حوار

د.عبدالله العثيمين:

في مهجتي لربوع الشام تحنان

أعددت كثيرًا مما كتبته عن أسفاري ورحلاتي للنشر، وآمل أن يتم نشرها في غضون عام.

الرياض: طارق أحمد شوقي
 

§ أول أسفاري خارج الوطن إلى البحرين على ظهر قارب صغير، أجرة راكبه ثلاثة ريالات

§ كنت أسافر على ظهر لوري أو فوق تانكي بنزين وايت

§ إنني أنظر إلى السياحة الداخلية نظرة متفائلة، وخصوصًا أن المرء يمكن أن يجمع فيها بين أمور متعددة

§ السياحة الثقافية على خريطة الثقافة السعودية مساحتها محدودة

 

د.عبدالله بن عثيمين، أمين عام جائزة الملك فيصل العالمية، قامة أدبية سامقة، وشاعر مميز، كتب العديد من القصائد عن ثقافة السفر والترحال، داخل الوطن وخارجه.. وفي حواره معنا يستشرف آفاقًا رحبة حول السياحة الثقافية في المملكة، ويستحضر ذكريات الدراسات العليا في جامعة أدنبرا.

تختلف خيارات المشاهير في السفر، فماذا تفضلون في السفر الطائرة، أم البحر، أم البر، ولماذا؟
للمشاهير، ولست منهم، أمزجة مختلفة بالنسبة إلى وسيلة السفر، وعندي أهم ما يحدّد الأمر، متعة رفاق السفر ومفاضلتهم، فكنت أسافر على ظهر لوري، أو فوق تانكي بنزين وايت، وذلك قبل سفلتة الطرق.
وعلى الرغم من عدم الراحة جسديًا، كان السفر ممتعًا للغاية، لأني كنت أسافر مع رفاق أعرفهم ويعرفونني.
ولا تسل عن غنائنا الهجيني، مع أننا لم نكن على هجن، وأسفاري عن طريق البحر قليلة جدًا، فكان أول أسفاري إلى خارج الوطن العزيز إلى البحرين على ظهر قارب صغير، أجرة راكبه ثلاثة ريالات. وكنت حينذاك في السنة الثالثة من المرحلة الإعدادية من الدراسة، وكنت برفقة عدد من الأصدقاء، حيث أمتعنا وأدهشنا في زيارتنا لهذا البلد العربي الجميل، وشاهدنا السينما أول مرة. وأذكر أننا كنا ننظر إلى الفيلم المعروض وكأن ما فيه حوادث واقعية.
وكان ما تلذذنا بتناوله ثمر جوز الهند، الذي رأيناه، أيضًا، أول مرة، ولذلك حملنا كميات منه بأكياس على ظهورنا، ونحن عائدون إلى الوطن.
ثم كان السفر الثاني بحرًا وأنا في السنة الأولى بجامعة الملك سعود، على ظهر سفينة من الإسكندرية إلى اللاذقية، زمن الوحدة المرحومة بين مصر وسوريا. وكان ذلك السفر، أيضًا، برفقة عدد من الأصدقاء الأصفياء.
ثم كانت لي سفرات بحرية قصيرة، عندما كنت أدرس دراسة عليا في جامعة أدنبرا، بين أسكتلندا وأيرلندا الشمالية. وكنت في تلك السفرات بمفردي، لكني كثيرًا ما تعرفت فيها على آخرين ظللت أتواصل معهم فترة من الزمن. على أني أفضل السفر جوًا، أو برًا، وتزيد متعتي فيه إذا كنت بصحبة رفاق أكنّ لهم، ويكنون لي، مودة وأخوة.

هل نال أحد الكتّاب الكبار جائزة الملك فيصل العالمية في أدب الرحلات؟
من حسن الحظ ومنتهى سعادتي أن نال جائزة الملك فيصل العالمية في أدب الرحلات أستاذي وأستاذ الجيل الذي أنتمي إليه الشيخ العلامة حمد الجاسر، رحمه الله رحمة واسعة. وهو الإنسان الذي يجله من عرفوه كل الإجلال، ويقدره التقدير من اطلعوا على ثمار جهوده في مختلف فروع المعرفة: لغة، وأدبًا، وتاريخًا، وأمكنة، وأنسابًا.

ما أبرز ما كتبته شعرًا ونثرًا عن ثقافة السفر والترحال؟
كتبت في ثقافة السفر والترحال نثرًا وشعرًا عن بعض أسفاري، وبخاصة تلك التي كانت إلى خارج الوطن، وكان أغلبها لحضور مؤتمرات وندوات علمية، أو إلقاء محاضرات عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، رحمه الله، وتاريخ المملكة العربية السعودية، أو المشاركة في أمسيات شعرية. ولقد أعددت كثيرًا مما كتبته عن تلك الأسفار للنشر، وآمل أن يتم نشرها في غضون عام.
ولقد حييت عددًا من الأقطار التي زرتها بقصائد. ومن ذلك أني حييت الأندلس عندما زرتها مع وفد من كلية الآداب في جامعة الملك سعود، عام 1403هـ، 1983م، بقصيدة جعلت عنوانها موطن الحب، ومن أبياتها:

مـــــــــوطن الحـــــــــب جنبي قلب

أرقـــــته شجـــــــون الهوجــــــاء

وابن زيدون يسكب الوجد شعرًا

ويغني ولاّدة ما تشــــــــــــــــــــــاء

نهل الوجد من لظى حــــــرّ نجد

وهجـــــــير ضرامه الدهــــــناء

ودع الصبر واستبان خــــــــــــــفيّ

عندما حان للوداع نـــــــــــــــداء

وارتمى بكرةً يهــــــــــــــــــيم بليلى

وأصـــــــــــــيلاً تشوقه أسمــــــاء

وابن حزم ينمق الحب طــــــــوقًا

تتباهى بحسنه الورقــــــــــــــــاء

جئت يا موطن الجمال فــــؤادي

مُبحر ساقه الهوى والرجـــــاء

ومعين ما أفاض ابن رشـــــــــــــــد

للنُهى فيه متعة وارتــــــــــــــــواء

وعيوني إلى محـــــــــــــــيّاك ولهى

وإلى ثغرك الجمـــــيل ظمـــــاء

ها هنا.. ها هنا ..وهل ثم مجد

لم تعطر جبينه الصحـــــــــراء

هزني الشـوق والحمى ذكريات

ببني أمتي لهن انتمـــــــــــــــــــاء

ذكريات. . عرائس من جمـــــال

صانها عن يد الزمان إبــــــــاء

وتراث من أصــــــــــــــــــالة تحـكي

مجده الأرض روعة والسمـــاء

يوقظ الفجر من شذاها عــــبير

وبأحضانها يذوب المســــــــــــاء

ها هنا وشّح الهـــــــــــــــوى فتثنّت

بأعاجيب فنها الحمــــــــــــــراء

وأنا المغرم الذي تاقه وجـــــــــــدًا

واحتسى الود حين تم اللقـــــاء

ما البلد الذي أعجبك من حيث ثقافة السياحة والتراث، وتفضل أن تزوره بين الحين والآخر؟
كثيرًا ما ردد الناس، وهم يتحدثون عن فوائد السفر، بيتا مشهورًا هو:

تفــــــرج هم واكتســــاب معيشــة

وعلـم وآداب وصحبــة مـــاجد

وقد يتحقق للمسافر كل هذه الأمور، وقد لا يتحقق له إلا بعضها، أو واحد منها. فإن تحققت كلها فأنعم وأكرم، وإن تحقق بعضها فأمر جيد، وإن لم يتحقق إلا أحدها فإن السفر لم يذهب سدى.
أما ماجنيته من السفر فكثير، منه في ريعان الشباب اكتسبت معرفة كثير من أمور الحياة لم أكن أعرفها من قبل، اجتماعيًا وثقافيًا، إضافة إلى التمتع بالمناظر الطبيعية الجميلة. وجنيت منه في مرحلة التحصيل العلمي الشيء الكثير المفيد، وذلك عندما كنت أدرس دراسة عليا في جامعة أدنبرا العتيقة. وكان المشرف على دراستي البروفيسور مونتجري وات، المستشرق المشهور الذي ألف أكثر من اثني عشر كتابًا عن الإسلام والحضارة الإسلامية. ومن هذه الكتب: «محمد في مكة، محمد في المدينة، محمد نبيًا ورجل دولة».
وجنيت من أسفاري، بعد حصولي على المؤهل العلمي الذي حصلت عليه، فوائد جمة، تبيانًا لتاريخ وطني العزيز، وإظهارًا لجوانب مما يتصف به أناس من أهله، ومعرفة بأحوال كثير من أولئك الذين تربطني بهم روابط علمية، أو اهتمامات فكرية، أو مشاركة بقضايا أمتنا، كبيرة وصغيرة.

ثقافة السفر في الشعر العربي قديمًا وحديثًا، كيف ترونها؟
السياحة الثقافية على خريطة الثقافة السعودية مساحتها، في نظري، محدودة، سواء تلك السياحة خارج الوطن أو داخله. وفي ظني أن السياحة الترفيهية، مهما كانت وسائل الترفيه، هي التي تحتل المساحة الكبرى في تلك الخريطة.

كيف تنظرون إلى أدب الرحلات في المملكة؟ ومَن أبرز كتابه؟
هناك رحّالة كثيرون، بعضهم من العرب، وبعضهم الآخر من غير العرب. ومن هؤلاء وأولئك من كتبوا كتابات مختلفة، جودة ودقة وإمتاعًا. ومن تلك الكتابات ما دونه رحالة معظمهم غربيون عن وطننا العزيز. وغايات أولئك الكتّاب مختلفة، فبعضها كانت غايات علمية، وبعضها كان الهدف منها، أساسًا، خدمة الدول الغربية، التي كانت تخطط لمد نفوذها على المنطقة العربية. على أن الباحث لا غني له عن تلك الكتابات، أيًا كانت نوايا كتّابها ومن وراءهم، وهو، بما حصل عليه من إدراك ومعرفة، قادر على فرزها الفرز الجيد. وإذا كانت الرحلات في الماضي هدفها استكشاف الأقطار وما عليها، فإن من بين أسباب انتشار ثقافة الارتحال تطور وسائل النقل، وازدياد يُسر الأسفار.

للسفر فوائد عديدة، ماذا جنيت من السفر؟ وهل أضاف إليك شيئًا؟
هناك كتابات كتبها سعوديون عن رحلاتهم، بعضها عن رحلاتهم داخل الوطن، وبعضها الآخر، وهو الأكثر، عن رحلات قاموا بها إلى أقطار خارج الوطن. وممن تحضرني أسماؤهم من كبار هؤلاء الشيخ عبدالله بن خميس، أطال الله عمره، الذي تمتعت بقراءة كتابه: «شهر في دمشق» عندما كنت في المرحلة الثانوية من الدراسة، ومنهم شيخي الجليل، علاّمة الجزيرة العربية، لغة، وأدبًا، وتاريخًا، وأمكنة، وأنسابًا، حمد الجاسر، رحمه الله، الذي مُنح، لعظمة ما كتبه في أدب الرحلات، جائزة الملك فيصل العالمية، كما أشير إليه سابقًا. ومن هؤلاء أستاذي د.عبدالعزيز الخويطر، الذي أعتز بتتلمذي عليه، وكوني أول من عمل في مكتبه سكرتيرًا بعد أن تولى شؤون جامعة الملك سعود، إثر عودته من بريطانيا حاملاً أول شهادة دكتوراه يحملها باحث من أبناء هذا الوطن.
على أن أكثر السعوديين إنتاجًا في أدب الرحلات، وبخاصة تلك التي عن أقطار خارج الوطن العربي، هو الشيخ محمد العبودي، أمد الله في عمره، ومتع الله المقدرين لجهوده بما خطته أنامله من إنتاج لطيف جميل في هذا المجال.

السياحة الثقافية أين هي على خريطة الثقافة السعودية؟
في طليعة البلدان التي أعجبتني، من حيث الثقافة السياحية، والتراث، إضافة إلى جمال الطبيعة، بلاد الشام، بمفهوم هذه الكلمة الواسع، ولذلك فإني أنتهز كل فرصة تتاح لي كي أزورها، لأنمي تلك الثقافة، وأنعم بذلك الجمال. ولذلك حييت دمشق، مثلاً، في إحدى زياراتي لسورية بقصيدة مطلعها:

في مهجتي لربوع الشام تحــــــــنان

صانت حميّاه أزمان وأزمـــــــــــــــــان

وأمطرته من التاريخ غاـــــــــــــــدية

فاشتد أصلاً وماست منه أغصـان

أتيت أحمله حــــــــــــــــــــرفًا تسطره

مشاعر وأحاسيس ووجـــــــــــــــــــدان

إن لم يرق لهُواة الشعر قافـــــــــــية

أو ندّ في سبكه لحـــــــــــــــــــن وأوزان

فللهوى في عــــــيون العاشقين رؤًى

هي البيان إذا ما عـــــــــــــــــــزّ تبـيان

وجئت يحملني عبر المدى قـــــــبس

معطر بالشذا الفـواح فـــــــــــــــــــــتّان

على جناحين ميمونين حفهمـــــــــــا

من مهبط الوحي والتنزيل إيمـــــان

ومــن عشيات نجد مستطاب صبا

رياه شيح وقيصوم وريحـــــــــــــــــــان

أتيت من وطني شوقًــا إلى وطــني

وأرض يعْرُب لي دور وأوطـــــــــــــــان

والأردن جزء من بلاد الشام عمومًا، وفيها من الآثار ما فيها، ومنها البتراء المشهورة تاريخيًا، والتي كان أحد أسمائها «سلع». وقد حييتها بقصيدة منها:

أتيت أحمل من نجد أصـــــــــــالتها

رفاقي الشيح والقيصــــوم والرطب

وطائف من صبا أذكت نســـــــائمه

غمـــامة بالشذا الفواح تنكســــــــــب

وروعة من مغان فـــــــــــــــوق تربتها

تدفق الحرف شعرًا وازدهى الأدب

وجئت أستنطق التاريخ في ســـــــلع

وكل مــا دونت بتراؤها عجـــــــــــــــب

وأجتلي في ث رى اليرموك ملحــــمة

كتائب النصر فيها سادة عــــــــــرب

باعوا لنصرة دين الله أنفســــــهم

وبالتيقن من تمكينه اعتصــــــــــــبوا

وابن الولــــــيد إذا مـــا كرّ مقتحمًا

صفوف قيصر فرّ الجحفل اللجب

أولئك القوم فخري..عزتي حسبي

نعم الفخار ونعم العز والحســــــــب

وجئت ألثم من عمــــان مبسمــــــها

إذ شاقني من رؤاها ثوبها القشــب

تلالها السبعة استولت على خـــلدي

فراح يتلو لساني بعض ما يجـــــــــب

انتشرت ثقافة الرحالة في العصر الحديث، وظهر رحالة عديدون، فإلى أي شيء تُرجعون ذلك؟
إنني أنظر إلى السياحة الداخلية نظرة متفائلة، وخصوصًا أن المرء يمكن أن يجمع فيها بين أمور متعددة. فمن الممكن أن يقوم بعمرة إلى البيت الحرام، ويزور تلك الرحاب المقدسة، كما يقوم بزيارة المسجد النبوي في المدينة، ويزور قبر خير خلق الله نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم. ومن الممكن أن يجد في سواحل وطننا العزيز، شرقًا وغربًا، أمكنة مريحة ممتعة، وأن يجد في متنزهات هذا الوطن أجواء لطيفة صيفًا. وفي مناطق مختلفة من وطننا آثار لها أهميتها، لكن عشاق الآثار من مواطنينا، في ظني، قليلون. وفي السياحة الداخلية فرصة لزيارة مراتع الصبا لمن يعيشون الآن خارج هذه المراتع. وزيارة الأقارب الزيارة التي تجمع الشمل، وتزيد من توطيد عرى المودة والقربى.
أما أنا فأقضي، عادة، إجازتي السنوية، وكل إجازة تتاح لي، في عنيزة، البلدة التي ولدت فيها، ونشأت بين ربوعها. ومن حسن حظي أنها جمعت إلى كونها بلدتي، مولدًا ونشأة، جمالاً وبهاء.

ألا تستحضر قصيدة معينة تشعرك بأجواء السفر والترحال، وتعيش معها في أجواء ما؟
أستحضر قصائد عديدة تشعر بأجواء السفر والترحال، القليل منها كتبته في أزمنة من عمري، والكثير كتبه آخرون، سواء أكان المقول باللغة العربية الفصحى أم باللغة العربية الدارجة غير المنضبطة مع قواعد إعراب هذه اللغة، شعبيًا أو نبطيًا، أو غير هذا وذاك. وكنت قد ألقيت قصيدة في مهرجان الجنادرية، أشرت فيها إلى كون الإبل رفيقة درب العربي منذ القدم، كما أشرت إلى تلك الأبيات بقولي:

وألمح صحرائي.. فألثم ثغــــــــرها

ويغمرني بالطهر جِيدٌ وحاجـــــــــــــــبُ

وينساب في سمعي هجيني فــــتية

بأكبادهم شوق إلى البيض لاهــــــــب ُ

على ضمر فحل الشرارات جدها

شماليل شابت من سراها القــوارب ُ

أرادوا بها هِيتًا فتاة دليلهـــــــــــــم

وليس لهم من دون هِيت مشــــــــــارب

وللترف منسوع الجديلة بســــــمة

يطيب لمرآها الســــــــــرى والمــــــتاعب

ولولا مراعاة زمن الرحلة، والمكان المخصص للإجابة عن الأسئلة، لتماديت في إيراد أبيات من تلك القصيدة، ولعل من المناسب الانتقال من جو السفر على ظهور الإبل، والجميع الآن على متن الخطوط الجوية العربية السعودية، إلى جو السفر المريح بين السماء والأرض, وللجمال سحره في أي مكان.