في رحـابها
• يوسف بن محمد العويِّد
قاضي بديوان المظالم
لم تصافح عيني صورة أبهى من كيان الكعبة الساكن دهورًا.. يموج الطائفون حوله ولا يزيده ذلك إلا ثباتًا.. أي استقرار في دين أعظم من دين منع صخور مقدساته أن تنحتها أمواج البشر.. ما أجلَّه من دين.. حجره مسخر لعباد الله، صورة أخرى تتقافز لها المشاعر فيضًا، حين ترى الحرير كسوة لا تزيده أيدي المبتهلين إلا رقة ونعومة.. تخيل نفسك على مرمى حجر قريبًا منها.. وتخيل فراغك من سبعة أشواط طوافًا حولها.. وأنك تمسح بيديك الداعيتين عرقك الندي فيضوع جسدك كله مسكًا ووردًا طائفيًا صنع رائحته الطائفون.
أما الحجر الأسود فلا يمل من القبلات الشريفة التي يهديها إليه الأبيض والأسمر.. يقبلها منهم وكأنهم رجل واحد لا فرق.. يعصف بك خاطر الندم عندما تتذكر أنه نزل من السماء أبيض.. كالثلج فدنسته خطايا بني آدم القاتمة.. فتنقلب إلى جانب آخر من جوانب الكعبة لم تتجه إليه في حياتك ألبتة، إذ كنت في بلاد المشرق، وها أنت تستقبل الركن اليماني، وتحمد ربك أن مكنك من مباشرة ذلك الكيان من جميع اتجاهاته.
ذاكرة رخام الحرم الأبيض لا تختزن فيها إلا ثلاثة أشياء: بصمات جباه الساجدين.. وراحة أقدام المهرولين.. وتمتمات نداء التائبين.. وما سواها فتعجز الأرض عن حمله.
ارفع رأسك صوب السماء.. فلن تجد لعينيك منفذًا بين مواطئ أقدام الملائكة المباركة، إذ يطوف تلك الليلة سبعون ألف ملك حول الكعبة لأول مرة يؤدون ذلك النسك.. هي آخر مرة كذلك.. ليهيئوا المكان لسبعين ألفًا آخرين في الليلة اللاحقة.
ويبلغ الجمال ذروته والحسن منتهاه حين ترى لغة مشتركة يعثر عليها الطائف بفطرته.. كلهم يخاطب الحجر الأسود بالتكبير والإشارة، وأنامل أيديهم الملوحة تنطق أن موعدنا المكان الذي نزلت منه..!
ارتشف جرعات ماء زمزمي حتى تحس أن أضلعك اتسعت فأصبحت تحملك لطواف آخر جديد.. إغفاءة يسيرة وسط حشد طاهر متعبد.. خلالها تجد نفسك في فردوس أعلى يزاحمك عليه ملوك الغرب وأبناؤهم ممن فقد تلك السكينة.
وقد يكتب لك أن ترى طائفًا متطوعًا منحه الشيب وسامه البلاتيني حتى لا تكاد تميز شعره من غترته.. يسافر بك، من خلال صورته فقط، إلى الرعيل الأول الذين يأكلون بعض الطعام ويمشون في أدنى الأسواق وقد تكون أقدامهم تتقدمهم إلى الجنة.. من صلاح باطن كاد يفقد في زمن الفتن والشهوات!
هدير الطائفين، ونشيج الداعين لا شيء يوقفه سوى كلمة واحدة من رجل واحد... نقلها عن سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، «حي على الصلاة.. حي على الفلاح» بها تسكن كل حركة، حتى يكون كل العالم في تلك البقعة كجدار الكعبة.. صامدًا ينتظر الأوامر الإلهية «الله أكبر» فتظهر لك روح الامتثال والطاعة المبصرة لإمام قد يكشف بقلبه ما خفي على المراصد الفلكية. أما «المؤذن فاروق» ذو الصوت الشجي الممتلئ بوحًا وأنينًا فيصحبك إلى بلال، وكلاهما قد امتهن بصوته الندي الحزين استلال الهموم كما شعرة من عجين.. بأذانه تشعر أنه يحمل وكالة عن كل مسلم ليبث همومه على جبال مكة الشاهقة بالتساوي.. فيخلو الجو ويصمت المكان للإمام.. ليعلق في أروقة الحرم وأعمدته مزامير آل داود بإيقاع يشبه وقع المطر على بيوت أهل مكة الجبلية.. الفاتحة سر الصلاة.. الجامعة الكبرى المفتوحة لكل مسلم يَرِدها كل يوم عشرات المرات.. فيحصل منها على وثيقة الهداية الوسطية الربانية.
أمة الإسلام تنكشف أمامها موازين الأشياء على حقيقتها حين يخر الساجد إلى أدنى الأرض.. فيتذكر أعلى نقطة سماوية فيلهج بالثناء «سبحان ربي الأعلى».. شعور الضعف المستكن في قلب الساجد يجعله يرفع رأسه فيرفع معه مبادئه وقيمه التي تأبى عليه أن يخضع إلا لله.. ما من حركة في الوجود يتعبد بها متعبد تأتي منضبطة كالأفلاك، كحركات الصلاة في دين الإسلام ركوعًا وسجودًا.. وهكذا جميع الصلاة حتى السلام.. لكل حركة سر.. ولكل سكنة تأمل ينقلك لرياض البر.
مليون مسلم في بقعة واحدة يشعرون بعظمة الإسلام.. وفيهم ذو مال ومنصب وجاه لا يعترض موكبه إلا نداء حنون «الصلاة على الطفل يرحمكم الله» فينتصب ذلك المليون لذلك الطفل الذي لم يستهل صارخًا كأي واحد منهم.. ما أعظم هذا الدين.. تظهر عظمته نقية كحجر ألماسي عندما ينتقي مسلم شرقي أطايب الدعاء لوالدي ذلك الطفل الغربي أن يكون سببًا يشفع لهما يوم القيامة.. أمة يربط شاهدها بغائبها طفل صغير، هي أمة الرحمة والمعاني الكبرى.
آيات من كتاب الله يصدح بها شيخ تجثو حوله ركبة طفل لم يجاوز الحلم تذكرك بابن عباس شيخ المقارئة في الحرم.. حتى تشعر أنك مطوق بسلسلة ذهبية من علماء هذه الأمة، ينقلها خيار لاحقهم عن كبار سابقهم.. التفاتة يسيرة لِحِلَقِ التحفيظ المرصوفة تحت أعمدة البناية العثمانية يملؤها غلمان كأنهم مخلدون.. إذا رأيتهم في حلقاتهم حسبتهم لؤلؤًا منثورًا.
حمام الحرم رسول السلام للكون، حرم الشارع صيده وتنفيره، لتبقى الأجواء هادئة لكل مسلم يعبد ربه.
الأجور في قوانين العمل والعمال على قدر العمل.. أما الأجور في رحاب الحرم فتتراءى أمام ناظريك أزيد من متوالية هندسية لا تنتهي أرقامها إلا بقانون شرعي «الحسنة بعشر أمثالها إلى مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة.. والله يضاعف لمن يشاء» الصدقة في مكة عن مئة ألف صدقة.. كما الصلاة في الحرم بمئة ألف صلاة.. والعمرة في رمضان كحجة مع الحبيب.. تدفعك إلى تذكر أن الأجر على قدر المشقة.
شعور السكينة والرفاهية الإيمانية يحدوك أن تفكر كيف تحافظ على رصيد حسابك.. الذي يمنحك من مكة حصريًا تسهيلات مستقبلية وضمانات إلهية «من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه»، وأنت في زمن كل سوق فيه أصلها الخسارة، الرابح فيها قليل.. مكة وحرمها أولى من أي عقار بالاستثمار المضمون الذي لا يقبل اهتزازات بورصة سماسرة التثمين.. ولا تنبؤات مخضرمي العقاريين.. حُسم أمر الضمان فيه بوحي من الله على لسان رسوله، صلى الله عليه وسلم.. فأين الباحثون عن الضمان الإلهي في أقدس بقعة؟ حينما يتلاقى شرف الزمان والمكان بعمل صالح خالص.. ليكون المولود أجرًا متقبلًا ورضوانًا من الله أكبر.
تلك كانت معاني آسرات استنطقتها عيني وهي تصافح الكعبة، تلك التي جعلها الله في مركز الأرض، فكانت وسطيتها الجغرافية خير دليل على وسطية دين الإسلام ووسطية الأمة.