ثقافة


Pict1

الشاعر التونسي أمين دمق:
الشعر يكتبني لا العكس
القارئ التونسي كغيره من القراء في العالم العربي ملَّ الشعر.

• حاوره: بسام الطعان

شاعر تونسي، جعل الشعر أول اهتماماته، ويعد جده أستاذه، فهو الذي أخذ بيده ولم يتركه تائهًا في بيداء الوجد، وشاعرنا الآن ينصرف إلى الكتابة والإبداع الشعري، ويشتغل على نصه في حالة صوفي، ولا هاجس له إلا تطوير أدواته الفنية والتعبيرية.

  • أعدُ الشعر ملازمًا لحياتي، فهو ليس ديكورًا باذخًا يذكي في بعض النفوس المريضة نعرات وشطحات الكِبر

  • الشعر من أكثر الفنون التي تتطلب حضورًا نفسيًا معينًا وحالة تركيز قصوى

  • إن قضية الشعر النثري قضية شائكة ومعقدة للغاية، فهي قصيدة ناشزة وغير ناجزة

متى بدأت تتشكل إرهاصات الكتابة لديك؟
بدأت إرهاصات الكتابة تتشكل لدي منذ سن مبكرة جدًا، ففي سن الرابعة فطنت أسرتي إلى قوة ذاكرتي وسرعة بديهتي، لذلك تولى والدي، رحمه الله، تلقيني عددًا من قصار السور، تقبلتها بكل يسر، وقد فتنت حينها بجمالية الإيقاع ولذته، على الرغم من أنني لم أكن أفقه شيئًا ما كنت أردده بسعادة لا توصف، ولما حلت سنة 1982، وكنت قد بلغت الخامسة تم اجتياح بيروت عن طريق الآلة العسكرية الصهيونية الغاشمة تحت وطأة هذه الفاجعة القومية كتب والدي قصيدة لتأبين شهداء مجزرة «صبرا وشاتيلا» والطريف أنني ما زلت أذكر مطلعها حيث قال: «بيروت يا أرض السلام». هذه القصيدة مثلت أول ما سمعت، والغريب أنني حفظت معظمها منذ قراءة والدي لها للمرة الأولى، ومع دخولي مرحلة التعليم بدأت موهبتي تظهر، ولما بلغت الثانية عشر كتبت أولى قصائدي، وكنت حينها أشعر العالمين إلا أنني فطنت، فيما بعد، إلى أنها خربشات صبية وثرثرة أطفال أذكت جذوتها حماسة المعلمين، فأساتذة التعليم الثانوي الذين لمحوا قدراتي في مادة اللغة العربية عامة، خصوصًا نظم القوافي، وقد كتبت أولى قصائدي التي ترقى فعلاً إلى مفهوم القصيدة الكلاسيكية حسب ابن قتيبة «الشعر كلام موزون مقفى له معنى» في سن الخامسة عشر أي بعد دراسة العروض، ومنذ تلك اللحظة تواصلت مغامرتي الشعرية لتشهد الأشواط والمراحل الضرورية لنضج الشاعر نصًا وشخصًا.

هل تعد الشعر متنفسًا لك وملازمًا لحياتك ومكملاً لها؟
أعد الشعر ملازمًا لحياتي فهو ليس ديكورًا باذخًا يذكي في بعض النفوس المريضة نعرات الكِبْر وشطحاته، وحب الظهور، فبالنسبة لي الشعر كائن حي له ارتباط عضوي بي، لذلك فهو الذي يكتبني لا العكس. إنه صنو النبض وربيب البصر.

ما الأولويات الضرورية للإبداع الشعري من حيث الكيف؟
الأولويات الضرورية للإبداع الشعري هي، في المقام الأول، اللغة، فهذه المؤسسة المتسلطة والمتكبرة التي تتمنع حتى على أكبر الشعراء واللغويين وقد تقف، أحيانًا، حجر عثرة أمام بعضهم. ثانيًا الثقافة والمعرفة التي تعد محراب الشعر وبوصلة الناقد، فمن خلالها نلج إلى عوالم النص وتخومه، وبفضلها نتبين الغث من السمين. وأخيرًا التجربة الوجودية والرؤية التي تعطي بصمة القصيدة، وحمضها النووي الذي ينتشلها من صفوف اللقطاء ومجهولي النسب ويلحقها بمصاف النصوص المتأصلة التي تمثل جوهر الشعر ومعدنه الثمين.

كيف تصف علاقة القارئ التونسي بالشعر؟
حقيقة علاقة القارئ التونسي بالشعر ليست مرضية أو متوترة، بمعنى أن القارئ التونسي كغيره من القراء في العالم العربي ملَّ الشعر لسببين: الأول ناتج عن دور المناهج التعليمية التي لم تلعب الدور المناط بعهدتها، والمتمثل في ترغيب النشء وتقريبهم من الشعر، والثاني راجع إلى الشعراء أنفسهم الذين أسهموا في تنفير المتقبل، إما لتشبثهم بالأساليب المنبرية الملاكة، وعدم البحث عن أنماط أخرى لتقديم هذا الفن في أطباق تضمن المشاهدة وتؤسس للتفاعل، أو لرداءة نصوصهم وإمعانها في الإبهام.
من ناحية أخرى، فإن ذائقة القارئ عامة والتونسي خصوصًا ما زالت كلاسيكية ولم تستوعب عيون الحداثة في الشعر، وما زالت تطالب الشعراء بمحاكاة نصوص قديمة عفا عنها الدهر، في حين أن النصوص الحداثية المتأصلة في تربة التجريب لا تجد القارئ المتحمس.

إلى أين وصلت القصيدة التونسية؟
يبدو لي بكل موضوعية أن القصيدة التونسية وأقصد الجيد منها قد قطعت أشواطًا مشرفة، فهي قصيدة حديثة مستنيرة تبحث في الإنسان، وتمقت الشعارات المملة، وتكتب القصيدة التونسية من خلال خصوصية مجالية، فالشاعر التونسي متعدد المصادر، فثقافته عربية إسلامية، إلا أن له هوى للآخر الغربي، نظرًا للقرب الجغرافي، وانبثاق علاقة التأثير والتأثر منذ العصر الأندلسي، وعلى عكس ما يروج بعض النقاد الهواة أن الشعر التونسي شعر قصائد لا تجارب، فإن هذا الرأي مردود عليه، فهناك أسماء عدة فرضت أحقية حضورها عربيًا، وترجم لها إلى أكثر من لغة أجنبية، ولعل مثل هذه الأسماء التي رسخت تجاربها ليست قادرة على تمثيل الشعر التونسي فحسب، بل والعربي في العديد من المحافل العالمية.
مَنْ يكتب القصيدة؟ هل هي التي تكتب نفسها أم أعماق الشاعر أم موهبته؟
من المؤكد أن القصيدة هي التي تكتب نفسها بوصف الشعر من أكثر الفنون التي تتطلب حضورًا نفسيًا معينًا وحالة تركيز قصوى تأتي كيفما اتفق دون طرق أبواب، وحين تحل ساعة الشعر فهي تتسلل عنوة فلا تستجدي الكاتب، بل تحول وجهته إلى ضفة الشعر، حيث يينع كروم اللغة وتسيل ينابيع المجاز، كما أن القصيدة تنحت من أعماق الشاعر، فهي سليلة وجدانه، وحليلة ماضيه، وخليلة ثقافته، فالموهبة أساسية فهي التي تذكي روح النص ونكهته، إلا أنها كائن زئبقي أهوج، إذ تختلف وتراوغ باختلاف الجذوة والحضور الشعري.

لماذا الشعر النثري يلاقي عداءً من الكثيرين نقادًا وجمهورًا؟
إن قضية الشعر النثري قضية شائكة ومعقدة للغاية، فهي قصيدة ناشزة وغير ناجزة، لذلك فهي تتطلب قارئًا غير عابئ بأنواء الكلاسيكية وجلاميدها، هذا القارئ ناقدًا كان أو جمهورًا لا بد أن يتسلح برؤية مختلفة ومنفتحة على المجهول، وما دامت أعداد هؤلاء القراء عزيزة على الإحصاء، فقصيدة النثر تلقى الغبن وشتى أنواع القمع والتنكيل من قارئ جاهل يجهل أنه يجهل أو من ناقد متعالم.
من ناحية أخرى فإن قصيدة النثر متهمة بفتح الباب على مصراعيه أمام ميليشيات الشعارير وفاقدي الأهلية الشعرية، فالقصيدة الموزونة عمودية كانت أو حرة، كانت تحاصر هؤلاء في خندق العروض، أما اليوم وفي إطار «ديمقراطية النشر» الورقي أو الالكتروني صرنا نطالع ونشهد على مجازر في حق سيبويه من طرف شعراء قصيدة النثر، لذلك يجب التأكيد على أن هذا الشكل الشعري الحديث عصي ويتطلب موهبة في الصياغة والقراءة قلما توجد أمام هذا الزخم من الرداءة.

يدعي بعض الناس أن الشعراء الجدد أو شعراء الحداثة، إن جازت التسمية، لا يقدمون شيئًا مفيدًا للشعر العربي وللمتلقي. أليس هذا الادعاء فيه كثير من التعسف؟
من الظلم، طبعًا، أن نركن إلى مثل هذه الادعاءات المغرضة، فشعراء الحداثة، وأقصد المتأصلين منهم، قدموا وما زالوا يقدمون خدمات جليلة للشعر، ولو أن لكل زمان حداثته وجدته، إذ إننا ما زلنا نعاني ضبابية الجهاز المفاهيمي من خلال أسئلة جادة فما الحداثة؟ وما الفرق بين الحداثة والمعاصرة؟ كل هذه الأسئلة وغيرها ما زالت تتطلب بحوثًا مستفيضة وحلاً فصلاً لم يتوافر حتى الآن، لكن على الرغم من هذه الإشكاليات، فشعراء اليوم بشروا بانفتاح الشعر العربي الحديث على عوالم وسجلات لم تفتح إلا حديثًا، لأن صلف الشاعر العربي وأناته المنتفخة لم تنفتح على الإنساني، والمطلق، والآخر إلا منذ عقود قليلة، الأمر الذي فتح الشهية أمام الترجمة وليس من باب القذف والادعاء أن نردد أن الشعر العربي من خلال تاريخه الطويل كان شعرًا فصاميًا يتغنى بالأنا الفردية أو الجماعية. إذًا كان الشعر العربي ترجمة لشوفينية متأصلة في القاع النفسي لدى العربي في حله وترحاله. هذه الرؤية بدأت تهمش مع الرومانطيقيين الذين تسلحوا بترسانة قوامها التغني بالطبيعة ومحاكاتها، إلا أن أهمية هذه المدرسة تكمن في تبشيرها بالحداثة التي دحضت هذه النظرة الضيقة والمرضية، وبحثت في الإنسان بصفته القيمة بصرف النظر عن دينه، أو لونه، أو جنسه، وبذلك دخل الشعر العربي مرحلة تاريخية أخرى منفتحة على مدارات السؤال والمطلق.

إن المتلقي الجاد يطالب بالتكثيف والاقتصاد اللغوي في النصوص، فهل يجب على الشاعر أن يستجيب لهذا المطلب ويبتعد عن النصوص الملحمية الطويلة؟
إن التكثيف والاقتصاد اللغوي كان ضالة الشاعر منذ القدم، وقد تبلورت هذه التقنية أكثر مع شعراء الحداثة، إلا أن هذا لا يتضارب مع النصوص الملحمية الطويلة التي تبتعد عن التكلف والثرثرة التقريرية التي تخل بقيمة النص الشعري، وبناءً عليه يمكننا أن نجد نصًا طويلاً وملحميًا، ولكنه مكثف إلى حد البذخ أي أنه يمتلك بناءً دراميًا ولغة آسرة تجعل المتقبل لا يملُّ، بل يطلب إعادة بعض المقاطع فيه، بذلك تكمن المعادلة الصعبة لا في طول النص أو قصره، بل في قدرته على شد الجمهور وإبهاره، ولنضرب على ذلك مثالاً هو أن هناك نوع من النصوص المسماة «القصيدة الديوان». هل يمكن أن نسحب التكثيف والاقتصاد اللغوي عنها؟ الإجابة ستكون، طبعًا، لا, فإذا قرأت مثلاً «مديح الظل العالي» لمحمود درويش أو «حنظلة العلي» لمنصف المزغني... فلا يسعك القول إلا أنها مكثفة ومقتصدة إلى حدود البخل.

هل سيأتي يوم وينحسر الكتاب على حساب شبكة الإنترنت؟
ربما تطورت ذهنية البشر وصاروا أقرب إلى الحواسيب والكتب الإلكترونية، إلا أن الكتاب ولو انحسر دوره واستغلاله قراءة ومبيعًا، فإنه قادر على تأكيد مكانته ورونقه، فالكتاب له طابع حميمي لا توفره الحواسيب الجامدة، إلى جانب قدرته على تمتين التحصيل وتركيز المعلومات.
من جهة أخرى، إن التخلف التقني العربي له بعض الفوائد والخصال، فبفضله لم نصل إلى حالة الهوس والإدمان الإلكتروني التي بات يعانيها الغرب في حين يبقى المجتمع العربي في غالبيته ورقي الثقافة.

كيف تقيم حركة النقد في تونس؟ وكيف تنظر إلى عمل الرقيب التونسي؟
يبدو لي أن حركة النقد التونسي قطعت أشواطًا مهمة وشهدت مخاضات عدة، إلا أن هذه الحركة لم تتبلور إلا مع تأسيس الجامعة التونسية في بداية الستينيات وتخرج الرعيل الأول من النقاد الذين تناولوا بالدرس أطروحات النقد الغربي الحديث ذي المناهج الفرانكفونية إلى جانب التكوين في النقد القديم. هذا الجيل الذي توجه معظمه إلى التدريس والإشراف على رسائل البحث أسس حركة نقدية مهمة في تقديري، على الرغم من أنها لم تستطع تجاوز أسوار الجامعة، وظل الكتاب النقدي غير مروج وحكرًا على أهل الاختصاص، وكأنه كتاب في الطبيعيات أو الفيزياء.
عمومًا يمكن تقسيم النقاد إلى صنفين الأول: جاد يسعى إلى تركيز خصوصية نقدية تونسية متأصلة عبر بحثه المتأني والعلمي في النصوص، والآخر: متسرع يمثل بوق دعاية لبعض الأسماء المكرَّس لها إعلاميًا حتى ولو كانت مفرَّخة لنصوص رديئة لا ترقى إلى الدرس. هذا الصنف من المقاولين أسهم في تعمية الرأي العام والتطبيل لمن لهم عاهات إبداعية مزمنة، وبالنسبة للرقيب التونسي يبدو لي أنه مستنير عمومًا، ولا يمارس قمعًا موجهًا إلا في حالات نادرة تصل إلى حد اغتيال النص ووئده في المطبعة.

من الشاعر المبدع الذي يوفر لقرائه المتعة الجمالية؟
الشاعر المبدع الذي يوفر لقرائه المتعة هو الذي يحقق المعادلة الصعبة بين ما يترقبه الجمهور المستهدف من مغازلة لوجدانه الجمعي، وما يصبو إليه من رهانات فنية وإبداعية، وهذه المعادلة تتحقق بعد تجربة، وأناة، وموهبة جبارة يمتلكها قليل من الشعراء.

هل على الشاعر أن ينتظر الإلهام حتى يأتي أم أن الشعر عمل متواصل ومتعب وكلما منحته منحك؟
لو أن الشعر مرتبط بالضرورة بالإلهام أو عرائس الوجدان، كما يدِّعي الغرب لما تعارض البتة مع المحاولة، فالشعر خبز وشغل يومي ينضج على نار هادئة قوامها مطالعات الشاعر، وأعصابه، وموهبته التي تبقى، دائمًا، في حالة استنفار قصوى لتتأهب لملاقاة «سونا مي» الشعر الجارف الذي لا يحدد موعدًا سلفًا. ومع تنامي وتطور التجربة بإمكان بعض الشعراء الكتابة بشكل يومي ولو أن هؤلاء يصابون بسكتة شعرية تأخذهم إلى شرفات التأمل المثمر، والمفيد لاستنهاض همة الإلهام، وبذلك فالشعر رياضة يومية كلما اشتغلت بها، وعليها زادت لياقتك الشعرية والفنية.

إذا كانت ثمة عوامل تسهم في ضعف القصيدة، ما هذه العوامل؟
في الحقيقة هناك عوامل عدة تسهم في ضعف القصيدة أولها: شلل الموهبة أو فقدانها، والمشهد الشعري العربي مكتظ بالأدعياء و«تجار الشنطة» الذين يلقون ببضاعتهم الكاسدة، والشعر منهم براء. هذا إلى جانب التقريرية الفجة التي تسقط قيمة الشعر وتقحمه في العادي والمكرور من الكلام، في حين أن جوهر الشعر الإيحاء، وأخيرًا الألغاز التي تصل، أحيانًا، إلى حد الإبهام، فتمسي النصوص حبوبًا للهلوسة وأناشيد خبل، وهذا كله بداعي التجريب الذي أضحى عند بعضهم تخريبًا للذوق وعربدة في محراب الشعر.

كل إنسان له طموحات وأمنيات، فإلامَ تطمح؟ وماذا تتمنى؟
يبدو لي الطموح كائنًا مخاتلاً ونرجسيًا مترفعًا، إلا أنني وفي مجاراة هذا الطيف أتمنى أن تنضج تجربتي الشعرية أكثر، وتتعدد مجاميعي، وتنشر في الأقطار كافة، كما أحلم بأن أكون مثقفًا فاعلاً يسهم في صياغة المعنى وفهم الإنسان، أما على الصعيد القومي فأتمنى أن يسود السلام والإخاء، وينعم العربي بلحظة طمأنينة وسحابة دفء في هذا الشتاء العربي الطويل.