أمجد ناصر:
الذاكرة من ثوابت كتابتي
من المستحيل لأي عمل فني أن يكون مرآة للواقع، لأنه ليس عين كاميرا.
• عمَّان: أهلاً وسهلاً
«إنني شخص ضجر، قلق، غير صبور، متطلب أكثر من اللازم ربما، لذلك لا أستبعد أن تكون كتابتي، شعرًا ونثرًا، انعكاسًا ما لشخصيتي، لطبيعتي، لتكويني الأول».. هكذا يحاول الشاعر الأردني، المقيم في لندن، أمجد ناصر تعريف نفسه بعد رحلة جاوزت الثلاثين عامًا في القصيدة والاغتراب.
|
|
|
|
رحلة التمرد بدأت على العائلة والانتماءات الضيقة.. وربما على اسمك.. ولاحقًا على قصيدة التفعيلة والوزن.. وفيي أثنائها على الانتماء السياسي.. ويستمر التمرد رحلة في التجريب والتطواف طريقًا للشعر والسفر، لماذا كان هذا الطريق وأين يقف أمجد ناصر اليوم؟
لا أعرف بالضبط على أي أرض أقف. بصدق أقول لك، مستعيرًا النفريّ، إنني في موقف الحيرة. من قبل كانت الأمور أسهل. لم يكن يطول تساؤلي عن ماهية الشعر والنثر. كان لكل واحد خزانته، كما يقولون. هناك خانات جاهزة صنعها غيرنا وكان سهلاً علينا أن نضع ما نكتب في تلك الخانات. لا أعرف فعلاً إن كان أبناء جيلي يتقلبون في الحيرة حيال سؤال الكتابة اليوم مثلما أنا عليه. لا أعرف ذلك لسبب بسيط، لأنني أقيم في الخارج منذ أكثر من ثلاثين سنة ولم تعد لي علاقات يومية مع هؤلاء. لكن مطالعتي لما يكتبون لا تعكس حيرة تشبه حيرتي، ولا قلقًا يشبه قلقي.
قد أكون مخطئًا بالطبع. أعترف لك أنني لا أعرف، بالضبط، رأيهم الصريح في مشروعي الكتابي، أو بالأحرى، ما وصل إليه مشروعي الكتابي بالعموم وليس فقط مشروعي الشعري، وإن كان بعضهم كتب مثنيًا عليه. عندما أقلب أعمالي الشعرية التي صدرت في مجلد واحد العام الماضي في عمّان في طبعة ثانية أرى طريقًا متعرجة، طريقًا تبدأ من نقطة محددة وواثقة وتنفتح شيئًا فشيئًا على ما يشبه المجهول أو المتاهة.
لقد كان الشاعر عباس بيضون الذي قدّم للطبعة الأولى من أعمالي الشعرية الصادرة عام 2002 مصيبًا عندما قال إن هذه الرحلة أمام منعطف. هل هذا التعرج، أو حتى التقلب في الخط والطريق لهما علاقة بطبيعتى المتقلبة؟ لا أعلم. ما أعلمه أنني شخص ضجر، قلق، غير صبور، متطلب أكثر من اللازم ربما، لذلك لا أستبعد أن تكون كتابتي، شعرًا ونثرًا، انعكاسًا ما لشخصيتي، لطبيعتي، لتكويني الأول. وإلا ما الذي جعلني أفر من قصيدة التفعيلة والوزن عمومًا وأنا بصعوبة أتوافر على ديوان واحد؟ ثم أواصل الانقلاب على نفسي من عمل إلى آخر؟ يحلو لي أن أتصور أنني أبحث، كل هذا الوقت، عن قصيدتي المثالية، عن كتابتي المثالية، عن أرض أستقر عليها. وأنا تقلبت في بلدان ومدن عديدة ولم أعرف الاستقرار النهائي رغم أنني أقيم في لندن منذ عشرين سنة. لكني بقيت أشعر، في داخلي، أنها إقامة مؤقتة، وأنني بانتظار عودة ما، أو الوصول إلى أرض ما.
أنت دائم التقليب في الذاكرة.. بحثًا عن قراءة جديدة.. قصيدة جديدة.. تاريخ جديد، كيف تعرّف الشعر؟
الشعر كما يبدو لي ليس مجرد إلهام، أو انفعال عابر. الانفعال مهم بالتأكيد، لأنه يعكس تحركًا لأعماق متحفزة وليس محرك القصيدة الوحيد، ولا ينبغي أن يكون مربط فرسها. هناك نوع من البحث في الشعر. الشعر نفسه يتطلب شيئًا كهذا، لذلك ربما يصعب أن تجد تعريفًا قاطعًا للشعر، وما تعدد تعريفاته سوى تعبير عن تعدد أرضه والطرق إليه.
ولعل الشعر لم يكن صعب التعريف كما هو عليه اليوم، لأنه لم يكن عرضة للتجريب والمغامرة كما هو عليه اليوم. عندما تحدثت عن الخطأ والانحراف فليس ذلك بالمعنى الأخلاقي للكلمة، بل بمعنى عدم الخشية من ارتياد طريق غير الطريق المألوفة. فربما بالانزياح عن هذه الطريق المألوفة والمطروقة توجد لقى وأعطيات تنتظرنا هناك، أما فكرة الخيانة فهي تتعلق بعدم الوفاء للمنجز والركون إليه. هذه ليست وصفات جاهزة للكتابة وقد لا تعني أحدًا غيري. فهناك شعراء لا يغادرون أرض كتابتهم الأولى مهما صغرت ويأتون دائمًا بجديد أو بمختلف، أو ينوعون على ما كتبوا ولا يبدو لنا هذا التنويع مضجرًا أو مكررًا.. يمكن أن يحدث هذا.
قد يقول قائل إنني لا أختلف كثيرًا عن هؤلاء من حيث اعتمادي على الذاكرة والعودة إليها مرة فأخرى. أوافق، إلى حد كبير، هذا الرأي. فالذاكرة من ثوابت كتابتي. إنها مخزن غير قابل للاستنفاد لا عندي ولا عند غيري. ولكن الذاكرة ليست مسرح قصيدتي الوحيد، هناك الحاضر أيضًا بوجوهه المتجهمة، بصعوبة فهمه، بمحاولة ربطه بصيرورة ما. يمكن لمس ذلك في أكثر من عمل خصوصًا في «حياة كسرد متقطع» بل ربما قبله بكثير مثل كتابي «منذ جلعاد».
أزعم أن القصيدة هي التي تبحث عن الجديد، عن التوسع، عن وجوه مختلفة للمعنى، وليس الشاعر فقط. حتى عندما تعود القصيدة إلى ما فات، تلتقطه بعين وحساسية مختلفتين، فلا يعود الماضي، والحال، هو الماضي نفسه. من المستحيل على أي عمل فني أن يكون مرآة للواقع كما يقولون، لأنه ليس عين كاميرا، حتى عين الكاميرا تلتقط جزءًا من الواقع لا الواقع كله، فما يقع خلفها لا تراه، كما أنها لا ترى أبعد مما تتيحه لها بؤرتها.
الجسد يصير مكانًا تحط فيه القصيدة، هكذا كان الطريق في لندن وبعدها.. لديك علاقة خاصة في كل الأمكنة التي عشتها أو زرتها.. هو يكتب معك النص ويفرض مناخاته ولو بعد حين.. رغم أنك دائم التمرد على كل الأمكنة التي عشتها...
لا أظن أن هناك عملاً إبداعيًا يتحقق خارج إطار الظرفية التي تعني الزمان والمكان. قد تكون الظرفية هي الماضي، وقد تكون الحاضر، ولكن في كل الأحوال يظل الرابط الظرفي موجودًا. الجسد هو مكان أيضًا. بل هو شكل الإقامة الأكثر وضوحًا للكائن. إنه وعاؤه الأول وربما الأخير. به يأتي إلى الدنيا وبه يغادر. هذا حيز والحيز يعني مكانًا. للمكان أشكال ظهور في الكتابة الشعرية تختلف، حسب ظني، عنها في الرواية أو القصة. عمومًا، يرصد حركة الإنسان في حيز مكاني وزماني قد لا يكونان مسميين، ولكن عدم التسمية هذا لا يغير من حقيقة أن هناك مكانًا له مواصفات معينة يلحظها النص القصصي. المكان في الشعر أكثر مراوغة وتعقيدًا، وأقل مباشرة مما هو عليه في القص. المكان في القصيدة ليس اسم علم بالضرورة، ليس بلدة أو قرية أو مقهى أو شارع، قد يكون كذلك ولكنه قد يكون معنويًا أو رمزيًا. أرى القصيدة نفسها كمكان. إنها إطار لغوي وشعوري وصوري يصنع مكانه الخاص به.
بالنسبة لي المكان كان واضحًا في بعض أعمالي وكان متضمنًا وغير مسمى في أخرى. وعندما تحدثت عن الجسد كمكان فذلك في مواجهة رجراجية ورخاوة المكان الفعلي أو عدم انتمائي إليه، أو عدم تحوله إلى مؤثر فعلي داخل نصي. اللجوء إلى الجسد يتم، أحيانًا، كحال من الهرب من إكراه ما. من عسف ما. أو من اغتراب ما.
في حالتي كان الاغتراب قرينًا لشخصي ونصي وربما لمشاعري. لاحظ كيف برز شعر ورواية الجسد في العالم العربي بعد حالة تشبه الانكسار السياسي أو تراجع المشروع العربي الشامل. كأن الأمر بمنزلة لجوء إلى معلوم أكيد، هو الجسد، في ظل انعدام اليقين في الواقع. لكن سؤالك يجعلني أفكر في المكان الغائب أيضًا. كأن أكتب قصيدة في لندن عن ذكرى بعيدة في عمان أو المفرق أو الزرقاء. هنا مكان يحضر ولو على شكل نتف وشظايا من الذاكرة ومكان واقعي يغيب عن النص. ربما لو كتبت نصًا كهذا في مكان آخر، أقل رمادية وأكثر وضوحًا وإشراقًا لكانت القصيدة المكتوبة عن مكان الذاكرة مختلفة.
هل كان كتاب «طريق الشعر والسفر» تحررًا من الماضي، مقولة احتبست واختمرت وكان لا بدّ من قولها.. هل هو البيان الشعري والشخصي.. لكنه جاء بعد تحررك بشكل عملي في القصيدة وفي خيارات الحياة؟
«طريق الشعر والسفر» شهادة تتضمن ما هو سيري وما هو كلام في القصيدة وشكلها، خصوصًا قصيدة النثر. هكذا أراه مزيجًا من سرد الذات وتبيان تأثراتها ومن رؤية للقصيدة بنيةً وشكلاً. بهذا المعنى قد يشكل ما يشبه البيان ولكن المتأخر. إنه بيان زمن وجيل ومشاغل قد لا تكون حاضرة اليوم بالقوة نفسها لحضورها في السابق. أفضل أن أسميه شهادة. طبعًا عندما تكتب أنت تتحرر من قيد. الكتابة هي عملية لفظ بقدر ما هي عملية بناء وتشييد.
المهم في أمر هذا الكتاب أنني لم أكن بصدد كتابة سيرة ذاتية أو سيرة شعرية. فيه من سيرة القصيدة أكثر مما فيه من سيرة الذات. في كل الأحوال إنه محاولة لإثارة سجال ما داخل الحياة الشعرية العربية ولكن للأسف هذا السجال لم يحصل، ربما بسبب قصور أسئلة الكتاب، وربما بسبب حالة الكسل المعرفي وما يشبه العدمية في حياتنا العربية على غير صعيد. العجيب أن لا شيء اليوم يحرك الحياة العربية، لا الأحداث الجلل التي تعرفها، ولا قضايا الفرد وأسئلة الفن والكتابة. يؤسفني القول إننا نعيش حالة من البيات أو حتى الموات التي لا أعرف كيف نخرج منها. هناك صحوات على ماض ونسيان شبه تام للحاضر ولحضورنا في العالم. الماضي عندنا لا يموت ولا ينزوي ولا يترك للحاضر، ناهيك من المستقبل، أن يولد.