بيلباو
بوابة إقليم الباسك
• بقلم: فيرونيكا ماريا غاربوت
• ترجمة: إيمان عبدالواحد
تعد مدينة بيلباو إحدى أهم مراكز الفنون حول العالم، حيث تحتضن فوق أراضيها متحف جوجنهايم ذا التصميم المعماري الفريد، كما تمثل بوابة لإقليم الباسك الإسباني، والميناء التجاري الرئيس للإقليم الذي يطل على خليج بيسكي، ويمتد ليشمل جزءًا من شمال إسبانيا وجنوب غرب فرنسا.
|
|
|
|
تتميز مدينة بيلباو بموقعها الاستثنائي الفريد، وطبيعتها الخلابة، حيث ترفل جبالها في كساء من الخضرة التي تمتد بمحاذاة الشاطئ لتشكل تفاصيل لوحة طبيعية فطرية ساحرة تتناقض تفاصيلها مع ملامح الحياة الأنيقة لسكان سواحل مدينة سان سيباستيان، والأجواء التجارية الصاخبة لمدينة فيتوريا عاصمة الإقليم، والتي تسجل أعلى معدلات النمو بين المدن الإسبانية كافة.
يضم إقليم الباسك الإسباني مقاطعات ألافا، وغويبوزكوا، وفيزكايا، واللغة المحلية هي الباسكية (Euskara). وتنتشر أعلام الإقليم بألوانها الأحمر، والأبيض، والأخضر في كل مكان تذهب إليه، أما السكان المحليون فيفخرون بأكلاتهم التقليدية، والرياضات التي يمارسونها مثل سباقات الزوارق، وألعاب الكرة، ورمي جذوع الأشجار وتقطيعها، وشد الحبال، بينما تعد رياضة ركوب الدراجات رياضة واسعة الانتشار حتى إن سائقي السيارات ينطلقون بحرص في شوارع الإقليم منتبهين إلى ركاب الدراجات الذين تزدحم بهم الطرقات خشية وقوع الحوادث.
ونعود الآن لمدينة بيلباو المعروفة في إقليم الباسك باسم بوكستو (Boxto)، وهي المدينة التي قام بتأسيسها دييجو لوبيز دي جارو في القرن الثالث عشر الميلادي، حيث كانت حينذاك مجموعة من قرى الصيادين المتناثرة على طول الضفة الغربية لأحد الأنهار الضخمة. وفي العام نفسه، تحولت تلك القرى إلى مدينة كبيرة إثر قيام سكان المدينة في العصور الوسطى بممارسة التجارة عبر رصيف ميناء أباندو «وهو الاسم القديم لبلدية بسكي»، وفي حي سيتي كاليه (Siete Calles). وقد ازداد اتساع الموانئ البحرية على امتداد السواحل مع تطور الأنشطة التجارية التي ساهمت في تنمية المدينة وازدهارها.
وكان لاكتشاف الأمريكتين الأثر الكبير في تحفيز معدلات النمو الاقتصادي، والتبادل التجاري، وتنمية الصناعات المختلفة، فشيدت مصانع الكيماويات، وصناعة السفن، ومصانع الحديد والصلب، كما تأسست شركات التأمين والمصارف والبنوك. وتميزت تلك الحقبة الذهبية من تاريخ إسبانيا بتوسع المنطقة الصناعية لتمتد بعمق عشرة أميال تقريبًا بطول نهر نرفيون (Nervion) ومصبه، لترتفع المداخن وتنتشر المصاهر على مسافات بعيدة.
وكانت الفترة التي تلت انهيار صناعة الصلب خلال سبعينيات القرن الماضي قد شهدت تحول تلك القدرات الصناعية الهائلة من قوة ساحقة تضر البيئة بما تنتجه من ملوثات إلى مراكز للتعليم والتجارة والفن والعمارة، وكانت برامج إعادة التنمية الطموحة قد شملت إعادة بناء المناطق الصناعية القديمة التي تنتشر في محيط المرافئ. وقد تم تدشين أول نموذج أنيق وجذاب للمترو الذي قام السيد نورمان فوستر بتصميمه ليواكبه افتتاح متحف جوجنهايم الأسطوري، ثم استغلت هذه المنطقة في بناء مكتبة عامة، ومتنزه، وفندق، ومكاتب، ومركز للمؤتمرات. ورغم ملامحها العصرية العالمية، فإن قلب مدينة بيلباو لا يزال ينبض بإيقاع أجواء المدينة القديمة كاسكو فيجو.
ويقبع في هذه المنطقة التي يطلق عليها اسم سيتي كاليه (Siete Calles) سبع شوارع متجاورة تحمل معالم مدينة بيلباو القديمة التي يعود تاريخها إلى العصور الوسطى، حيث كانت الأسوار الحجرية تحيطها من كل جانب، ولهذا نرى العديد من الأماكن السياحية المتميزة والمثيرة للإعجاب.
فحين يترجل ركاب المترو عند محطة كاسكو فيجو وعبر الميدان الجديد (Plaza Nueva) ذي الأروقة والأقواس المتراصة وصولاً إلى متحف الباسك الذي يحتوي على معلومات كافية عن أصحاب الحرف التقليدية مثل صيادي الحيتان والأسماك، والرعاة، وصانعي الأواني الفخارية، والحدادين. وبالعودة إلى الميدان الجديد(Plaza Nueva)، يمكنهم الاستمتاع بالوجبات الخفيفة في مقهى بيلباو(Cafe Bilbao) قبل استكشاف أكبر سوق مغطاة في إسبانيا ميركادو دي ريفيرا (Mercado de Rivera).
وفي الجهة الشمالية الغربية من مدينة كاسكو فيجو، يقع مبنى تياترو آرياغا (Teatro Arriaga)ذو الطراز المعماري المذهل، طراز الباروك الجديد، تحديدًا عند نهاية جسر بوينتي دي أرينال (Puente de Arenal). وعند افتتاح هذا المبنى عام 1890، شهد حفل الأوبرا الأول أعداد كبيرة من المهتمين بها، ومن لم يتمكن من متابعة العرض، استمع إليه عبر الهاتف. أما اليوم، فتقدم دار الأوبرا عروضًا راقصة، ومسارح، وعروض الأوبرا، والحفلات الموسيقية، وعروض الأوبرا الهزلية على الطريقة الإسبانية المسماة الزرزويلة (Zarzuela). ويعد هذا المبنى الرائع المستوحى طرازه من أوبرا باريس أحد المعالم المهمة التي تمثل نقطة الانطلاق نحو التعرف على بقية معالم المدينة.
ومن يعبر إلى الضفة الغربية من النهر عن طريق الجسر المخصص لذلك، يصل إلى منطقة (Ensanche) التي شهدت توسع مساحة المدينة القديمة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وتعد هذه المنطقة الآن المركز المالي ومقر بورصة الأوراق المالية والأسهم لمدينة بيلباو، كما تضم المقر الرئيس لبنك (BBVA) ونادي سوسيداد بالبينا الاجتماعي الخاص. وبالقرب من الجسر، توجد محطة سانتاندر للسكك الحديدية ذات الواجهة المميزة بألوانها الأصفر، والأخضر التي تخطف الأبصار، وتقع، أيضًا، بالقرب من ساحة بلازا سيركيولار (Plaza Circular) التي تضم محطة مترو أباندو حيث شيد مدخلها الرائع من المعدن والزجاج في تجانس مذهل.
وللتسوق، ليس هناك أفضل من المتجر الأسطوري الكبير (El Corte Ingles)، وقبل مغادرة هذه المنطقة، لا يَفُتْكم الاستمتاع بتناول وجبة غداء رائعة في مقهى ومطعم إيرونا (Café Iruna).
وعلى امتداد شارع لوبيز دي جارو (Lopez de Jaro)يقع شارع جران فيا «الطريق الكبير» (Gran Via) أحد أكبر الشوارع التجارية الذي يضم متنزه دونا كاسيلدا دي هويزار (Dona Hasilda de Hurrizar) الكبير إلى جوار متحف الفنون الجميلة الذي يعرض تشكيلة من أرقى ما قدمه الفنانون الإسبان مثل دييجو فيلازكويز ،واليوناني الأصل إل جريكو، وفرانسيسكو جويا، وأكثرهم شهرة بابلو بيكاسو. ويضم المتحف بين جنباته أعمالاً لفنانين باسكيين مثل أغناسيو زولواغا وإيكيفيريا، كما يعرض منحوتات الفنان إدواردو تشيليدا في مساحة تليق بها، كما أن المتنزه يمنحكم الفرصة للابتعاد عن صخب المدينة والاسترخاء لساعة أو ساعتين، فأشجاره المتميزة التي تم تجميعها من أنحاء متفرقة في العالم، والتي يتوسطها المتنزه حيث تقدم عروضًا مبهرة للصوت والضوء في مواسم الإجازات.
وننتقل إلى أهم المعالم الرائعة التي تميز المدينة ونعني متحف جوجنهايم الذي يقع في مبنى مطلي بالتيتانيوم، ما يمنحه مظهرًا استثنائيًا يتيح المتعة البصرية حين ترونه من أي جانب ومن أي زاوية، فلا تَفُتْكُم زيارة هذا البناء الرائع المطل على نهر نيرفيون.
وقد قام بتصميم هذا المتحف الفريد المعماري الأمريكي فرانك غيري الذي استلهم ملامحه من الأنشطة التجارية التي مارسها سكان مدينة بيلباو قديمًا وحديثًا، فاستخدم رمزًا لقارب صيد وهيكل عظمي لسمكة. ويجمع هذا التصميم المميز بين شكل جسر زوبيزوري وخط من خطوط الترام في تكوين جمالي يحمل ملامح فنون المستقبل.
ويتميز المبنى من الداخل بالمزج البديع بين الأشكال المتداخلة، فكتل الحجر الجيري المتعامدة تتباين مع الأشكال المنحنية المغطاة بألواح من التيتانيوم، بينما توفر له الحوائط الزجاجية الساترة الإضاءة الكافية والشفافية أيضًا.
كما أن مناور المتحف ليست مصممة لإلقاء الضوء على الأعمال الفنية تجنبًا لتعرض الأعمال الفنية المعروضة للتدمير جراء سطوع ضوء الشمس عليها، حيث يتم التحكم في كمية الضوء المتسللة إلى الداخل باستخدام مادة عاكسة مثبتة على الحوائط الزجاجية. وإذا رغبتم في إطلالة شاملة على متحف جوجنهايم ومن خلفه مدينة كاسكو فيجو، ما عليكم سوى استقلال القطار المعلق، والذي يعد وسيلة مواصلات رائعة تتوافر في شارع كاريتيرا دي آرتيزاندا (Carretera de Artxanda) لتأخذكم إلى قمة جبل آرتيزاندا الخلابة.
وتغادر الحافلات بمعدل حافلة كل ساعة من بيلباو متوجهة إلى فيتوريا المدينة التي تمتزج فيها الأنشطة التجارية الجادة مع صخب التجمعات الطلابية المفعمة بالحياة.
وكمدينة تحمل نسمات الرومانسية وجاذبية المدن الخيالية، فقد شهدت مدينة فيتوريا أو غاستيز، كما يحلو للسكان المحليين تسميتها، طفرة تنموية جعلتها إحدى المراكز الصناعية الحديثة على مستوى الدولة الإسبانية ككل. وقد توسعت المدينة على شكل محاور دائرية على نمط مدينة أمستردام الهولندية دون قنوات مائية تتوسطها، ثم أعلنت عاصمة لإقليم الباسك عام 1980. وقد يأخذكم سحر هذه المدينة الرائعة حين تتجولون بين معالم المدينة القديمة التي يعود تاريخها إلى العصور الوسطى وحين تطوفون بأحيائها التجارية التي تتميز بالأجواء الكلاسيكية الحديثة.
وتقع المدينة القديمة بالقرب من ميدان بلازا دي إسبانيا، حيث تزدحم بالمنازل المبنية في أثناء القرن السادس عشر الميلادي والمميزة بأبوابها المزخرفة والرموز الحربية. وفي شارع هيريريا (Calle del Herreria) يقع برج دونا أوكستاندا، وهو أحد الأبراج الدفاعية القديمة التي أصبحت مقرًا للمتحف العلمي بالمدينة، بينما يضم شارع كوريريا (Calle Correria) المتاجر التي تبيع التحف والقطع الأثرية، ويشهد هذا الشارع تحديدًا إقامة سوق شعبية نشطة يوم السبت الأول من كل شهر. وهناك، أيضًا، أسواق السلع الاستهلاكية مثل متجر (El Corte Ingles) الهائل الذي يقع في قلب المدينة الجديد. ويمكنكم الاستمتاع بوجبة خفيفة مع الشاي بعد الظهر في مطعم المتجر، واختطاف لحظات من التعايش مع الحياة اليومية لسكان المدينة.
ومحطتنا الأخيرة في هذه الجولة في إقليم الباسك هي مدينة سان سيباستيان التي تعرف باسم دونوستيا بين السكان المحليين. وتقع هذه المدينة على شكل نصف دائرة تحيط بخليج لاكونشا (La Concha) تجعل منها منتجعًا رائعًا، وخصوصًا منذ زيارة الملكة إيزابيل الثانية واستحمامها في مياه الخليج عام 1845. وفي عام 1886، كانت زيارة الملكة كريستينا الوصية على عرش إسبانيا لهذه المدينة سببًا في تهافت الناس وترددهم عليها، حيث سارت على خطى الملكة أوجيني إمبراطورة فرنسا التي روجت للمدينة الفرنسية بيارتز القريبة جغرافيًا من سان سيباستيان التي يمكنكم تذوق أشهى أنواع المقبلات الإسبانية المعروفة باسم بينشو في مطاعمها. وتخيلوا أشهى الأطعمة، أيضًا، مثل الروبيان الغض، والجبن الأزرق، أو الدجاج مع صلصة الباشامل فوق شرائح من الخبز الفرنسي.
وعند الطرف الغربي من خليج لاكونشا يقع قصر الملكة ماريا كريستينا المعروف باسم «ميرامار»، والذي استخدم مقرًا صيفيًا للعائلة المالكة. ويقع أسفل هذا القصر نفق يؤدي إلى شاطئ أونداريتا الذي يضم ناديًا راقيًا لرياضة التنس وفيلات أنيقة عتيقة الطراز.
ورغم المشقة وصعوبة الرحلة، فلا يَفُتْكم زيارة المنحوتات الشاطئية الشهيرة المعروفة باسم (El Peine de los Vientos) من أعمال الفنان المتميز إدواردو تشيليدا المولود في مدينة سان سيباستيان عام 1924. وقد بنيت تلك السلسلة من المنحوتات البرونزية كجزء من الصخور الشاطئية أسفل جبل إيغويلدو.
وأخيرًا، لا تنسوا أن تأخذوا الجولة المميزة داخل القطار المعلق وصولاً إلى قمة جيل إيغويلدو، وفي المدينة يمكنكم التجوال داخل المدينة القديمة واستكشاف معالمها، ومن بينها ميناء الصيد الرائع، ومتحف الباسك، والمتحف البحري، مع الاستمتاع بمذاق المخبوزات الشهية، وأنواع الشيكولاته الممتازة في متاجر المدينة. وإذا سمح وقتكم فاغتنموا الفرصة لتناول وجبة عشاء متميزة على الشاطئ في بلدة باساي سان خوان التي كانت يومًا مقرًا للكاتب الفرنسي المعروف فيكتور هوغو.