April_09Banner

إسلاميات


الرخصة في الإسلام
Report2_1

• أ.د. حسن عبدالغني أبو غدة
كلية التربية، جامعة الملك سعود

يتردد على الألسنة في أثناء الحديث عن سماحة الإسلام ويسره وواقعيته لفظ «الرخصة»، فما الذي يراد بهذا اللفظ؟ وما مدلوله؟ وما ميادين استعمالاته؟

حقيقة الرخصة
لفظ «الرخصة» من المصطلحات الإسلامية الأصيلة، ويقابله لفظ آخر أو مصطلح آخر هو «العزيمة».
والعزيمة في اللغة: القصد إلى الشيء، ومن ذلك قول الله تعالى في الآية 115 من سورة طه عن آدم عليه السلام }فنسي ولم نجد له عزمًا{. أي: لم يقصد مخالفة أوامر الله تعالى بأكله من الشجرة.
والعزيمة في المعنى الشرعي: ما شرع ابتداء على وجه العموم، أو هي بتعبير آخر: الحكم الثابت من غير مخالفة دليل شرعي.
وقد شرعت أساسًا لتكون نظامًا عامًا لجميع المكلفين في جميع الأحوال، مثل الصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، وغيره من التنظيمات والتشريعات التي تحقق مقاصد الإسلام في صيانة الدين، وحفظ النفس، والعقل، والنسل، والمال.
أما الرخصة فهي في لغة العرب: اليُسر والسهولة، وهي في المعنى الشرعي: ما شرع من الأحكام بقصد التخفيف عن الناس المكلفين، في أحوال وأعذار خاصة تقع لهم. أو هي بتعبير آخر: استباحة المحظور مع قيام الحاظر.

بين الرخصة والعزيمة
مما لا شك فيه أن الله شرع الأحكام والتنظيمات والآداب والتكاليف، أساسًا، لتؤدى ويعمل بها في الحياة الإنسانية، وذلك من أجل تحقيق مصالح الناس ودفع الأذى والضرر عنهم، ونيل رضوان الله تعالى في الطاعة والامتثال.
ومن تلك الواجبات ما شرعه الله تعالى من صلاة، وصيام، وحج، وصدق، وأمانة، وبر، ومعروف، ووفاء بالعهد، وأحكام وتنظيمات تحمي النفس والمال والعرض.
ومن تلك الأحكام، أيضًا، ما نهى الله تعالى عنه كشرب الخمر، وتعاطي المخدرات، وشهادة الزور، وغش الناس، وإيذائهم في أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم، وحقوقهم، ومشاعرهم.
ويُعبر عن أحكام هذه الواجبات والمحرمات بأنها «عزيمة» بمعنى أنها شرعت من أجل الله تعالى ابتداء من أجل الطاعة والابتلاء والامتثال بفعل المشروع منها والامتناع عن المحظور منها.
لكن قد يعرض لبعض الناس المكلفين أعذار وأحوال تجعل امتثال تلك التكاليف، سواء بالفعل أو الامتناع عن الفعل، أمرًا متعذرًا أو متعسرًا في الحياة العملية، لذا شاءت رحمة الله تعالى أن يقرر في حق هؤلاء الذين يشق عليهم الامتثال والطاعة أحكامًا أخرى مخففة على سبيل التيسير والتسهيل ومواءمة الواقع، ولو بترك ما كان واجبًا، أو بفعل ما كان محرمًا، وهذا ما يقاله له «الرخصة».
وبهذا يكون العمل بالأحكام والتكاليف على النحو الأصلي الذي شرعت عليه «عزيمة» كما يكون العمل بها على غير الأصل الذي شرعت عليه، بل على سبيل التسهيل والتيسير ومواءمة وقائع الحياة «رخصة».

مشروعية الأخذ بالرخصة
لا خلاف بين المسلمين في أنه يجوز للمسلم الأخذ بالرخصة امتثالاً لأمر الله تعالى، لا بدافع التهرب من التكاليف والواجبات الشرعية، والعبث بالأحكام واستحلال المحظور.
بل إن الترخص من بعض التكاليف والأحكام واجب ومطلوب في الشرع، ويعد حينذاك عين الامتثال والطاعة لله تعالى، وقد قامت الأدلة من القرآن والسنة على أصل ذلك، يقول الله تعالى مرخصًا للمريض وللمسافر الإفطار في رمضان: }ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أُخر{. البقرة 185.
وأخرج الإمام أحمد والدارقطني عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته».

أنواع الرخصة
تتنوع الرخصة إلى عدة أنواع أبرزها ما يلي:
النوع الأول: إباحة الفعل المحرم عند الضرورة: سواء كان الفعل المحرم متعلقًا بحق الله تعالى أو بحق الناس، ولا إثم عندئذ في الإقدام على الفعل المحرم، غير أنه يترتب على تجاوز حق الناس وقتئذ وجوب التعويض لهم عن الأضرار التي نزلت بهم، ومن أمثلة ذلك، في حق الله تعالى وفي حق الناس، ما يلي:
• التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه مع اطمئنان القلب بالإيمان: قال الله تعالى: }من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرًا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم{. النحل106.
وقد روى الحاكم وغيره بسند صحيح: أن كفار قريش أخذوا عمار بن ياسر فعذبوه، ولم يتركوه حتى سبَّ النبي، صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، ثم جاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما كان منه، فقال له: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، قال: إن عادوا فعُد، ونزلت الآية: }إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان...{.
ومن هذه الرخص التي تتصل بحق الله تعالى أيضًا، أكل الميتة والخنزير، وشرب الخمر، والإفطار في نهار رمضان، للمضطر وللمكره.. وذلك لعموم قوله تعالى: }فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه{. البقرة 173.
• إتلاف مال الغير اتقاء لضرر أكبر: من الأمور المتفق عليها في الإسلام أنه يحرم الاعتداء على مال الغير أو أخذه بغير إذنه، إلا أنه يجوز للمضطر أن يأكل من مال غيره دون إذنه بقدر ما يدفع به الهلاك عن نفسه جوعًا، ولكن ينبغي عليه أن يعوضه عن ذلك.
كما يجوز للإنسان إتلاف ممتلكات غيره لمنع انتشار حريق، مثلاً، أو امتداده إلى أماكن أخرى وتسببه في وفاة نفوس بريئة، ولكن يجب تعويض صاحب الحق «المتضرر» عن حقه المتلف «الضرر» حال هذه الضرورة، وذلك عملاً بالقاعدة الفقهية المتفق عليها عند العلماء من أن: «الاضطرار لا يبطل حق الغير». ولا يعد هذا التصرف في هاتين الحالتين ونحوهما اعتداءً مقصودًا بالمعنى الشرعي، بل هو رخصة استثنائية مشروعة، لا يترتب عليها أي مؤاخذة أو أي إثم شرعي.
النوع الثاني: إباحة ترك الواجب دفعًا للمشقة: ومن صور ذلك ما يلي:
• التيمم عند فقد الماء أو العجز عن استعماله: وبيان ذلك أن الوضوء، أصلاً، واجب للصلاة، فمن عجز عنه أبيح له تركه، ويتحول حينئذ إلى التيمم للآية 106 من سورة المائدة: }وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا...{.
وفي هذا السياق أخرج أبو داوود عن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت بماء بارد أن أهلك، فتيممت وصليت بأصحابي الصبح، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عمرو، أصليت بأصحابك وأنت جنب؟! فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وأنني تذكرت قول الله تعالى: }ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا{ فتيممت وصليت، فضحك النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئًا.
• الصلاة جالسًا أو على جنب حال العجز عن الوقوف: من المعلوم أن الوقوف في صلاة الفريضة واجب للقادر عليه، لكن ذلك يسقط عن غير القادر، لما أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عاده وهو مريض وقال له: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبك».
• قصر الصلاة الرباعية في السفر إلى ركعتين: وذلك للآية 101 من سورة النساء: }وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة{. أي: تصلوا الرباعية اثنتين حال السفر. وحينما سُئل النبي، صلى الله عليه وسلم، عن سبب قصر الصلاة الرباعية إلى اثنتين في السفر قال: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته». أخرجه مسلم.
• الإفطار في نهار رمضان للمسافر والمريض والحامل والمرضع ونحوهم: وذلك لعموم الآية 185 من سورة البقرة: }ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين...{.
وفي سياق الإفطار في نهار رمضان حال السفر، أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: «كنا نسافر مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في شهر رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلا يجد، أي، لا يغضب، المفطر على الصائم ولا الصائم على المفطر، وكانوا يرون أنه من وجد قوة فصام محسن، ومن وجد ضعفًا فأفطر محسن».
النوع الثالث: إباحة بعض المعاملات المالية مع أنها مخالفة لقواعد الشريعة العامة:
أرسى الإسلام قواعد عامة في العقود المالية، وألزم المكلفين العمل بها ونهاهم عن مخالفتها، لكون تلك القواعد تسهم في حفظ الحقوق ومنع النزاعات بين الناس، ومن تلك القواعد: أنه نهى عن بيع المعدوم، كما نهى عن بيع ما لا يملكه الإنسان، لما قد يترتب من نزاع وخلاف حال العجز عن تسليم المبيع، أو الإتيان به على غير الوصف المتراضي عليه بين المتقاعدين.
غير أنه نظرًا لحاجة الناس إلى بعض المعاملات المالية، ودفعًا للحرج عنهم، ومواءمة لوقائع حياتهم، وتحقيقًا لليسر والسماحة والمرونة التي جاء بها الإسلام، شرع للناس بعض المعاملات المالية التي تخالف هذه القواعد العامة، ولكنه ضبطها بضوابط واضحة، واشترط لها شروطًا تحفظ حقوق المتعاملين بها، ولا يبقى معها مجال للنزاع والخلاف فيما بينهم، وذلك كبيان صنف المبيع، ومقداره، ووقت تسليمه، وثمنه، وأجور شحنه.
ومن هذه المعاملات التي أباحها على سبيل الرخصة والاستثناء: عقد السلم، وعقد الاستصناع «المقاولات والتوريدات» وعقد الإجارة، وعقد المزارعة ونحوه من العقود المالية التي تخالف القياس، إلا أن للناس فيها حاجة ملحة.
روى الشيخان عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم».

حكم العمل بالرخص السابقة
يختلف حكم العمل بالرخص السابقة وأشباهها بحسب حال المكلف ونوع الرخصة، وبيان ذلك على النحو التالي:
• قد يكون العمل بالرخصة مباحًا: كتلفظ كلمة الكفر حال الإكراه عليه، فيجوز للمسلم أن يتلفظ بها، كما يجوز له ألا يتلفظ بها، إلا إذا ترتب عدم التلفظ بها قتله وهلاك نفسه، فيصبح التلفظ بها وقتئذ واجبًا في حق الإنسان العادي الذي لا يُقتدى به، أما الإنسان القدوة فليصبر وليحتسب في نحو هذا الموقف العظيم من مواقف السمو والإباء والتمسك بالحق، وعلى هذا النحو يحمل موقف الإمام القدوة أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، حينما عذب وأوذي ليقول إن القرآن مخلوق، فأبى وصبر، وأصر على أنه كلام الله غير مخلوق، حتى جعل الله له من أمره فرجًا.
ومن الرخص التي يباح الأخذ بها، أيضًا، التعامل بعقود السلم والاستصناع «المقاولات والتوريدات» وللمزارعة وغيرها من العقود التي يحتاج إليها، ما لم يترتب على ترك العمل بها هلاك النفس، أو هلاك الناس وضياع مصالحهم التي لا بد منها، فيجب عندئذ العمل بهذه الرخصة، لعموم قول الله تعالى: }ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا{. النساء. 29.
• قد يكون العمل بالرخصة أفضل: كفطر المسافر في نهار رمضان، وفطر المريض الذي يخشى زيادة مرضه أو تأخر شفائه إذا هو صام، وكقصر المسافر للصلاة الرباعية إلى اثنتين، وعلى هذا يحمل الحديث السابق: «إن الله يحب أن تُؤتى رخصه...».
• قد يكون العمل بالرخصة واجبًا: وذلك إذا ترتب على تركها هلاك للنفس، كفطر الصائم إذا اشتد جوعه وخاف هلاك نفسه، أو تلف شيء من أعضائه وحواسه.
ومما يروى في هذا السياق ما أخرجه مسلم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، توجه بأصحابه إلى فتح مكة في شهر رمضان وهم صيام، فاشتكى بعضهم شدة المشقة من العطش والجوع، فتناول النبي، صلى الله عليه وسلم، كأسًا فيها ماء فشربه على مرأى من الناس، ففعل بعضهم مثله، واستمر آخرون صيامًا، فلما بلغه استمرارهم في الصوم قال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة»، وذلك لأنهم أعرضوا عن الهدي النبوي في الأخذ بالرخصة الواجبة حال الخوف على النفس من الهلاك أو الضرر البدني.
ومن الرخص التي يجب الأخذ بها، أيضًا، ما فعله عمرو بن العاص حينما تيمم من جنابة وصلى، ولم يغتسل مخافة أن يتضرر بالماء الشديد البرودة، كما سبق ذكر هذا آنفًا.
• أفعال يحرم الترخص فيها ولا يجوز أبدًا: اتفق جميع المسلمين على أن الرخصة لا تكون في الاعتداء على الأعراض والأنفس المعصومة أو المنهي عن قتلها، في أي حال من الأحوال، وتحت أي ظرف من الظروف ولو كان بالإكراه، وإنما كان الأمر كذلك لما للأنفس والأعراض من عصمة ومكانة لا ينبغي تجاوزها والجرأة عليها، قال الله تعالى: }من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا...{. المائدة 32.
فلا يرخص للمسلم في قتل غيره، ممن عصم الإسلام دمه من المسلمين والمعاهدين ونحوهم، لإنجاء نفسه، كما لا يرخص له في الزنى لشدة شبقه وشهوته أو غير ذلك.
بل إنه لو أكره على قتل غيره أو على الزنى، بتهديده بالضرب أو بالحبس أو بالقتل إن لم يقتل أو يزنِ، لا يرخص له في ذلك، بل هو ممنوع منه شرعًا، ولا يحل له فعله، وليست نفسه بأولى من أنفس الآخرين وأعراضهم، ولو قتل غيره مكرهًا كان آثمًا عاصيًا لله تعالى، وفي الاقتصاص منه، أو من الذي أكرهه، أو منهما معًا، خلاف بين العلماء.
كما أنه لو زنى مكرهًا كان آثمًا وعاصيًا وفاعل كبيرة، لكنه لا يحد حد الزنى لشبهة الإكراه، ولا يمنع هذا من معاقبة الحاكم له وتعزيره.
وعلى المسلم إذا ابتلي بنحو هذه الحالات من الإكراه أن يتقي الله تعالى ويصبر، لعل الله يجعل له من أمره مخرجًا.

الخلاصة:
إن الإسلام دين فيه المرونة واليسر والسماحة والواقعية، وهو قد جاء للناس كافة على اختلاف أوطانهم وأزمانهم، وتعدد احتياجاتهم، وتطور أساليب حياتهم ومعيشتهم، وقد شرع لهم جميعًا ما يسعهم ويصلح أحوالهم في السراء والضراء، لا فرق في ذلك بين ظروفهم العقائدية والدينية والتعبدية التي تضيق عليهم أحيانًا، وبين ظروفهم الشخصية الحياتية وتعاملاتهم المالية التي يضطرون إليها أحيانًا أخرى، إذ من المقرر عند عامة المسلمين في نحو هذه الحالات القاعدة الفقهية العظيمة: «الأمر إذا ضاق اتسع»، وذلك مصداقًا لقول الله تعالى: }يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر{. سورة البقرة 185. مع ملاحظة أن هناك أفعالاً لا يشملها الترخص في أي حال من الأحوال، وذلك لمساسها بالنفوس البشرية أو الأخلاق الإنسانية، التي جاء الإسلام لحفظها وصيانتها في الأحوال والظروف والأوقات كافة.