أماكن

 

قصيباء القصيم

بلاد عنترة تشد السياح إليها

تزخر بالقصور القديمة والعيون والغابات المتحجرة، وينتظرها مستقبل سياحي واعد.

 

استطلاع وتصوير: عبدالعزيز محمد العريفي
 

§ قديمة قدم التاريخ.. وكانت منازل قبيلة بني عبس

§ تتدفق فيها العيون وتنتج أفضل أنواع التمور

§ مخزونها التراثي قصور ومراقب وغابات متحجرة

§ الأشجار المتحجر ة فيها تعود إلى آلاف السنين

 

قصيباء اسم لقرية في منطقة القصيم، إرثها التاريخي قديم، تكوّن عبر سنين وأحداث متوالية، عندما تقترب منها تظهر رؤوس النخيل وهي تلوح في الأفق مرحبة بالداخلين إليها، وعندما تقترب منها وتشاهدها تستدعي إلى ذاكرتك صورًا متعددة مليئة بعبق التاريخ، صور للجمال، والشعر، والفروسية، ولم لا وقصيباء قديمة قدم التاريخ؟ فقد كانت منازل قبيلة بني عبس في الجاهلية وصدر الإسلام.. وبين جنباتها موروث تاريخي عظيم ما زال يرويه بفخر الأجداد للأبناء.

كم هو مذهل أن ترى على أرض الواقع شيئًا جميلاً ورائعًا دون تكلف عناء البحث عنه، وإنما هي ظروف العمل وأقدار الفضول الإيجابي ساقتك إليه، فقد كنت ضمن قافلة الإعلام السياحي التي جابت عدة مناطق في المملكة برعاية الهيئة العليا للسياحة، ومن حسن الحظ أن تكون بلاد القصيم نقطة البداية، وأول جوهرة من جواهر عقد طويل تستحق القصيم أن تكون واسطته وأكبر جماناته.
فعلى مدى خمسة أيام في ضيافة أهل القصيم الكرماء، تسنى لنا زيارة قرية قصيباء الواقعة في شمال منطقة القصيم، وتعد إحدى قرى منطقة الجواء الصحراوية، وتبعد عن مدينة بريدة بنحو 65 كيلومترًا على الطريق المؤدي إلى حائل. وقصيباء منخفض تتجمع في وسطه بحيرة كبيرة في أثناء موسم الأمطار، وتبدو حواف المنخفض كما لو كانت جبالاً تحيط بالقرية من جميع جهاتها.
وقديمًا كانت قصيباء تسمى «قو»، وهي كلمة تعني في اللغة المكان المنخفض، ولغزارة المياه وانتشار نباتات تشبه سيقانها سيقان القصب،أطلق قاطنوها عليها اسم قصيباء، أي ذات القصب، وطغى الاسم الجديد على الاسم القديم.
لقد استدعى المكان إلى ذاكرتي صورًا متعددة مليئة بعبق التاريخ، صور للجمال، والشعر، والفروسية، ولم لا وقصيباء قديمة قدم التاريخ؟ فقد كانت منازل قبيلة بني عبس في الجاهلية وصدر الإسلام، يقول عنترة بن شداد العبسي، وهو يصف إحدى المعارك:

كأن السرايا بين قو وقارة
عصائب طير ينتحين لمشرب

وهناك بقايا قصر حجري قديم جدًا فوق الحافة الغربية لقصيباء ناحية القوارة، والقوارة إحدى بلدان الجواء، يقال إنه قصر لعنترة بن شداد قاتل عليه وغلب.
ويقول امرؤ القيس:

سما لك شوق بعد ما كان أقصرا
وحلت سليمى بطن قو فعرعرا
ويقول طرفة بن العبد:
أتجـــزع أن عرفـــت ببطـن قــــــــــو
وصحـــــــــراء الأديهم رسم دار

وقد كان للعرب في قصيباء يوم معروف باسم يوم أواره، قال الأعشى:
أبناء قوم قتلوا بين القصيبة من أواره
وتتدفق العيون في قصيباء، وبعضها طبيعي وبعضها الآخر محفور ومنحوت في الأرض، مثل: عين عبس، وعين الثومة، وعين الصوال، وغيرها، فضلاً عن الآبار المشهورة، كبئر العنترية التي كان الحجاج يتزودون منها بالماء.
وحظ هذه المنطقة وإرثها التاريخي كبير، فقد تكون مخزونها التراثي عبر سنين وأحداث متوالية، حيث تزخر قصيباء والجواء، عمومًا، بعدد كبير من القصور، والمراقب، والعيون، والآبار، والغابات المتحجرة، وبساتين نخيل تنتج أفضل أنواع التمور، وهذا التنوع التراثي والطبيعي كان جديرًا بأن يضع هذه القرية الساحرة بجمالها في بؤرة الاهتمام والجذب السياحي، والغريب أن ذلك لم يحدث، وهو أمر يدفع بنا إلى طرح عدد من الأسئلة أراها في غاية الأهمية: لماذا أقصيت قصيباء عن مشاريع التنمية السياحية؟ ولماذا لم توضع في التخطيط السياحي؟ ولماذا غيبت عن عيون المستثمرين؟ ولماذا لم يلتفت أحد لكل هذا الإرث الكثيف والمتنوع حتى الآن؟ وبقيت هاجسًا يعيشه أهلها فقط، وهم يرون مناطق أقل أهمية حالفها الحظ واستحوذت على قلوب وجيوب المستثمرين؟! وهم بذلك يطمحون إلى أن تتبنى الدولة الكريمة قدح زناد الاستثمار برعاية تلك الأماكن التاريخية، وإبرازها بوصفها ثروة وطنية تستحق الزيارة، لتكون محطة جذب سياحي في المنطقة.
ولا نبالغ إن قلنا إن إرث المنطقة التاريخي قد تخطى حدود الوطنية إلى العالمية، خصوصًا عندما يتطرق الأمر إلى سيرة أشهر أبطال التاريخ العربي على الإطلاق وهو عنترة بن شداد العبسي، ومن شعراء صدر الإسلام قال الحطيئة:
نظرت على قوت ضحيا وعبرتي

لها وكيـــف الـــــــرأس شن وواشــــل إلى العير تحدى بين قو ضــارج
كما زال في الصبح الإشاء الحوامل
فأتبعتهــــم عينــي حتى تفرقــت
مع الليل عن ساق الفريد الحمـائل
فقد جاء في البيت الثاني ذكر قو وضارج، وهما قصيباء والشقة، وذكر في البيت الثالث ساق الفريد وهو ساق الجواء.
والصيد في قصيباء لا يكاد يتوقف طوال العام، وهذا من دلائل تعلق الأولين بهذه المنطقة. ففي الصيف تأتي طيور: القماري، والخواضير، والصفار، والرهو، والغرانيق، والدخل، تجذبها المياه والأجواء المعتدلة، وظلال النخيل، والأشجار الوارفة. وفي الشتاء تأتي طيور الماء، كالبط، ودجاج الماء، والسمقان، والحبارى، والقطا، والدرج، والكيروان، والسمان.. وغيرها.
وقصيباء من أهم المناطق الزراعية، إذ كانت في السابق تعد سلة القصيم الغذائية، وأكبر منتج للتمور، حيث كان يتوافد تجار التمور إلى سوقها الكبيرة من كل حدب وصوب، وخصوصًا من البلدان المجاورة، مثل: بريدة، وعنيزة، والأسياح، فضلاً عن أبناء البادية.
ومن طريف ما يذكر، أن الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، قد اشترى تمور أهالي قصيباء عندما كان بطريقه لحائل، ومن أشهر تمورها: الحلوة، والمكتومية، والكويرية، والسكرية، والبرحية، والرشودية، والشقراء، والفنخاء.. وغيرها.
ومن الأشياء اللافتة في قصيباء، كثرة الأشجار المتحجرة التي تعود إلى آلاف السنين، وتدعو إلى التأمل، بل إنها تعد جنة لعلماء الجيولوجيا. وقد نقلت منها عينات إلى متحف الملك عبدالعزيز بالرياض.
كما يلاحظ كثرة أطلال القصور التي يعود بعضها إلى مئات السنين، ومنها قصر عنترة بن شداد آنف الذكر، وقد روي أن عنترة بن شداد كان بدويًا ولا يأبه لسكنى القصور، بيد أن عشقه لابنة عمة عبلة جعله لا يراوح ذلك المكان، وصدف أن مر على قصر كان به حامية عسكرية، فتحايل على أفرادها لإخراجهم من القصر، وادعى أن ناقته قد كسرت ساقها في مكان قريب ناحية الغرب، وأنه يرغب في بيعها بثمن بخس، ففرحوا بذلك، وانطلقوا معه ناحية الناقة المزعومة، ولما أيقن أنهم قد ابتعدوا عن المدينة بما فيه الكفاية، مال عليهم بالسيف وقتلهم جميعًا، وأخذ مفاتيح القصر واستولى عليه، وقيل إنه بدأ يأخذ الجزية من الحجاج عند مرورهم من قصيباء نظير التزود من ماء بئره «العنترية»، وكان يقابل معشوقته عبلة قبالة صخرة بين مسكنه ومساكن قومه يقال لها «حصاة النصلة» في الجواء، ويقول عنترة في معلقته الشهيرة:

يا دار عبلة بالجواء تكلمي
وعمى صباحًا دار عبلة واسلمي

وتتوارث الأجيال القصص والحكايات: وهكذا ينقض عليهم عنترة البطل المغوار، بسيفه البتار، ويختلط صليل السيوف بصهيل الخيول، وما هي إلا لحظات وتبدأ الرؤوس بالتدحرج على الأرض، تدوسها سنابك العاديات، فتثير النقع المرتوي بالدم.. ويستمر الجد يروي قصته بحماسة يرفع يدًا ويخفض أخرى، وقد احمرت وجنته، وعلا صراخه، كأنه في ساحة الوغى، والأطفال يرقبونه وقد تسمرت أعينهم، وانفغرت أفواههم، ووجلت قلوبهم.. صورة من صور الماضي، تكررت في حقب طويلة من الماضي، تعكس مدى شهرة بطلنا وشاعرنا العظيم عنترة بن شداد الذي تجاوز صيته الأقطار، وسارت بسيرته الركبان.
وهناك قصر آخر استُضيف به الملك عبدالعزيز في أحد أيام مغازيه، وبداخله بئر في مكان يسمى «القليب»، وهو بركة عمقها متران، ومساحتها متر ونصف في مترين تقريبًا، وينزل إليها بدرج يقف على حافة الماء. وما زال القصر موجودًا حتى الآن، وقد بني من الطين، ويصل عرض حيطانه إلى المتر وأكثر، ويزيد عمره على مئتي عام، وقد بناه الشيخ راضي بن علي الحقيل.
كما أن هناك كثيرًا من القصور الأخرى على هذا النحو، وتكثر المراقب في قصيباء، ومنها ما هو أعلى الجبل، ومنها ما هو داخل القرية، وتراوح ارتفاعاتها بين 10 أمتار و15 مترًا، وبأقطار متفاوتة. وقد بنيت من الحجر والطين، وسقفت بخشب الأثل وجريد النخل، ولها أبواب من خشب الأثل الثقيل، وليس لها سلالم، ويُصعد إليها بحبل يتم رفعه للأعلى بعد صعود الحارس، وذلك تحاشيًا لصعود العدو. وهذه الأبراج ليس لها عمل سوى الحراسة ليلاً ونهارًا، وقال المستشرق الإنجليزي سانت جون فلبي، المعروف بعبدالله فلبي، في كتابة «بعثة إلى نجد»: التحقت بالملك عبدالعزيز في بلدة قصيباء، في الخامس والعشرين من سبتمبر عام 1336هـ، ووجدته طموحًا واثقًا من نفسه.
كما ذكر قصيباء الشاعر الأموي جرير بقوله:

عفــا قــــو وكان لنــا محـــلا
إلى جوي صلاصل من لبينا
ألا نــادِ الظغــــائن لو لوينــا
ولــولا من يراقبنـــا ارعوينــا
وفي عصرنا الحاضر أنشد الشاعر الكبير عبدالرحمن العشماوي:
وعبلة ترسم للحــــب وجهًا
بديع الملامح عــذب الحياء
تشاهد منه قصيباء روضًا
قشيبا يعطرهـــا بالحيـــــاء

ويزور قصيباء كثير من الوفود من شتى الجاليات، بدافع انجذاب صعب المقاومة، يجرفها الفضول إلى كل ما يمت لعنترة بن شداد العبسي وسيرته، والأساطير التي نسجت حوله، ولسان حالهم يندهش لذلك التهميش وشبه التعتيم الإعلامي على تلك الآثار القيمة، والتي من الممكن أن تلعب دورًا مميزًا في تنمية السياحة والاستثمار السياحي على غرار كثير من المواقع الأثرية التي حظيت باهتمام الدولة، وتبنتها الهيئة العليا للسياحة.