إن مفهوم الإعلام بشكل عام يعني أنه نشاط إنساني يهدف إلى التواصل مع الآخرين، والتأثير فيهم، والتأثر بهم عبر وسائل اتصال متعددة. ويعد الإعلام اليوم أحد أهم مصادر تشكيل الرأي العام، وأحد الوسائل البارزة لصياغة أنماط التفكير ومعايير القبول أو الرفض لثقافات العالم، ولم يعد وسيلة للترفيه أو نشر الأخبار فحسب، بل غدا صانعًا للأفكار منتجًا للقيم مهندسًا للنجاح أو صانعًا للفشل، وأصبح قوة هائلة من يمتلكها بوعي وجدارة يكون قد كسب إحدى أكبر جولات التأثير في الرأي العام. إنها قضية في غاية الأهمية والخطورة، قضية تأثير أجهزة الإعلام بجميع أنواعها، وما لها من أبعاد اجتماعية، وسلوكية، ونفسية، وإنسانية عميقة تمس حياتنا، وتلمس مستقبل أطفالنا، وتؤثر في نفوسهم دون وعي منا، ولا يختلف عاقلان على مدى تأثير الإعلام في ثقافتنا وسلوكنا. وقد أصبح الإعلام المرئي في عصرنا الحالي الأخطر بين الوسائل الإعلامية المختلفة، لوجوده معنا طوال ساعات اليوم، ويعرض من خلال شاشاته كل شيء بلا استثناء الثمين والغث، والطيب والخبيث، والخير والشر، والصالح والطالح، والواقع والخيال، والحق والباطل، والراقي والمتخلف، ونستقبل من خلال برامجه ما يسمو بالروح أو يسهم في سقوطها، ونحن في خضم أعمالنا ومشكلاتنا، وفي غمرة الأحداث اليومية التي نمر بها، وانشغالنا بتوفير مستلزمات الحياة قد نقصر في بعض الأمور، ونسهو عن أشياء لها أهمية كبرى على المدى البعيد، فتغيب عنا مهمة تعزيز بعض القيم والمبادئ لفلذات أكبادنا، لأننا لم نمنحهم الوقت الكافي، ولا أبالغ لو قلت إن تأثير بعض القنوات السلبي أصبح خطرًا حتى على البالغين، ولكن خوفي الشديد ينصب على أطفالنا، فهم عماد الوطن، وصانعو المستقبل، بجانب أنهم يمتلكون أجهزة استقبال خطيرة متيقظة متنبهة دقيقة تسجل كل ما يدور حولها، والأهم أن التقليد من خصائص نموهم، فبالتالي يطبقون كل ما يرونه ويسمعونه على أنه الصواب، من وجهة نظرهم، وهناك العديد من المواقف التي يصعب على عقولهم فهمها فهمًا صحيحًا، ونحن في غفلة عنهم، ونفاجأ بتصرفات، وطلبات، وتعبيرات، وسلوكيات، وأقوال غريبة عنا، ونجد مع مرور الوقت أن هناك قيمًا ترسخت في أذهانهم، وأفكارًا تسللت إلى عقولهم، وسكنت ضمائرهم، وأدت بالتالي إلى تسرب بعض القيم والعادات الغريبة إلى بيوتنا، إلى جانب اكتسابهم الفهم الخاطئ لمعنى الحرية.
أطفالنا هم براعم في مرحلة التأسيس والتشكيل والتكوين، لا يفرقون بين الصواب والخطأ، بين الخير والشر، فهناك العنف الذي يحسبونه شجاعة وإقدامًا، وهناك السخرية، والتهكم، والألفاظ الخارجة عن الأدب التي يعدونها ممارسة لحرية شخصية، أما ثورة الفيديو كليب فحدث ولا حرج، فهي تقدم لنا أسوأ النماذج في السلوك والأخلاق، ويصبح الغريب لهم مألوفًا، والضار محببًا، والشاذ طبيعيًا، ويسمع الأطفال في الإعلانات ألفاظًا غريبة وكلمات سوقية تؤثر في لغتهم ومفرداتهم، ما يعطل قدراتهم العقلية واللغوية والفكرية، نتيجة الاستمرار في مشاهدة البرامج الترفيهية، وتقمصهم العادات الغريبة عن عادات مجتمعنا وقيمه، ما يروج لأشكال من التربية الموازية التي تلحق الضرر بدور المؤسسات التربوية، ويشوش على دور المدرسة، ويؤثر في متابعتهم دروسهم، إذ يستحوذ على وقت أطول مما يخصص للاستذكار وعمل الواجبات، كما أن مشاهدة الطفل البرامج المثيرة تجعله طفلاً خائفًا قلقًا، بالإضافة إلى خلطه بين الواقع والخيال.
ويؤكد الأطباء وعلماء النفس أن جلوس الأطفال أمام التلفاز ساعات طويلة يهدد صحتهم البدنية والعقلية، ويؤثر في حواسهم البصرية والسمعية، ويحد من حركتهم، وكان باحثون في جامعة فلورنسا قد درسوا التأثيرات الناجمة عن الأشعة التلفازية للأطفال الذين اعتادوا مشاهدة التلفاز فترة تصل إلى أكثر من ثلاث ساعات يوميًا، فاكتشفوا أن مستويات الميلاتونين لديهم نقصت عن المتوسط، وهو هرمون يعرف باسم «هرمون النوم»، له علاقة بتعجيل البلوغ في سن مبكرة في حال انخفاضه، وعلينا أن ندرك أننا نعيش الآن أمام منعطف خطير في ظل هيمنة الغزو الفكري المدمر لمبادئنا وتقاليدنا، إنها مسؤوليتنا جميعًا، ولا بد أن نواجهها، ونتحملها، ونتصدى لها بكل حكمة وتعقل ومنهجية سليمة، لعلنا نستطيع أن ننشئ إعلامًا أسريًا تربويًا ينطلق من ثقافتنا وجذورنا، لنحمي أبناءنا من الانجراف.
لقد باتت بصمة الإعلام اليوم على الأشخاص المولعين بالتلفاز أو الإنترنت أكبر من أن تنكر، وأبرز من أن يتجاهلها المعنيون بمستقبل الأجيال التي وإن ارتفع سقف خياراتها الاتصالية فإنه لم يتزامن مع ارتفاع سقف الأداء التربوي الذي ظل باهتًا في كثير من البيوت والأسر التي أصبحت عاجزة عن التكيف مع الطفرة التقنية، حيث صدم بها جيل كامل من المربين عجز عن ترشيد الاستخدام التقني، ولم يفهم كيف يصنع لأبنائه مظلة تقيهم شرور تلك الطفرة.
إننا نعيش في عصر يحكمه ويديره الإعلام بشتى وسائله: المرئية، المقروءة، المسموعة. وقد غير الكثير من ملامح حياتنا، ولم نعد قادرين على المتابعة والتمييز، وأتت الشبكة العنكبوتية فزادت الطين بلة كما يقولون، فنحن بحاجة إلى إرساء إعلام تربوي واعٍ ينهض بالمجتمع ويتصدى لما بدأ يتغلغل فيه من انحرافات فكرية، ويحقق لأفراده الفهم الواعي والحس المتنامي، حيث تترسخ من خلاله القيم الدينية، والثقافية، والأخلاقية، والاجتماعية, وبالتالي نضمن سلامة الفكر، والميول، والسلوكيات، ونحقق مجتمعًا راقيًا.
|
إعــــلام ينهض بالمجتمع
• أميمة عبدالعزيز زاهد |