كون

رحلة المعراج

تأملات رقمية في السرعة والمسافة

هذه الرحلة لا يصلح معها وحدة قياس مسافة ولا سرعة، والأمر كله بيد الله.

د. عبدالله عبدالرحمن المسند
أستاذ المناخ المساعد بقسم الجغرافيا بجامعة القصيم

§ أسرع سرعة عرفها الإنسان سرعة الضوء وهي أسرع من لمح البصر!

§ عنقود الثريا المشهور يبعد عن الأرض 440 سنة ضوئية

§ المجرة الوحيدة المشاهدة بالعين المجردة تبعد عن نظامنا الشمسي حوالي 2.5 مليون سنة ضوئية

§ لو كانت رحلة المعراج بأقصى سرعة عرفها البشر لاستغرقت رحلة المعراج 440 سنة ضوئية!

 

حادثة الإسراء والمعراج منعطف كبير ومهم في سيرة المجتبى، صلى الله عليه وسلم، رحلة المعراج فريدة. رحلة جمعت أفضل البشر مع أفضل الملائكة، قصة معجزة وخارقة لنواميس الكون قاطبة ربطت الأرض بالسماء، والأحياء بالأموات، والقريب بالبعيد، والإنسان بالملائكة، والحاضر بالماضي، والحاضر بالمستقبل، بل ربطت بين الدنيا والآخرة. لم تحدث لأحد من قبله، صلى الله عليه وسلم، وفقًا للنقل وربما لن تحدث لأحد من بعده، بل ولم يزعم أو يتجاسر أحد من الدجالين أنه عُرج به كما عُرج بمحمد، عليه الصلاة والسلام.. حادثة فريدة غريبة في زمانها ومكانها وفصولها.

قصة المعراج بأي سرعة تمت؟ وأي مسافة قطعت؟ سؤالان محيران، فدعونا نتفكر، ونتأمل، ونتدبر جانبًا من جوانب القصة هي السرعة والمسافة, لنضرب مثالًا يجسد الفكرة: المسافة المستقيمة بين مكة المكرمة والقدس الشريف حوالي 1200 كم، ولنفترض جدلًا أنها فقط 1000 كم، سيقطعها الإنسان راجلًا في 200 ساعة متواصلة تقريبًا بسرعة 5 كم/ ساعة.. بينما تقطعها الدراجة الهوائية في 50 ساعة بسرعة 20 كم/ ساعة، وتقطعها السيارة في عشر ساعات فقط بسرعة 100 كم/ ساعة، ويقطعها القطار السريع في 3.3 ساعة بسرعة 300 كم/ ساعة، بينما الطائرة تقطعها في ساعة واحدة عندما تكون سرعتها 1000 كم/ ساعة، وطائرة الميراج، على سبيل المثال، تقطعها في 50 دقيقة بسرعة الصوت 1200 كم/ ساعة، وفي سرعة دخول مكوك الفضاء إلى الأرض «26000 كم/ ساعة» تُقطع المسافة بين مكة والقدس في دقيقتين فقط، وبأعلى سرعة اخترعها الإنسان هي سرعة سفينة الفضاء، وتبلغ «54400 كم/ ساعة» تستغرق الرحلة بين المدينتين فقط دقيقة واحدة.

وأخيرًا، لندع السرعة التقليدية ونحسب وفقًا لأسرع سرعة عرفها الإنسان إنها سرعة الضوء Lightspeed وتعادل 1079252848 كم/ ساعة، وتقطع المسافة بين المدينتين في 0.0000006 جزء من الثانية، أي أسرع من لمح البصر، فسبحان الذي بيده ملكوت السموات والأرض. منها ندرك ماهية سرعة الضوء، فدعونا نستخدم تلك السرعة الرهيبة، والتي «لو» استخدمها الإنسان جدلًا للسفر من مكة إلى نيويورك والمسافة بينهما «10000 كم» بسرعة الضوء لقطعها فقط في 0.000006 جزء من الثانية أي أسرع من لمح البصر، بينما لو استخدمت السرعة نفسها للسفر إلى القمر، ومعدل بعده عن الأرض حوالي 381706 كم لقطعت المسافة في 0.0002 أي في ثانيتين تقريبًا.

ولو سافر الإنسان بسرعة الضوء إلى الشمس التي تبعد عن الأرض بمتوسط 149600000 كم، لاستغرقت الرحلة 0.08 أي ثماني دقائق فقط، بينما الرحلة بين كوكب الأرض وأبعد كوكب في المجموعة الشمسية بلوتو «5900000000 كم» على السرعة نفسها تستغرق ثلاث ساعات و ثماني وعشرين دقيقة. فلك أن تتخيل تلك المسافة البينية الهائلة بين كوكبي الأرض وبلوتو لدرجة أن السرعة التي ستقلك من مكة إلى نيويورك «سرعة الضوء» تستغرق معها لمح البصر، بينما بين الكوكبين ثلاث ساعات وثمان وعشرون دقيقة.

ولك أن تتخيل ضعفنا وحجمنا، نحن سكان الأرض، فلو سافر الإنسان بسرعة سفينة الفضاء، كما أسلفنا وتبلغ «54400 كم/ ساعة»، لاستغرقت الرحلة بين الكوكبين 65074 ساعة أي 2711 يومًا، أي سبع سنين ونصف السنة فقط للوصول إلى كوكب بلوتو!! دعونا نسافر خارج النظام الشمسي إلى أقرب نجم إلينا، وهو نجم ألفا قنطورسAlpha Centauri، حيث يبعد حوالي 4.24 سنة ضوئية، ونلاحظ أننا استخدمنا السنة الضوئية كوحدة قياس بدلًا من الكيلو متر، وذلك لصعوبة استخدام الوحدة التقليدية لقياس المسافات بين النجوم، وذلك لبعد المسافات بيننا وبين النجوم. وعلى سبيل المثال إذا أردنا أن نعبّرعن المسافة بيننا وبين نجم ألفا قنطورس بالكيلو متر، فإن المسافة تعادل 40110400000000000000 كم أي أكثر من 40 تريليون كم «أي 40 مليون مليون مليون كم!!».
ونجم ألفا قنطورس مغمور وغير مشهور وغير مرئي بالعين المجردة، لأنه من القدر الحادي عشر، لذا لنقيس المسافة بيننا وبين نجم لامع مشهور نجم الشعرى اليمانية Sirius ‭}‬وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى‭{‬، حيث تصل المسافة بيننا وبينه إلى 8.6 سنة ضوئية، بمعنى آخر نحتاج إلى السفر إلى هذا النجم بسرعة الضوء الفائقة 8.6 سنة، لنصل إلى نجم قريب منا بعده بالكيلو متر 81356000000000000000 كم أي حوالي 81 تريليون كم. جدلًا لو سافر الإنسان لهذا النجم بسرعة المكوك الفضائي لاحتاج إلى 102432514102 سنة أي 102 بليون سنة لبلوغ الشعرى اليمانية!! فأي مسافة هذه؟ وأي بعد هذا؟ وأي نظام يحيطنا؟ وأي سماء تظلنا؟ فسبحان ‭}‬بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ‭{‬ والله أكبر.
لنترك نجم الشعرى اليمانية، لأنه نجم قريب! وسنضرب مثلًا بعنقود الثريا المشهور Pleiades، حيث يبعد عن الأرض 440 سنة ضوئية، والكل شاهد نجم الثريا وهو معلق بالسماء وزينة، ولكن ليس كلنا يدرك أن ما نشاهده من الضوء فيه عمره 440 سنة أي شع قبل 440 سنة، واستمر مسافرًا بسرعة الضوء إلى الآفاق حتى وصل إلى أبصارنا ليقطع مسافة 4162400000000000000000 كم أي 4162 تريليون كم.
لنقفز وندع نجوم مجرتنا مجرة التبانة Milky way «وهي بالملايين»، ونرى من أقرب المجرات لنا وهي مجرة المرأة المسلسلة Andromeda Galaxy المجرة الوحيدة المشاهدة بالعين المجردة، وتبعد عن نظامنا الشمسي حوالي 2.5 مليون سنة ضوئية، بعبارة أخرى أنت تشاهد حدثًا في الماضي البعيد، حدث قبل 2.5 مليون سنة، وسار بسرعة الضوء ليقطع مسافة قدرها 23650000000000000000000000 كم أي 23 كدريليون كم «أي مليار مليون مليار كم».
وهذه المسافة التي يطيش العقل بها لا تمثل إلا جارة قريبة لمجرتنا، فكيف إذا تحدثنا عن مجرات تبعد عنا بليون سنة ضوئية كما اكتشفها مرصد The Gemini South Telescope في شيلي، حيث يستغرق الضوء مسافرًا من تلك المجرة حتى يصل إلينا بليون سنة ليقطع مسافة 9460000000000000000000000000 كم أي ألف كدريليون كم «أي ألف مليار مليون مليار كم» سبحانه ‭}‬وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ‭{‬.
هذه الأبعاد الفلكية لا تمثّل إلا جانبًا من المسافات البينية بيننا وبين المجرات التي تعج بها السماء الدنيا، حيث يقدر علماء الفلك عددها حوالي 100 بليون مجرة تسبح في بحر «السماء الدنيا» قال تعالى: ‭}‬إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ‭{‬ هذه السماء الدنيا فكيف بالسماء الثانية وما فوقها، هذا جانب، ومن جانب آخر السماء تنتفخ وتتسع منذ خلقت، قال تعالى: ‭}‬وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ‭{‬.
ومزيدًا في الإيضاح لمن ضاقت به الأرقام والأحجام والمسافات فعجز أن يتصورها حتى أن يتخيلها، لنفترض أن المسافة بين كوكب الأرض والقمر «381706 كم» تعادل «جدلًا» المسافة بين عينيك اليمنى واليسرى «10 سم»، فإن المسافة بيننا وبين الشمس ستصبح 39م، والمسافة بيننا وبين كوكب بلوتو 1.5كم، وبيننا وبين أقرب نجم إلينا 10508192169

كم، فما بالك بما هو أبعد من ذلك؟ وعود على بدء قصة المعراج العجيبة بأي سرعة حدثت؟ تدبر معي الإعجاز الإلهي في ضوء ما سلف، فلو كانت رحلة المعراج بأقصى سرعة عرفها البشر، وهي سرعة الضوء، لاستغرقت رحلة المعراج 440 سنة لبلوغ نجم الثريا فقط! فإن أرادو زيارة مجرة المرأة المسلسلة لاستغرقت الرحلة 2.5 مليون سنة ليبلغوها!! فكيف إذا سافروا إلى أبعد ما يبصرون عبر التلسكوبات من مجرات بعيدة! لاحتاج الأمر إلى بليون سنة! وكيف إذا سافروا إلى ما لا يبصرون! والعلم والعلماء لا يعلمون حدود السماء الدنيا وأطرافها، فضلًا عن غيرها، وبالتالي لا يعلمون عن بعد السماء الثانية كيف هو؟.. فإذا العلماء وقفوا حائرين مما أبصروه في آفاقهم الدنيا، فكيف الحال فيما لم يبصروه في السماء الثانية وما فوقها.. أي بُعد نتحدث عنه؟ وأي سنين يحتاج إليها الضوء ليصل إلينا؟

السؤال الكبير الذي يكمن فيه التفكر والتدبر والتأمل في خلق الله، عز وجل، بأي سرعة، صلى الله عليه وسلم، عُرج به؟ حتى تجاوز السماء الدنيا بأقمارها، وكواكبها، ونجومها، ومجراتها، وسدمها، وما نعلم وما لا نعلم من خلق الله فيها! بأي سرعة مذهلة معجزة اختصرت بلايين السنين في لاحظات كلمح البصر وإذا به، صلى الله عليه وسلم، عند أبيه آدم، عليه السلام، في السماء الدنيا! وبلمح البصر وإذا المصطفى في السماء الثانية عند أخيه عيسى ويحيى، عليهم السلام، ولحظات ليقطع السماء الثانية إلى الثالثة عند أخيه يوسف، عليه السلام! وهكذا حتى وصل إلى السماء السابعة عند أبيه إبراهيم، عليه السلام.
الله أكبر.. وصل الحبيب، عليه الصلاة والسلام، إلى نقطة كونية لم يبلغها بشر من قبله، وسار بسرعات وقطع مسافات لا تستوعبها العقول البشرية ولا حتى الآلية، فلا يصلح معها وحدة قياس مسافة ولا سرعة، والأمر كله بيد الله.. الله أكبر بأي سرعة عُرج بحبيبنا، صلى الله عليه وسلم؟ فلا سرعة الضوء تجدي، ولا سرعة تباعد المجرات عن بعضها يغني، ولكنها سرعة من يقول للشيء كن فيكون، إنها سرعة من يدبر الأمر في السموات والأرض، إنها سرعة تتوقف كل النواميس الطبيعية أمامها، وتتلاشى كل المعادلات الرياضية حيالها!.. بأي سرعة عُرج بحبيبنا، صلى الله عليه وسلم؟.. إنها سرعة: ‭}‬وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ‭{‬.. ثم لما بلغ المصطفى، صلى الله عليه وسلم، السماء السابعة، واطلع على البيت المعمور في السماء السابعة، أُذن له أن يرقى ويصعد إلى مكان قُصر عليه وحده دون جبريل ‭}‬لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا‭{‬.. خرج عن حدود الكون الدنيوي ونطاقه المحكوم بنواميس دنيوية، خرج إلى عالم آخر لم يطّلع عليه أحد من البشر قاطبة.. فإلى أين وصل؟ وإلى أي ارتفاع بلغ؟ وماذا حدث؟ تلك قصة قد خلت من قبلها قصص ولكن ليس لمثلها قصة.