أماكن

دومة الجندل

يستوطن التاريخ بيوتها العتيقة

تقع في منطقة الجوف التي تعج بإرث حضاري وزخم بالأماكن الأثرية.

• استطلاع وتصوير: عبدالعزيز العريفي

Saudia_pic3

§ تحتضن دومة الجندل مما تحتضنه قصر مارد الذي يعد من أقدم القصور في الجزيرة العربية

§ تعد دومة الجندل أهم محافظات منطقة الجوف التاريخية وإحدى أهم المدن القديمة شمال الجزيرة العربية، إذ يعود تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد

§ تعد بحيرة دومة الجندل بمسطحها المائي الذي يتعدى المليون متر مربع أكبر بحيرة شبه طبيعية بالمملكة العربية السعودية

منطقة يستوطن التاريخ قصورها وبيوتها العتيقة، وتتجلى بها عبقرية المكان، وتنهمر على سهولها وبساتينها أطياف الذكريات مدرارًا من غمامة الزمن، تتعثر الكلمات على لسان المنطق عندما تهم بالحديث عنها، ففي كل زاوية من زوايا أبنيتها التي تخضبت بحناء القدم، وتعطرت بشذا الماضي العتيق، هناك قصة وحكاية تستحق الرواية، إنها دومة الجندل في منطقة الجوف التي تعج بإرث حضاري وتاريخي، وزخم بالأماكن الأثرية التي ربما لا يوجد لها مثيل في العالم.

    تحتضن دومة الجندل مما تحتضنه قصر مارد الذي يعد من أقدم القصور في الجزيرة العربية، وما زالت أجزاء كبيرة منه قائمة شامخة تدل على منعته وقوته، وقد بني في مجمله من الحجر المشغول على مرتفع صخري، تعلوه أبراج عدة سامقة حربية، تشعرك وأنت تنظر إليها بأنك تعيش أسطورة قديمة انبثقت فجأة من عمق الزمن، وقد شيد الحصن في القرن الأول الميلادي كما تذكر بعض المصادر، إلا أن ياقوت الحموي ذكر في كتابه «معجم البلدان» أن دوماء بن إسماعيل استقر في موضع دومة الجندل، وشيد فيها قلعة سُميت «دوماء» باسمه بيد أنه عاد وذكر في موضع آخر أن الحصن سُمي «قلعة مارد»، وقد حاولت الزباء أو زنوبيا ملكة تدمر سنة 267و 272 احتلال قلعة مارد وحصن الأبلق في تيماء، وفشلت في تحقيق ذلك، وقالت قولتها المشهورة «تمرد مارد وعز الأبلق».
    وقلعة مارد تعد بناءً غريبًا متقنًا يدل، بلا شك، على حضارة متطورة عاشت في تلك الحقب الغابرة، وبرعت في البناء والتشييد، وداخل القلعة حُفرت بئر عميقة ما زالت مليئة بالمياه العذبة، وطويت من الداخل بالصخور المشغولة، وتتكون القلعة من ثلاثة طوابق تتصل فيما بينها عن طريق سلالم صخرية متقنة البناء تزيدها هيبة وروعة، كما يُلاحظ في البناء كثرة الممرات التي ربما قُصد منها تسهيل حركة الحرس والجنود وتنقلاتهم في تلك الحقبة من الزمن، وقد توالت ترميمات الحصن على مدى ألفي سنة تقريبًا، بيد أنه يؤخذ على الترميمات الحديثة استخدامها الطين بدلًا من الحجر، ما كان سببًا في تشويه المبنى وجعله في بعض جهاته أقرب إلى قصر من الطين منه إلى القلعة الصخرية الحصينة، وقد زار منطقة الجوف مستشرقون عدة، وقفوا على قصر مارد أبرزهم جورج أوجست فالين سنة 1845، ووليام بلجريف، والليدي آن بلنت حفيدة الشاعر بيرون.
    وتعد دومة الجندل أهم محافظات منطقة الجوف التاريخية، وإحدى أهم المدن القديمة شمال الجزيرة العربية، إذ يعود تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، ويدل على ذلك كثرة الآثار التي تشير إلى تلك المراحل المبكرة من عصور ما قبل التاريخ، وتقع منطقة الجوف شمال المملكة العربية السعودية، ويحدها من الشمال والشمال الشرقي إمارة منطقة الحدود الشمالية، ومن الغرب إمارة منطقة تبوك، ومن الجنوب والجنوب الشرقي إمارة منطقة حائل، وهي منطقة غنية بالمياه الجوفية والعيون، وأهم أوديتها وادي السرحان، ومن أهم مدن منطقة الجوف ومحافظاتها: سكاكا، والقريات، ودومة الجندل، وطبرجل.
    ومن القرى: قارا، والطوير، وصوير، ولزلوم، والنبك، وأبو قصر، والشويحطية، وغيرها من القرى والهجر. أما عن الاستيطان البشري في منطقة الجوف، فلا شك أنه موغل في القدم، إذ يعد موقع الشويحطية أقدم موقع أثري في المملكة العربية السعودية، حيث يعود إلى أكثر من مليون سنة، والمنطقة تعج بالعديد من المواقع الأثرية والشواهد التاريخية. وقد ورد ذكر دومة الجندل في نص مسماري ضمن إشارة إلى حملة قام بها سنحاريب، الملك الآشوري، ضد مملكة دومة الجندل سنة 688 قبل الميلاد، ويفهم من سياق النص أن سنحاريب دخل دومة الجندل عنوة، وعاث فيها فسادًا وتدميرًا، كما ورد ذكر دومة الجندل في حوليات الملك آشور با نيبال، والملك إسرحدون، والملك البابلي نابونيدوس. كما ورد ذكرها في المصادر الآشورية باسم أدوماتو أو أدمو، وكانت دومة الجندل عاصمة لعدد من الملكات العربيات مثل تبؤه أو تاربو، وتلخونو، وزبيبة، وسمسي، وأياتي.
    وتضم دومة الجندل، فضلًا عما ذُكر، بقايا سور دومة الجندل، وموقع التحكيم بين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ومعاوية بن أبي سفيان، وكانت دومة الجندل من أهم الأسواق العربية في العصر الجاهلي، وأصبحت، فيما بعد، خاضعة للدولة البيزنطية إلى أن تم فتحها على يد خالد بن الوليد، ودخولها الدولة الإسلامية في السنة الثانية عشرة للهجرة النبوية في بدايات خلافة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه.
    وتذكر بعض المصادر أن خالد بن الوليد اضطر إلى كسر باب قلعة مارد وأسر المتحصنين داخلها، وقد عمدت هيئة الآثار
    إلى عمل سياج حول القلعة وحول عدد من المواقع الأثرية أهمها مسجد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي بني بجانب القلعة بمئذنته السامقة ملاصقًا لحي الدرع من الجهة الجنوبية، ويعد من أهم المساجد الأثرية إن لم يكن أهمها على الإطلاق، كون أهميته تنبع من تخطيطه الذي يمثل نمط تخطيط المساجد الأولى، خصوصًا مسجد الرسول، صلى الله عليه وسلم، في المدينة في مراحله الأولى، وكذلك تبرز أهمية هذا المسجد كون الذي أمر ببنائه هو الفاروق عمر، وتقع مئذنة المسجد في الركن الجنوبي الغربي من المبنى العام، والمئذنة مربعة الشكل، يصل طول ضلعها عند القاعدة 3م، وتضيق بالداخل كلما ارتفعت إلى أعلى إلى أن تنتهي بقمة شبه هرمية، ويبلغ ارتفاعها نحو 12.7م، وقد استخدم الحجر المشغول في بناء المسجد والمئذنة، كما هي الحال في المباني المجاورة مثل قلعة مارد نفسها، ليكون هناك انسجام وتناغم هندسي رائع وسط المدينة العتيقة. وعندما تلج المسجد تشعر بقشعريرة الحنين والشوق إلى تلك الحقبة الزمنية، خصوصًا داخل المنبر والمحراب، وتنتشي روحك بالهواء المعطر بعبق جسد الرسول وثنايا ثيابه الذي ربما انتقل مع عمر وثيابه عندما بنى المسجد.
    وتعد بحيرة دومة الجندل بمسطحها المائي الذي يتعدى المليون متر مربع أكبر بحيرة شبه طبيعية بالمملكة العربية السعودية، كونها نتاجًا لفائض مياه الري عن طريق مشروع الري والصرف الذي أنشأته الدولة قبل ما يربو على 22 سنة، تحيط بها الأشجار البرية من كل جهة، وهي متنفس سياحي لأهل المنطقة والمناطق المجاورة، ومن المواقع الأثرية المهمة التي سنأتي إلى ذكرها، إن شاء الله، في استطلاع خاص بمدينة سكاكا التي هي حاضرة الجوف ومقر الإمارة، والواقعة على مسافة 50 كيلو مترًا شمال شرق دومة الجندل آثار «الرجاجيل»، وهي عبارة عن أعمدة حجرية تراوح بين 30 سم إلى 3.5م في الارتفاع، وتعود إلى العصر التشالكليثي أي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وحصن زعبل الذي شيد على مرتفع صخري في الشمال الغربي من سكاكا ربما في القرن السابع قبل الميلاد، ومن الآثار الفريدة في المنطقة بئر سيسرا الذي يعود إلى القرن الأول الميلادي، والذي حفره الأنباط في الصخر بطريقة مدهشة، وتعود التسمية إلى القائد الكنعاني سيسرا الذي حارب اليهود في فلسطين.