الكلمة.. رحلة

 

حينما أكون ميدانًا للتلصص 

فـــوزية البـــكر
أستاذ التربية، جامعة الملك سعود، الرياض

ربما يجب أن أبدأ مقالتي هذه بتأكيدأننافي الغالب لا نختلف, فالكثيرون ربما ينتابهم قلق السفر في كل مرة يعتزمون فيها الانطلاق لرحلة جديدة. فعلى الرغم من تكرار ما نفعل.. حيث نركض وراء الحجز, والفندق, والفيزا, وتنظيم جدول أعمالنا, سواء ما نحن مقدمون عليه, أو ما سنتركه وراءنا, إلا أننا نظل مدفوعين بهذا الأرق الخفي الذي يخترق لحظاتنا وأمزجتنا، ويضعنا في منطقة هذا القلق الغريب الذي لا ينفك يتخللنا مثل دبابيس متناثرة صغيرة، ودقيقة، وبسيطة ليست مؤلمة بدرجة كبيرة، ولكنها هناك لتنطلق متى حاولت أخذ قسط من الراحة قبل السفر، أو في حديثك إلى أمك، أو طفلك حول توقعات غيابك وحتميته!

على الرغم من أننا، أيضًا، نعرف كل التفاصيل التي علينا الاعتناء بها، إلا أنها تتراكم حتى آخر لحظة. فربما نحتاج إلى رخصة قيادة دولية، أو هي بطاقاتنا الشخصية التي تكاد تنفد، كما أن مثبت الشعر يبدو على نهاياته، وغطاء معجون الأسنان فُقد بطريقة مريبة والساعات تقترب وعليك أن تنسق هذه الشنطة الغليظة لتضمنها ما يحميك من البرد القارس، كما يجب ألا تفوتك البدلة المهنية التي تعطي الانطباع حول من تكون، وهي في الغالب تتحدث بالنيابة عنك وعن وظيفتك.
وتقترب اللحظات لتقول لنفسك: هل كان السفر ضروريًا فعلاً في هذه الساعة المتأخرة؟ وهل المشوار يستحق هذه الساعات الطويلة من انتظار الطائرة والتفتيش والركوب والانصياع لطبيعة رفيقة الكرسي المجاورة لساعات قد تطول أوتقصر؟ ويحدث خلال ذلك أن يبدؤوا بالنداء لركوب الطائرة فتركض في حبور لتكتشف بعد دقائق أنك تركت معطفك، أو جوالك، لتعود ركضًا للكافيه حيث يبتسمون في حبور، فما أكثر ما مر عليهم من هذه النماذج!
وفي اللحظة التي تبدأ الطائرة في التحرك تدرك فجأة ودون مقدمات أن العالم فعلاً تحرك، وأن منطقة القلق الغامضة قد تم تجاوزها إلى ما لا عودة، وها أنت تحلق من جديد لتكتشف العالم، ولتستعيد نشوتك الأولى في اقتحامه.
للطائرة قوانينها، والركاب يعرفون جميعًا ذلك، أو هم يشعرون بهذه القواعد حتى لو كانوا يعيشون تجربة السفر للمرة الأولى.الشخصيات المختلفة تبدو واضحة، فها هو القَلِق الذي لا يكاد يستقر في مقعده، وها هو البدين الذي يلتهم كل الشطائر المعطاة له ويطلب المزيد، وها هي الأم التي تحاول جاهدة إبقاء طفلها مشغولاً حتى لا يقتحم بطفولته راحة الآخرين، وهي تحرص أن يبدو أولادها مرتبين ونظيفين بدرجة كافية تنبئ عن بيئة متعلمة، في حين يغط الأب في سبات عميق، أو يقرأ الجريدة. فالرجل خلق للمهمات العقلية في حين تستعمل الأم قدراتها العاطفية للمحافظة على قوانين المكان من تخريب هذه المخلوقات البدائية الصغيرة التي تم إنتاجها للمحافظة على النظام الأسري، وهم الذين لم يتم شحنهم بعد ببطاريات التنشئة الاجتماعية التي تجعلنا عبيدًا لتوقعات الآخرين واحتياجاتهم.
التأمل فيما يبدو ليس عادة عربية، وهو في الحق ليس جزءًا من الإرث الاجتماعي، فنحن نخشى لحظات التأمل.. والصمت يخيفنا، فهو يحمل الوعيد بالمجهول الذي ربينا عقليًا على أن لا قدرة لنا على التحكم فيه، لكننا بلا شك أساتذة في تصويب أعيننا النفاذة على الآخرين والتلصص عليهم، ومراقبة تصرفاتهم، كما أننا نمتلك من الحيل البصرية والعقلية ما يمكننا من مراقبة الآخرين لساعات طويلة دون كلل. أظن أننا جميعًا نمر بهذه التجربة في كل مرة نحلق فيها، وخصوصًا في الداخل، أو على طيران محلي. فأنت تحت الأضواء الكاشفة منذ لحظة دخولك الطائرة، وكامرأة فأنت، بلا شك، أكثر احتمالاً في أن تظلي كالأرنب المراقب لعدد كبير من المشاهدين الذين يحملون بطاقات سفر إلى الطريقة التي تمشين بها، والطريقة التي تضعين بها خمارك، ودرجة إجادتك للغة الإنجليزية في حديثك لمجاورتك أو للمضيفة، ونوع الحقيبة التي تحملينها، ونبرة الصوت وعلوه.. كلها معايير اجتماعية يلتقط من حولك نبضها ليبدأ التصنيف!
كيف أواجه ذلك في كل مرة أسافر؟ بأن أكون نفسي أكثر من أي شيء آخر، فمهما فعلت، ومهما حاولت أن تلبي توقعات الآخرين الثقافية والاجتماعية تظلي دون المستوى المطلوب. ولذا فالطريقة المثلى هي إحداث الخلل في العوالم الراكدة بأن تكون فقط أنت دون أن يفرض التلصص نفسه عليك. إن مشكلة التلصص أنه مثل الرائحة النتنة لا تهدأ ولا تزول، وكلما زادت ساعات الطيران كانت فرصتنا كنساء في أضعاف أثر التلصص أكبر.
إن أجمل ما قرأت كان على متن طائرة، كما أن أكثر الأوراق الممتعة والمركزة التي أنتجتها كانت عبر الساعات الطويلة لطيران بعيد، بل إن الوقت لا وجود له بوجود الحاجة إلى أن تنهي ورقة مهمة، أو تكتب تقريرًا، أو تشاهد فيلمًا جميلاً، أو تستمع إلى بعض الموسيقا الكلاسيكية.
إذًا، أيتها السيدات والسادة لنتحد معًا في مقاومة ساعات الطيران الطويلة بعمل يشعرنا بالرضا عن النفس في اليوم التالي حين ننهي تقاريرنا المكدسة، ونتخلص من بعض أعباء العمل، ولنتكاتف معًا ضد نظرات الفضول والتلصص بأن نكون أنفسنا لنثير الملل في المقابلين، ولنشكر «السعودية» على مضيفاتها الرقيقات، ولنطالب «السعودية» بتنوع خدمات تلفازها والتعامل مع الأفلام الإبداعية من منظور فني وثقافي، يهدف إلى جعل فترةالطيران خبرة فنية وثقافية ممتعة يبقيها المسافر معه أينما ذهب.