october_banner

سفر في الذاكرة

مصانع السفن في صور

تغلق على أنين الصواري

جمعة العريمي: كلهم رحلوا، وسأبقى هنا طالما تنبض روحي بالحياة.

• مسقط: خلفان الزيدي

pict1

من أهزوجة الهول يا مال، إلى صوت: يا مركب الهند يا بو دجلين.، تأخذنا الصواري إلى رائحة التاريخ العُماني وهو يشق البحار، ويمخر عباب المحيطات، سفن تأتي وأخرى تروح، تلك التي حفرت اسمها على دروب الحرير.

§ كانت السفن الصورية معروفة على نطاق واسع، يشهد تاريخها على كل سفينة خرجت من مينائها ومراسيها

§ يراوح زمن الإنجاز بين سفينة وأخرى حسب نوعيتها، وتجهيزاتها، وحجمها، والهدف من استخدامها

§ على المراسي الصورية سفن كثيرة تنتظر مَنْ يعيد الحياة إلى هياكلها وينتشلها من غياهب النسيان

    وكما كانت عُمان رائدة في مخر عباب البحار، وتأسيس أسطول بحري، كانت كذلك رائدة في صنع السفن، تنحتها أيدي العُمانيين بمهارة واتقان، وتصوغ مفرداتها بحرفية شديدة.
    كانت صور المدينة الساكنة على بحر العرب، تتبوأ الصدارة في هذا المجال، وكانت السفن الصورية معروفة على نطاق واسع، يشهد تاريخها على كل سفينة خرجت من مينائها ومراسيها، من مراكب الصيد الصغيرة إلى المراكب التجارية رغم تعدد أنواعها ومسمياتها.
    وما يُذكر في هذا المجال، أن صانع السفن الصوري، وهو ينجز عمله باتقان وحرفية ماهرة، لا يلجأ إلى التصاميم أو الرسومات الهندسية، أو الأفكار على ورق، بل يستخدم أفكاره التي تحمل صورة السفينة المراد إنجازها. ويراوح زمن الإنجاز بين سفينة وأخرى حسب نوعيتها، وتجهيزاتها، وحجمها، والهدف من استخدامها.
    لكن صناعة السفن الصورية بدأت تخفت، ويتلاشى بريقها، وغدت مصانع السفن مغلقة، والأخشاب متناثرة هنا وهناك، فيما تقفل السفن عائدة إلى الشاطئ دون أن ترفع صواريها من جديد، لتسجل رحلة ملاحة جديدة، أو تخلِّد رحلة بحرية سابقة، تسكن باكية على الشاطئ بانتظار تحديث هيكلها لكي تقوى على الإبحار من جديد.
    لم تعد السفن الصورية كسابق عهدها، والبحر صار ممتلئًا بالمراكب الصناعية الصغيرة، حيث لا مجال آخر لاستخدام السفن غير الصيد والانتقال عبر جهتين، وفي ذلك دخلت بدائل أخرى غير السفن المصنعة في هذه الولاية العريقة.
    وعلى المراسي الصورية، كثيرة سفن كثيرة تنتظر من يعيد الحياة إلى هياكلها، وينتشلها من غياهب النسيان، ومن التجافي الذي لحقها بعدما هجر أبناء البحارة أعمال آبائهم واتجهوا إلى أعمال أخرى، دون أن يسمعوا أنين السفن كلما اشتاقت إلى البحر، ومخر عبابه، وشق مياهه نحو رحلة صيد بعيدة أو تجارة مربحة، أو سفر يأخذها أيامًا وشهورًا نحو بلاد تحفظ هذه السفن دروبها كما تحفظ أسماء ربابنتها.
    اشتاقت السفن إلى صوت من يهفو إلى أن يكون ربانها، إلى شمس أخرى تطلع عليها في ميناء آخر، وإلى نهار يأتيها في ميناء ثالث، وكأني بالبحر يناجي السفن، والسفن تذرف دموعها بعدما عجزت عن الوصول إليه، واشتاقت إلى نسيمه يداعب هيكلها، ويأخذ أشرعتها نحو البعيد، حيث ثمة بلاد أخرى، هي همزة وصل لبلاد جديدة.pict2
    هناك في صور، حيث وقفنا قبالة البحر، نبحث عن مصانع السفن، نجول بين الأخشاب المتراكمة فوق بعضها، والسفن المتناثرة شرقًا وغربًا، وقد تآكلت بفعل الزمن، وما عادت تقوى من جديد على الإبحار، وعلى معانقة موانئ جديدة، كانت ترقد قرب بعضها، وهي تناظر الذين أقفلوا مصانعهم ورحلوا، أخذهم الزمن في متوالياته، وأتت عليهم صروف المنون، أو أقعدهم العمر، فوهنت أجسامهم واشتعل الرأس شيبًا، وما عادوا يقون على الحراك أو بناء سفينة تواصل كتابة مجدهم وتراثهم، وعزهم، وحضارتهم.
    غير أنني في رحلة البحث عن صانع سفن، وجدته هناك، بعنفوانه، رغم تقدم العمر به، وبصلابته، رغم ما توالت عليه من صروف، كان متشبثًا بعشقه، وأصالته، بروحه وحياته التي تتجدد كلما أخرج سفينة إلى الوجود، على مدخل المصنع قرأنا اسمه، جمعة بن حسون العريمي، وعرفنا أن المصنع له ولأولاده، وأن صناعة السفن ترفض النسيان والموت الجماعي، ترفض أن تنتهي عند مرحلة زمنية لجيل دون أن يكون لها تواصل مع الجيل التالي.
    «وأولاده». كم تبهجنا هذه الكلمة، حينما نعرف أن ثمة أبناء يتوارثون صناعة الآباء، ويحرصون على تخليد أسمائهم، وضمها إلى أسماء آبائهم وأجدادهم في مجال عرفوا به واشتهروا عبره.
    «جمعة بن حسون العريمي وأبناؤه لصناعة السفن». ما أجملها من عبارة حينما تتصدر صناعة أو حرفة كادت أن تنقرض وتتلاشى، ويكاد يأتيها النسيان من كل مكان، لولا أن جيل الأبناء يحرص على تراث الآباء، ويكتب تواصل الأجيال.
    ولجنا المصنع، شاهدنا سفنًا كبيرة تُبنى، ومجسمات أخرى متفاوتة الأحجام تسكن بجوارها. اقتربنا من صاحب المصنع، لمسنا إصراره للحفاظ على صناعته وصناعة آبائه وأجداده، رغم تقدم السن به، جلسنا نتأمل إصراره وعزيمته، قال لنا الكثير ما أدمع الأعين، وأبكى المآقي، تذكر الذين كانوا بقربه زمنًا ما، حينما كانت مصانع السفن مشتعلة بالنشاط، متوهجة بالعمل، كل يسابق الزمن ليكمل بناء سفينة، حتى يبدأ في الأخرى.
    الآن ما عادت هذه الصناعة تجد الاهتمام المناسب.
    قالها والحسرة تغلبه، على المآل والحال التي صارت إليها حرفته وصناعته. وحدها الشركات الكبرى، تأخذ منا مجسمات تذكارية بكميات كثيرة، وتطلب منا بناء سفينة أو اثنتين بين الفترة والأخرى، أما غير ذلك فلا يكاد يُذكر.
    وأسأله عن السبب، رغم أن البحر يمتلئ بالخيرات، والأسفار عبره لم تتوقف.pict3
    فيجيبني وهو يشير جهة البحر: الصيادون يفضلون استخدام قوارب الفيبر جلاص، أما السمبوق «قارب الصيد»، والشوعي «مركب صيد صغير»، والهوري «مركب صغير»، والبوم «سفينة شحن وصيد»، والجالبوت «شائع الاستخدام في صور للصيد والنقل»، والماشوه «تستخدم للصيد والشحن»، فكلها بدأت تختفي شيئًا فشيئا، ولم تعد موانئ صور تضم غير سفن النقل والشحن والتجارة، وما على المراسي الصورية بقايا هياكل من هذه السفن والقوارب، كانت تمخر البحر في زمن مضى.
    وأعود لأسأله عن سر احتفاظه بهذه المهنة وإصراره على استمراريتها وتعليمها أبناءه، فيجيبني سريعًا: إنها حياتي.
    ويواصل: وجودي في هذا المصنع ليست لها علاقة بالعائد المادي الذي نحصله من بناء السفن وبيع تذكاراتها، فحسب، بل لأن حياتي هنا، روحي وراحتي النفسية أجدهما كلما شرعت في بناء سفينة أو الإشراف على بنائها، ومتابعة مراحلها حتى الانتهاء منها.
    وعن التشجيع والدعم الذي يحظى به المصنع من قبل الجهات المسؤولة كالهيئة العامة للصناعات الحرفية، يقول: إنني منذ بدايتي في هذا المصنع قبل 35 سنة لم أتلقَ ريالاً واحدًا كمساعدة وتشجيع لتطوير المصنع وإحضار آلات ومعدات جديدة، بل إنني طلبت رخصة لإحضار عامل وافد متخصص في نجارة السفن فلم يوافق على طلبي، وقد تعبت في الحصول على هذا العامل، إذ إن الشباب العُماني لا يُقبل على هذه المهنة ربما لمشقة العمل فيها أو لمردودها المادي البعيد.
    وكل أملي وسعادتي الآنية هو رؤية أولادي حولي يواصلون العمل فيما بدأته أنا، ويقومون بجهد كبير في استمرارية العمل في هذا المصنع، وأحمد الله، تعالى، أن أدخل في قلوبهم حب مهنة آبائهم وأجدادهم.
    وقبل أن أتركه سألته عن رفاق مهنته وأين هم؟ فأجابني والدموع تنحدر من عينيه، الكثير منهم انتقل إلى رحمة الله تعالى، ومن بقي فهو قعيد المرض أو الشيخوخة، وحالة المصانع وما آلت إليه ليست خافية على أحد.
    وبالفعل لم تكن حالة المصانع خافية على أحد، فصور التي عُرفت بأنها مركز صناعة السفن العُمانية وأهمها، بدت تتحول شيئًا فشيئًا، دون أن نغفل أن الغد قد يحمل أملاً في عودة هذه الصناعة من جديد، ونرى مصانع السفن العُمانية وقد عادت إلى الحياة بهمة ونشاط أكبر.