قبل نصف قرن
الترويح في المجتمع السعودي
• د.عبدالله بن ناصر السدحان
§ طبيعة المناطق في المملكة وتباينها الجغرافي قد أثرا على نوعية الممارسات الترويحية بشكل واضح
تعد الأنشطة الترويحية التي يمارسها أفراد المجتمع ظاهرة اجتماعية تتأثر بقيم المجتمع العقدية، والثقافية، والأفكار، والعادات، والتقاليد. وغالبًا ما تكون الأنشطة الترويحية السائدة في المجتمع نابعة منها أو متأثرة بها. ولذلك فالترويح إذا لم يستمد وسائله من البيئة التي يوجد فيها يصبح عاجزًا عن العطاء، وتحقيق الأهداف التي يسعى إليها المجتمع.
ويقصد بالوسائل التي ينبغي أن يستمد منها الترويح: الوسائل المادية مثل الموارد المتاحة من البيئة الطبيعية والواقع المحلي. أما الوسائل المعنوية، فيقصد بها الجوانب العقدية، والثقافية، والفكرية التي يتبناها المجتمع ويؤمن بها، والتي، غالبًا، ما يتشكل بناءً عليها العديد من العادات، والتقاليد، والأعراف التي تتكون على آماد طويلة، لتُصبح جزءًا لا يتجزأ من كيان المجتمع ونسيجه الخاص به.
وتختلف الأنشطة الترويحية التي يمارسها الأفراد بتأثير من متغيرات عدة داخلية وخارجية، كما أن دوافعها ومحفزاتها تختلف من فرد إلى آخر. وتختلف الأنشطة الترويحية الممارسة باختلاف الجنس، فنجد الذكور يميلون إلى الأنشطة ذات الطابع البدني التنافسي، في حين تُقبل الإناث على الأنشطة الترويحية الهادئة التي تُمارس، غالبًا، في المنزل. ومنشأ هذا التباين في الأنشطة الترويحية يعود إلى طبيعة كل جنس، ودور كل منهما في الحياة واختلافه عن الآخر، كما أن العمر يؤثر في تحديد نوع النشاط الترويحي، فنجد أن النشاط البدني يتناقص كلما تقدم عمر الإنسان، ويزداد الميل لديه إلى الأنشطة ذات الطابعين العقلي والاجتماعي، كذلك ما يؤثر في تباين الأنشطة الترويحية المستوى الاقتصادي للأفراد والمجتمع، ووقت الفراغ، وهذا العامل يؤثر بشكل كبير وأساسي في تحديد نوعية النشاط الترويحي في المجتمع السعودي. ولا بد من التأكيد على أثر خصوصيتي المجتمع العقدية والثقافية، فطبيعة المجتمع وخصوصيته العقدية والثقافية لها دور كبير ومهم في تحديد نوعية الأنشطة الترويحية التي يمارسها أفراده، ولا يمكن إغفال دور هذه الخصوصية لكل مجتمع في ظهور أنشطة ترويحية تتناسب مع طبيعة المجتمع، كما تؤدي خصوصية المجتمع العقدية والثقافية إلى اختفاء أنشطة ترويحية أخرى لا تتوافق مع قيم المجتمع، أو عاداته، أو تقاليده.
لقد كانت الحياة السكنية لأفراد المجتمع السعودي، قبل نصف قرن، تغلب عليها البساطة في مظاهرها العمرانية، بدءًا من البناء وانتهاءً بالأثاث المنزلي، فكانت طريقة البناء متماشية مع ظروف العصر وخاماته، فالمنازل الطينية أو الحجرية يراعى فيها أن تكون ساترة من الخارج منفتحة على صحن الدار من الداخل، ويغلب على مجموع البناء في القرية أو المدينة، في ذلك الوقت، الجانب العسكري، وذلك ببناء سور للبلدة يحميها من أي عدوان خارجي، وكان ذلك قبل توحيد الجزيرة العربية على يد الملك عبدالعزيز، كما انعكس النمط العمراني السائد سابقًا على الجوانب الاجتماعية بين أفراد المجتمع، خصوصًا علاقات الجيرة، والترابط الاجتماعي بشكل عام بين أفراد المجتمع، وكذلك الممارسات الترويحية.
من خلال تصور واقع المجتمع في تلك الفترة يمكننا أن نرسم صورة تقريبية لمعالم الممارسات الترويحية في المجتمع، ولا بد من الإشارة إلى أن طبيعة المناطق في المملكة وتباينها الجغرافي قد أثر على نوعية الممارسات الترويحية بشكل واضح، وليس هذا فحسب، بل إن المستوى التعليمي وطبيعة الحياة الدينية التي تمتاز بها كل منطقة وأهلها كان لها الأثر الواضح في ذلك التمايز، وسنحاول سرد تلك الممارسات حسب المناطق لنتمكن من تلمس أثر كل منطقة وبيئتها الجغرافية والاجتماعية بشكل عام على هذه الممارسات.
ففي منطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، كان هناك توسع في الممارسات الترويحية. فالمنطقة، عمومًا، كانت أكثر انفتاحًا على الخارج من أي إقليم من أقاليم المملكة الأخرى، فقد كان الاحتكاك بالأجناس البشرية الأخرى في المواسم الدينية: الحج، والعمرة، والزيارة، خير وسيلة لانفتاح مجتمعي مكة المكرمة والمدينة المنورة على ثقافات الشعوب الأخرى، وعاداتها، وتقاليدها، لذا نجد أثر هذا الانفتاح واضحًا في حياة الفرد هناك، فكان من عادة أهل المنطقة السمر في البيوت والجلوس في المقاهي للتسلية وقضاء الوقت، كما أنها كانت مجمعًا لسماع قارئ يسرد حكايات من كتاب «ألف ليلة وليلة»، أو سيرة «عنترة» مقابل بعض المال. وكانت هناك مجالس يؤمها بعض المثقفين لتدارس مجموعات من الشعر العربي. كما وجدت أنواع أخرى من الممارسات الترويحية في مكة المكرمة، فهناك لعبة المزمار، بالإضافة إلى ما يقوم به بعض الأفارقة من ألعاب خاصة بهم مثل «الطنبورة» التي يدق معها الطبل.
ومن المجالات الترويحية المتميزة في المنطقة الوسطى إقامة سباق الخيل والهجن، فقد نشطت في مدينة الرياض حركة الفروسية، ويحضر هذه المسابقات الملك، والأمراء، وحشود كبيرة من أهل الرياض، وجميع من يفد من ضيوف المدينة ونزلائهم. ومحل السباق هو شمال الرياض قرب جبل «أبومخروق». ومن الممارسات الترويحية التي كانت سائدة في المنطقة الوسطى كذلك الفنون الشعبية، حيث إن لكل مجتمع فنونه الخاصة به.
كما يمكن عد رحلات الصيد التي كان يقوم بها بعض الأفراد من المجتمع جانبًا مهمًا من جوانب التسلية عند البدوي والحضري معًا، حيث يخرج الأفراد في رحلات جماعية لصيد بعض الحيوانات كالغزلان، والأرانب، والطيور البرية، وغالبًا ما تستغرق أكثر من يوم، ويستعدون لها استعدادًا خاصًا، حيث يتزودون بما يحتاجون إليه من مأكل، ومشرب، وخيام، وكانت لها مواسم معينة تزداد فيها هذه الحيوانات والطيور حسب هجرتها الموسمية من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها والعكس، كما اشتهرت بعض الأماكن في الجزيرة العربية بوفرة الحيوانات البرية كالغزلان والوعول، وكانت هواية شائعة.
ومن وسائل الترويح التي كانت شائعة في المنطقة بين الرجال والشباب آنذاك، وما زالت، العرضة النجدية «السعودية»، وفيها يصطف الرجال ويرددون بعض الأبيات الشعرية الحماسية أو الحربية مع قرع الطبوع بترنيمات معينة. والعرضة النجدية كانت في أوقات الحرب تقام كمظهر من مظاهر الحماس الحربي، وشحذًا لعزائم المحاربين، وتعبيرًا عن القوة المعنوية، وفي أوقات السلم ومناسبات الفرحة تقام تعبيرًا عن البهجة والسرور، وغبطة الانتصار، فهي ذات مدلولين: مدلول حربي متوثب، ومدلول سلمي ترفيهي مبطن بروح الحماس والقوة المعنوية، وفي كلتا الحالتين تحمل فيها السيوف والبنادق، وتغنى الأغاني الحربية الحماسية، وأغاني الانتصارات، وتقام بأسلوب واحد وطريقة تقليدية لا تتغير، وكان الملك عبدالعزيز، رحمه الله، يقيم هذه العرضة في مختلف المناسبات، وكذلك أبناؤه ويشاركون فيها بأنفسهم بين أفراد الشعب في عرض شعبي.
وإذا انتقلنا إلى المنطقة الشرقية ومنطقة الأحساء الزراعية ذات الواحات والمياه الوفيرة والعيون النابعة، لوجدنا ثمة اختلاف يسير في نوعية الممارسات الترويحية، حيث شيوع رياضة السباحة والإقبال عليها، نظرًا إلى وقوع معظم مدن المنطقة على ساحل الخليج العربي، وتوافر عيون المياه المتدفقة التي تكونت عند منابعها بحيرات واسعة، خصوصًا في واحتي الأحساء والقطيف، ما مكن معظم السكان من إجادة السباحة والإقبال عليها، كما انتشرت بين السكان بعض الهوايات المرتبطة بالبحر مثل صيد الأسماك.
كما ساعدت طبيعة المنطقة الشرقية الزراعية الخضراء، وكثرة الينابيع المتدفقة وقربها من الساحل وكثرة الكثبان الرملية والتضاريس الجبلية مثل جبل القارة على توفير أماكن يؤمها السكان للتنزه والترويح. فقد اشتهرت عادة قضاء جزء من أشهر الصيف في البساتين نهارًا. كما اعتاد السكان الاستحمام في العيون المتدفقة المشهورة حولها صيفًا وشتاءً، كما كان سكان منطقة الأحساء، خصوصًا الشباب منهم يمارسون في أثناء تنزههم في المزارع المحيطة بالأحساء هواية صيد الطيور، سواء بالبنادق، أو الفخ، أو النبيطة، وكانت نزهات النخيل تلك وارتياد العيون الجارية محببة إلى نفوس معظم السكان، ورجال العلم والأدب بصورة خاصة، لذلك نظموا فيها قصائد وأشعارًا عبروا فيها عن تعلقهم بها، وإعجابهم بأجوائها الترويحية.
كما ساد في المنطقة الشرقية الغناء الشعبي، وقد كان متأثرًا بطبيعة المنطقة البحرية، وكذا الزراعية، بالإضافة إلى أنها أضحت منطقة جذب لأجناس متعددة وصلت المنطقة ونقلت معها مأثورها الشعبي، فتداخل بشكل واضح مع المأثور الشعبي المحلي، ويلاحظ ذلك في كثرة الكلمات المستخدمة التي تعود إلى أصول أفريقية، أو فارسية، أو هندية، وكذلك الحال بالنسبة للآلات المصاحبة لهذا النوع من الغناء الشعبي.
أما ممارسة الرياضة البدنية، خصوصًا كرة القدم، فلم تظهر في المنطقة الشرقية إلا بعد اكتشاف النفط والاختلاط بجنسيات أخرى، فهناك من يؤرخ لبداية ظهور لعبة كرة القدم بعام 1358هـ حينما شرع عمال شركة «أرامكو» السودانيون والصوماليون في ممارسة هذه اللعبة وأخذها عنهم سكان المنطقة، وتم تأسيس أول ناد رياضي في المنطقة، وكانت هناك منافسات رياضية بين بعض الفرق، وقد حضر الملك عبدالعزيز مباراة البطولة بين فريقي نادي الاتحاد والصوماليين عام 1366هـ، عندما زار المنطقة وقدم كأسًا للفريق الفائز.
بعد هذا السرد المختصر للممارسات الترويحية التي كانت سائدة بين أفراد المجتمع السعودي خلال الفترة الماضية يمكن استظهار العديد من الخصائص الترويحية في المجتمع ومن ذلك: انطلاق الممارسات الترويحية في المجتمع السعودي من البيئة المحلية، بالإضافة إلى التزام الناس بتقاليد المجتمع وعدم الخروج عليها، بل قد تصبح لهذه التقاليد والأعراف، أحيانًا، منزلة كبيرة في الأنفس.
وأخيرًا، يمكن ملاحظة أن الأنماط الترويحية التي كان يمارسها الفرد السعودي في تلك الفترة اتسمت بالجماعية، وهذه سمة أساسية من سمات الترويح.