أماكن

المدرج الروماني في عمّان

عمارةٌ تسافر في

كثيرًا ما يُدهش الزائرون للمدرج الروماني بعلوه الشاهق، ودرجة تحدُّره، فقد بُني على جانب جُرفٍ صخري تم قطعه جزئيًا ليتلاءم مع بنيته الفريدة.

• عمّان: سارة الكيلاني
• تصوير : هشام شما

Amman

وسط منطقة مفعمة بالنشاط والحيوية، وصخب يوم عملٍ من أيام المدينة المزدهرة بقوة، وفي حضن جبل مرتفع من جهة، وأعداد لا تحصى من مطاعم المأكولات السريعة، وحوانيت الملابس والأحذية، حتى محلات بيع الحيوانات الأليفة.. من الجهة الأخرى، وسط كل ذلك، تقع أُعجوبة حجرية ساحرة، تحجب إلى حينٍ أصوات أبواق السيارات المزعجة، وصياح الأولاد ينادون على بضائعهم.

    يقع المدرج الروماني في قلب مدينة عمّان عاصمة الأردن، ويجسد صرحًا رائعًا يشهد على ميراث عريق يتمتع به هذا البلد.
    بُني المدرج إبّان عهد الإمبراطور أنطونينوس بيوس «138- 161 بعد ميلاديًا»، عندما كانت عمّان مدينة رومانية تدعى فيلادلـفـيا، ضمت في يوم من الأيام الرياضيين، والموسيقيين، والممثلين، والخطباء. ويتمتع المدرج بكل الميزات التقليدية التي صبغت العصر الروماني، والتي أهلته للعب دوره إذ ذاك، غير أن ما يبعث على الدهشة، أنه ما زال حتى اليوم يستخدم مسرحًا للترفيه عن أكثر من 5000 مواطن من سكان مدينة عمّان الحديثة، وتؤدى على خشبته كل أنواع العروض التي تتراوح بين رقص الباليه وموسيقا البوب، بعد أن تم ترميم منصته الرئيسة.
    يتاخم المدرج، وإلى الشرق من ساحته، الأُوديون، وهو مدرج صغير يعود تاريخه إلى أواخر القرن الثاني الميلادي، وكان يستعمل في الأصل للمناسبات والاحتفالات الصغيرة.Amman_2
    وفي أثناء قيادة السيارة للوصول إلى المدرج عبر شوارع وسط المدينة الملوث والمزدحم، يمكن اختطاف نظرات سريعة «لسبيل الماء» Nymphaeum، وهي نافورة مزخرفة يعـود تاريخ إنشائـها إلى عـام 191 ميلادية، حيث لعبت المياه باستمرار دورًا مهمًا في حياة المدن الرومانية. يفوح عبق التاريخ من كل أرجاء هذه البلدة، وتنتشر الآثار في كل مكان، لدرجة أنها يمكن أن تكون ببساطة تحت قدميك. فالقناة التي يجري فيها الماء بين النافورة والمدرج، مغطاة بالأسمنت، وتمتد أسفل الطريق.
    وبنظرةٍ سريعة من المدرج عبر الشارع، يطالعك ذلك المنظر المهيب للقلعة، ومعبد هرقل الذي يتربع على قمة الجبل المشرف على منطقة وسط المدينة. ويروي جبل القلعة هذا قصصًا كثيرة عن الشعوب المختلفة التي سكنت هذه المدينة التي كانت يومًا ما عاصمة العمونيين منذ عام 1200ق.م.
    تنتشر على سفوح جبل القلعة ومنحدراته كثير من كِسَر الأواني الفخارية وقطعها المتناثرة، التي تعود إلى عصور مختلفة بالغة القدم، تبدأ من العصر البرونزي المتوسط، مرورًا بالعصر الحديدي، فالهيلليني حتى العصر الروماني. ونحو سنة 300 ق.م احتلها اليونانيون، ثم بطالسة مصر. وخلال القرن الأول قبل الميلاد احتُلت عمّان من قبل الأنباط، ثم غزاها هيرودوت العظيم عام 30 ق.م. وبعد الاحتلال الروماني، أُعيد تخطيط المدينة وبناؤها من جديد. وكانت لا تزال مزدهرةً عندما جاء الفتح الإسلامي في القرن السابع للميلاد. وفي عهد بني أُمية، خلال القرنين السابع والثامن الميلاديين، أضاف الأُمويون لمساتهم إلى الموقع، حيث بنوا ساحةً وعدة مبانٍ أُخرى. ولكن، مع دخول القرن الخامس عشر الميلادي، كانت عمّان قد أصبحت مجموعة من الآثار والخرائب على أرضٍ صحراوية.
    من يشاهد صور المدرج الملتقطة في الثلاثينيات من القرن الماضي، يدرك أن عمّان لم تكن حينذاك سوى قرية صغيرة، أو أكثر من ذلك قليلاً، حيث بدت التلال المحيطة بالمدرج عارية من البيوت والمباني التي تعج بها الآن. ومما يبعث على الروع أن تقارن صورًا التقطت للمدرج الروماني قبل تسعين عامًا بأُخرى حديثة، لتدرك مدى التغير الذي حدث في البيئة المحيطة وبنيتها الأساسية.Amman_3
    فيما بعد، أضحت عمّان قرية استوطنها الجراكسة، بينما كان معظم الناس الآخرين يعيشون في البلدات الأُخرى على امتداد هذا البلد.
    يقع متحف الفولكلور الوطني ضمن مباني المدرج، ويحتفظ بشواهد كثيرة على غنى التراث التقليدي، ومجموعة قيمة من القطع التقليدية، وعلى وجه الخصوص الملابس النسائية التقليدية، التي يسمى واحدها ثوبًا. لكل واحد من هذه الأثواب لونه الخاص المميز، وطرازه ونمط النقش والتطريز الخاص به، ولباس الرأس المناسب له، وهذا كله يعطي دلالات عن المرأة التي تلبسه، من أي منطقة تنحدر،أو إلى أي بلدة تنتمي، وكونها بدوية، أم جركسية، أم فلاحة. وتلقى هذه الأثواب التقليدية اهتمامًا وتقديرًا كبيرين من الأُردنيين، ويمكن أن يصل ثمن بعضها إلى مئات الدنانير الأُردنية.
    في ثلاثينيات القرن الماضي،أسس الأمير عبدالله مكتبة في بيتٍ بالقرب من فندق فيلادلـفـيـا «الذي لم يعد له وجود الآن»، عبر الشارع المتاخم للمدرج. وكانت دائرة الآثار تقبع في بيت من خمس غرف بمحاذاة المدرج، وأصبحت فيما بعد مقرًا لقيادة اللجنة العربية المشكلة حديثًا، إلى أن استقر بها الأمر مكتبًا تابعًا لدائرة الآثار. وعندما قرر الأمير عبدالله جعل عمّان عاصمة له بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، بدأت المدينة تزدهر وتتوسع، ملتهمة الآثار والمواقع القديمة. وربما كان لذلك بعض الفوائد، لأن أعوام الخمسينيات التالية شهدت بداية أعمال الترميم والإصلاح في المدرج، وفي ساحة الأعمدة، والأوديوم، والقناة المسقوفة.
    كثيرًا ما يُدهش الزائرون للمدرج الروماني بعلوه الشاهق، ودرجة تحدُّره، فقد بُني على جانب جُرفٍ صخري تم قطعه جزئيًا ليتلاءم مع بنيته الفريدة. هذه الموهبة الفذة في إتقان البناء على المنحدرات الجبلية تظهر واضحة في البيوت والمباني المحيطة بموقع المدرج. لم يعد السكان رومانيين، أو يونانيين، أو عثمانيين، ولكنهم بناؤون أُردنيون مهرة، يجيدون عمارة منازلهم على المنحدرات الجبلية، وينحتون جنبات الجبال لإنشاء المباني والشقق السكنية.
    إن هذه الرحلة عبر وسط المدينة، لمشاهدة هذا الصرح المعماري لفن العمارة الرومانية القديم، تقودك إلى رحلة أُخرى عبر الزمن، لتأمُّل إنجازات القدماء العجيبة، ولتدرك معنى التمازج بين الثقافات القديمة والحديثة. تقف على المنصة كأنك تسترجع أصوات الجماهير تصرخ وتصفق وتترنم مع أصوات المؤدين من شعراء وممثلين، وتمتزج هذه الأصوات القادمة من أعماق التاريخ بالأصوات المحيطة من حولك، لتعيدك إلى الواقع في تمازج مدهش بين الناس وزحمة السير والضجيج وهذه الحجارة الضخمة، لتشكل معًا جوًا بالغ السحر والفتنة في قلب مدينة عمّان.