفندق به مطعم على النمط الياباني.
وعلى الرغم مما يُعرَف به اليابانيون من الميل إلى التواضع، وعدم التباهي، والبعد عن حب الظهور، فإنهم يشكلون جزءًا رئيسًا من مكونات المدينة، وقد خرجوا عن صمتهم ليعلنوا في احتفال المدينة بمرور 700 عام على تأسيسها، عن تكوين «صندوق دراسات دسلدورف، اليابان»، الذي يخصص ريعه لجائزة سنوية تمنح للمتخصصين في الدراسات اليابانية، للسفر في منحة دراسية في اليابان، إضافة إلى إقامة الأسبوع الياباني سنويًا منذ عام 1983، يقصده ملايين الزوار، والذي شارك فيه القيصر الياباني بنفسه في عام 1993، وعلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية تُقام أمسية دسلدورف في العاصمة اليابانية طوكيو، وهناك أكثر من 20 دورة لغة يابانية في معاهد اللغة التي توفرها إدارة مدينة دسلدورف فيما يُعرف بالمدارس الشعبية العليا، وفي جامعة دسلدورف يُوجد قسم للدراسات اليابانية.