مدن

ساعة بيغ بن

رمز بريطانيا الأشهر

تقف شامخة في لندن، وتدل على الوقت بدقة منذ عام 1859 .

• لندن : علي صبحي

Bigben_pict1

أن يُقبض على الوقت فهذا مستحيل . أن تُسجن الدقائق كأن الذات تسجن نفسها في عالمها الخاص . الزمن هو الأحداث التي تحدث كيفما تحدث، وأينما حدثت هو وقتها الفعلي، ووقت حدوثها، وانبعاثها، واكتمالها أو اندثارها وتلاشيها في ذلك المكان . هذا المكان هو لندن، وذلك الوقت هو وقت حركتها وأحداثها، ولكي لا يذهب هذا الوقت في انسياباته دون إشعار كان لا بد من التذكير بحدوثه جهارًا وعلى الملأ . على مدار الساعة، هذا المدار هو ضابط أوقات العالم ومنظم نشاطه، وحروبه، وسلمه، وسبل عيشه . إنها بيغ بن .

  • عُدت دلالة على مدى اهتمام البريطانيين بالوقت والنظام

  • بيغ بن صنعت ووضعت على أحد أبراج البرلمان البريطاني الجديد بعد أن التهمت النيران المبنى القديم

  • لتعديل عمل الساعة طريقة فريدة قائمة على تحميل البندول بقطع نقدية قديمة متعادلة الوزن

بيغ بن المعلم الأكثر شهرة في لندن، والرمز الأكثر تعارفًا عليه فيما يخص المملكة المتحدة، ولطالما عدت دلالة على مدى اهتمام البريطانيين بالوقت والنظام، وهي تقف اليوم شامخة كشاهدة على التاريخ منذ عام 1895 مجاورة لمبنى البرلمان، ومقابلة لنهر التايمز، ومستعرضة جمال تصميمها أمام آلاف السائحين الذي يتجمعون تحتها كل يوم لالتقاط صورة معها . Bigben_pict2

البرج الشمالي

« بيغ بن » تسمية تطلق على الساعة المثبتة فوق البرج الشمالي لمبنى البرلمان البريطاني، وهي مثبتة في الوجهات الأربع، ويمكن رؤيتها من أي اتجاه، واسم « بيغ بن » هو تصغير لاسم وزير الأشغال البريطاني « بنجامين هول » الذي أشرف على تصميم الساعة وتنفيذ برجها، وقد اكتسب الجرس الكبير المعلق الذي تدوي دقاته في سماء المدينة تسمية « بيغ بن » ، ومن ثم تبعته الساعة، فيما بعد، بهذه التسمية .

عمل الساعة

بدأت ساعة « بيغ بن » عملها في 3 يونيو عام 1859 ، وقد قام بتصميمها إدموند بيكيت، وصنعها إدوارد دنت، وخلفه بعد مماته فريدريك دنت، ولطريقة عمل الساعة تفرد ميكانيكي يعود إلى خبير الساعات الإنجليزي إدوارد دنت الذي ابتكر نظامًا يعزل عمل الساعة وحركتها عن الجاذبية وعن أي تأثير خارجي من خلال فصل « البندول » أو رقاص الساعة عن عمل الساعة الميكانيكي، تخفيفًا للاحتكاك الذي يولد البطء، حيث قام بتركيز « البندول » في صندوق عازل وضع تحت الساعة في ذلك البرج الكبير .

طريقة فريدة

ولتعديل عمل الساعة طريقة فريدة قائمة على تحميل « البندول » قطعًا نقدية قديمة متعادلة الوزن، وعند سحب إحدى تلك القطع أو زيادتها، يؤدي ذلك إلى تغيير سرعة الساعة بمقدار 2 . 5 أعشار الثانية في النهار الواحد .
يبلغ ارتفاع البرج 96 مترًا، وهو يعكس النمط « الغوتي » في العمارة الغربية، وقد بني القسم الأكبر منه من حجارة ممزوجة المواد تجعلها صلبة ومتينة، أما القسم المتبقي وهو القبة التي تحمل في جوانبها الساعات الأربع فمصنوعة من الفولاذ .

البرلمان البريطاني

« بيغ بن » صنعت ووضعت على أحد أبراج البرلمان البريطاني الجديد بعد أن التهمت النيران المبنى القديم عام 1834 .
قصر « ويست منستر » هكذا يطلق عليه، ويحوي مجلسي العموم واللوردات، وهو مؤلف من أربعة طوابق، ويضم 1100 غرفة، و 100 سلم، وزهاء أربعة كيلومترات ونصف من الممرات . يقع القصر في ساحة « ويست منستر » الشهيرة في قلب لندن على ضفة التايمز . وفي أكتوبر عام 1843 شب حريق هائل أتى على معظم قصر « ويست منستر » فيما صمدت قاعة « ويست منستر » الكبيرة داخل القصر . وقد ألفت لجنة ملكية لدراسة إعادة إعمار ما تهدم في ذلك الوقت، وقد خاضت هذه اللجنة نقاشات علنية كثيرة دارت حول النمط المعماري الجديد للقصر، وانقسمت الآراء إلى وجهتي نظر . الأولى تقول بوجوب الأخذ بالنمط النيو كلاسيكي في العمارة، وهو نمط كان جديدًا في ذلك الوقت على غرار ما شيد به البيت الأبيض والكونغرس الأمريكيان، وهو نمط معماري يحمل في نسقه الفني وجهًا من وجوه الثورة والفكر الجمهوري .Bigben_pict3
أما وجهة النظر الثانية فقد كانت نظرة محافظة، ودافعت بشدة عن النسق « الغوتي » ، وأرادته وجهة القصر الجديد . بعد مرور سنة على ذلك الجدل والاعتراض حسمت اللجنة المسألة، وأعلنت أن القصر سيشيد على الطريقة الغوتية .
هذا القصر هو أحد شواهد هذه المدينة الكثيرة، وهو، كما يُطلق عليه « سيد البرلمانات » ، وصرح تاريخي يبدأ ذكره في كتب التاريخ منذ العصور الوسطى، وفي كل الأحوال هو أحد رموز هذه المدينة الكبيرة التي لا تنفك تبهر السائح بعظمة عمرانها، وشدة تنظيمها، وحدة قوانينها، فهي تسحر العين التي تنظر إلى معالمها عند كل عمل تقدمه وتنظمه جذبًا للوافدين إليها، ودلالة على صلابتها وبقائها منذ زمن بعيد . إحدى تلك الدلالات على تاريخ المدينة الحديث التي لم يدخلها أي جيش غازٍ، هو تمثال ونستون تشرشل المنصوب مقابل مبنى البرلمان، كأنه التاريخ يسجل انتصارًا على الزمن .

هوية المدينة

يحتل هذا القصر مساحة واسعة في « ويست منستر » ، ويرتفع متعاليًا بلونه الأصفر فوق نهر التايمز، لكنه رغم ارتفاعه، وصلابته، وهندسته المحافظة، إلا أنه أصبح طرفًا في الدلالة على هوية المدينة، فهو لم يعد وحيدًا في رسم تلك الهوية أو تحديدها، شأنه شأن الكثير من الأبنية والنصب القديمة، إذ تنتصب أمامه على الضفة المقابلة للتايمز الـ « لندن آي » ، وهي أكبر دولاب بني في العالم حتى الآن، ولم يكن التاريخ، أو الحروب، أو السياسة حافز البناء، إنما هي السياحة بامتياز .
ترتفع الـ « لندن آي » أو عين لندن 450 قدمًا، ويبلغ وزنها 1600 طن، وقد صنعت أقسامها بين فرنسا، وإيطاليا , وتشيكيا، وبدأت تستقبل الزوار عام 2000 .

معانٍ كثيرة

من الغريب، فعلاً، أن تتغير الدلالات . لقد رأينا قصر « ويست منستر » أو البرلمان مستمرًا منذ القدم، وسمعنا قبله صوت « بيغ بن » ، والآن رأينا « لندن آي » ، وكل هذه المعالم مشيدة مقابل بعضها، وترمز إلى معانٍ كثيرة حدثت وتحدث في هذا البلد وكأنها تتنافس على التعريف به للوافدين إليه . لكنها وبقربها الجغرافي هذا، وتباعدها التاريخي، واختلافها الوظيفي، وتنوعها الهندسي، تطرح تساؤلًا فريدًا في صياغته، وصعبًا في إيجاد إجابة عنه وهو : مَنْ يصنع مَنْ التاريخ أم الاقتصاد؟