ثقافة


Pict1

حسن المطروشي:
للشعر لغة مشفرة
يستدرج الشاعر عبر المجاهيل القصية في ممرات الحلم والحنين والأسئلة.

• حاوره: بسام الطعان

حسن المطروشي شاعر، ومترجم، وصحفي عُماني، حاصل على العديد من الجوائز، يرى أن الحراك الشعري مشهد يضم في تجلياته نهرًا يحفر عكس الاتجاه السائد، يحفر للعمق بعيدًا عن ضجيج المادة ولغة الاستهلاك.

  • الشعر في تاريخه فن نخبوي بالدرجة الأولى، فالمتنبي وأبوتمام وأبونواس وغيرهم كانوا شعراء صفوة، على الرغم مما يقال عن أن الشعر ديوان العرب

  • للشعر الحديث تقنياته ورؤاه وجدلياته الإبداعية التي جعلت القصيدة لغة مصفاة نقية تعطي الدلالة وتترك للقارئ مهمة الوصول إلى المعنى

  • القصيدة هي عالمي، ولحظة الكتابة هي الطقس الوجداني الذي أمارس فيه كشوفاتي وكراماتي وأحاور فيه تجلياتي

داخل كل منا إنسان آخر بإمكانه قرض الشعر إن أفسحنا له الطريق ليعبر عما بداخلنا، فمن الشاعر الذي يوجد داخل حسن المطروشي؟ وماذا يريد؟
لا أعتقد أن الشاعر الذي بداخلي قرر أن يكون شاعرًا بمحض إرادته، وربما لو خير بين الشعر وبين بيع الخضراوات على الرصيف لاختار الثاني دون تردد، لأن طريق الشعر موغل في العذاب، والعزلة، والآلام.
طريق يستدرج الشاعر عبر المجاهيل القصية في ممرات الحلم والحنين والأسئلة، لذلك تبقى المسألة بالنسبة للشاعر أنه يكتب النص ويعيش لذته بمرارته المتناهية، دون أن يحدد أهدافًا كبيرة أو يرسم انتصارات وهمية في عالم الواقع، كما يقول لورانس داريل: «إن ما ينتظرنا نحن الفنانين هي تلك التسوية الفرحة التي نتوصل إليها عن طريق الفن مع كل ما جرحنا وخذلنا في الحياة اليومية».
كل ما أعرفه وأتذكره أنني خرجت ذات مرة من بيت أسرتي التي تقطن منطقة ساحلية تدعى «شناص» في أقاصي الشمال من سلطنة عمان، لأبحث عن ذاتي في المدائن والأرصفة والمطارات البعيدة، وأنا الآن أقف على حافة الكون أحمل في قبضتي الكثير من الحنين، والحزن، والقصائد، والفقد.
نزيف القلب
صدرت لك حديثًا مجموعتك الشعرية الرابعة التي حملت عنوان «على السفح إيَّا». ماذا تضيف هذه المجموعة إلى تجربتك الشعرية؟
هذه المجموعة قطرة أخرى من نزيف القلب، تنبجس منها عذابات أكثر من أربع سنوات منذ صدور مجموعتي الشعرية الثالثة «وحيدًا كقبر أبي»، هذه السنوات الأربع حملت في طياتها كل آلام الحياة وتناقضاتها، وخوفها من المجهول، ففيها أتممت الأربعين، وما أدراك ما سن الأربعين بالنسبة للإنسان. هذه المرحلة الرهيبة التي كتب عنها كل المبدعين والفلاسفة، وتحدثت عنها الديانات.
تلخص قصائد هذه المجموعة تغيرات حياتية وثقافية وشخصية كثيرة بالنسبة لي، وقد ضمت بين دفتيها 25 نصًا شعريًا، مقسمة إلى جزئين، حمل الجزء الأول عنوان «دفتر الملاك»، حيث يحتوي على القصيدة الطويلة، أما الجزء الثاني فحمل عنوان «دفتر الفراشة»، ويحتوي على القصائد القصيرة والومضات الشعرية التي تنتهي بالمفارقات والخواتيم غير المتوقعة، تمامًا كما تنتهي الحياة.
سوق الشعر
برأيك هل سوق الشعر العربي رائجة وتتجه إلى الازدهار أم إلى الكساد؟
أنا لا أنظر إلى الحراك الشعري على أساس أنه سوق تحكمه قوانين الرواج والكساد، بقدر ما هو مشهد يضم في تجلياته نهرًا يحفر عكس الاتجاه السائد، يحفر للعمق بعيدًا عن ضجيج المادة، ولغة الاستهلاك، والتسطيح، والاستلاب الروحي والوجداني للإنسان، فالشاعر ليس معنيًا بدغدغة مشاعر الجماهير، ومداعبة الحواس، وإثارة الشعارات الخاوية. الشاعر ليس نافخ بوق أو ضابط إيقاع، إن للشاعر مهام أخرى أكثر عمقًا ونضجًا وأصالة في الحياة.
النقد العربي
هل أصبح القارئ العربي بعيدًا عن الشعر بسبب تخليه عن أصالته وارتدائه ثوب الحداثة؟
الحديث في هذا الموضوع يقودنا إلى جدلية العلاقة بين كل من الشاعر والنص والقارئ، والتي تعد، في أغلب الأحيان، علاقة مائية غير محكومة بمسلمات منطقية محددة، إلا أن الشعر في تاريخه فن نخبوي بالدرجة الأولى، فالمتنبي كان شاعر صفوة وأبوتمام كذلك وأبونواس وغيرهم، بالرغم مما يقال عن أن الشعر ديوان العرب، وحين نقلب صفحات النقد العربي القديم نجد أن هذه الرؤية كانت متبلورة وموجودة في الوعي الشعري لدى العرب والمسلمين، ومن أمثلة ذلك قول أبي إسحاق الصابي وهو من نقاد العصر العباسي الثاني: «إن أفخر الشعر ما غمض، فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه». ونتذكر هنا إجابة أبي تمام حين سئل: لماذا لا تقول ما يفهم؟ فأجاب: ولماذا لا تفهمون ما يُقال؟
والكلام يطول في هذه القضية إلا أن للشعر الحديث تقنياته ورؤاه وجدلياته الإبداعية التي جعلت القصيدة لغة مصفاة نقية تعطي الدلالة وتترك للقارئ مهمة الوصول إلى المعنى أو الفهم الخاص به، كالإصبع في المثل الصيني يشير إلى القمر ولكن لا يوصل إليه، فالشاعر ليس معنيًا، في الدرجة الأولى، بعموم القراء، وإنما معني بالتعاطي مع نصه الذي يولد من مخيلته الخصبة وفق اشتراطاته وملابساته، نابضًا، متمردًا، مليئًا بالبوح والأسرار الهاجعة في أغواره السحيقة.
القصيدة عالمي ولحظة الكتابة هي الطقس الوجداني الذي أمارس فيه كشوفاتي وكراماتي وأحاور فيه تجلياتي عبر الكلمة والصورة الشعرية التي أعدها مراوغة واقتناصًا لأبعد الطيوف، وتحليقًا في عالم الروح القصي المليء بالدهشة والجمال الذي ينهمر رذاذه على شرفات القلب عبر فتوحات الروح التي تزخر بالهبات والأنغام والرؤى، فلا غرابة أن تأتي القصيدة صاخبة بالأصوات مشحونة بالأطياف. إن للشعر لغة مشفرة تتحرك عبر المجاز المتخيل بعيدًا عن الأطر القاموسية الجاهزة.
قصيدة النثر
ماذا تقول للشعراء الذين يكتبون باسم الحداثة كتابات تتسم بالتحلل من القيود التقليدية وفي مقدمتها الوزن والقافية، وهو ما تمارسه قصيدة النثر التي لا تلتزم ببحور الشعر؟
أجد نفسي مع الشعر في كل تجلياته ولست ضد التجديد والحداثة، بل إنني أرى أن التجديد سنة طبيعية من سنن الحياة، ولكن لي رأي حول بعض المفاهيم, فأنا أفضل استخدام مصطلح «النثر الشعري» بدلًا من «قصيدة النثر»، كما أفضل استخدام «الأوزان العروضية» بدلًا من «البحور الكلاسيكية»، فإذا اتضح تصوري للمسألة, فقد اتضح موقفي منها.
أما بالنسبة لقصيدة النثر فهي، في تصوري، نثر أدبي يتميز بشعرية اللغة، إلا أنه لا يرقى إلى أن نسميه قصيدة مهما بلغ من التأنق، وهذا ليس انتقاصًا من حق هذا اللون الأدبي، فعدم تصنيفه شعرًا لا يقتضي الانتقاص منه، وأعتقد أن المطب الذي وقع فيه أصحاب هذا الجنس الأدبي حينما نسبوه إلى الشعر بدلًا من اقتراح مسمى آخر له بوصفه جنسًا أدبيًا جديدًا له خواصه واقتراحاته واشتراطاته الفنية.
أكتب الشعر الحر، وأعمد إلى كتابة القصيدة المقفاة وفق صياغات جديدة وتقنيات مبتكرة, بحيث تستوعب القصيدة أساليب الكتابة الحديثة، وتستخدم كل الطرق المبتكرة في الشعر، مع الاحتفاظ بالشكل التقليدي الأصيل للقصيدة، ولا أتصور أن الوزن يمثل عائقًا أمام الإبداع في الشعر، إذا كان الشاعر يتحلى بالموهبة والثقافة التي تؤهله لكتابة قصيدة أصيلة وفق اشتراطاتها وقواعدها الوزنية، واللغوية، والإبداعية.
إن الذي يجد الوزن قيدًا هو الشاعر البسيط ذو الموهبة الضعيفة والثقافة المنقوصة, وبالتالي فالعيب ليس في الوزن وإنما في الشاعر.
العروض عند العرب علم واسع ومساحاته متعددة, ويقدم للشاعر خيارات كبيرة, كما أن الشعر الحر قد فتح نوافذ ومنافذ جديدة للشعر الموزون, وبالتالي فليس ثمة مسوغ حقيقي لدينا للهروب من الإيقاع الوزني للقصيدة، بخلاف الأمم الأخرى التي تركت الأوزان الشعرية ولجأت إلى الكتابة خارج الوزن, فذلك يعود إلى الفقر في الأوزان لديهم، فبعضهم لديه بحران عروضيان فقط، أما نحن فلدينا ستة عشر بحرًا أساسيًا، ناهيك عن تفريعاتها، ومجزوءاتها، ومشطوراتها، وخياراتها المتعددة المرنة في الكتابة. باختصار أنا أميل إلى القصيدة الموزونة, فهي تعطيني النشوة العليا للشعر.
القصيدة العُمانية
كيف ترى واقع القصيدة العُمانية المعاصرة؟
المشهد الشعري في عُمان يمتد في أفقه التاريخي إلى أعماق الزمن، يمتد إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي, والمبرد, وابن دريد, مرورًا بكل حقب التاريخ, بل إن الشعر العُماني لم يشهد الضعف الذي مر به الشعر العربي كله في فترة ما يسمى «عصور الظلام», حيث ظهر في ذلك الوقت شعراء عُمانيون يصنفهم بعض الناس في درجة امرئ القيس, مثل سليمان البهاني وغيره.
وقد شهد العصر الحديث في عُمان نهضة شعرية كبيرة رافقت التحول الضخم الذي شهدته البلاد, فبرز شعراء كبار مثل: عبدالله الخليلي، وعبدالله الطائي, وغيرهما في مجال الشعر المقفى, ثم جاء بعدهما جيل قصيدة التفعيلة الذي برز فيه العديد من الأصوات مثل د.سعيدة بنت خاطر الفارسي، وهلال بن محمد العامري، وسعيد الصقلاوي، وغيرهم, إلى جانب جيل القصيدة النثرية الذي برز فيه العديد من الأصوات، أيضًا، مثل: سيف الرحبي، ومحمد الحارثي، وسماء عيسى، وعبدالله حبيب، وطالب المعمري، وآخرون. ثم بعد ذلك جاء جيل القصيدة التسعينية أي: ما بعد قصيدة النثر, ويتميز هذا الجيل بعودته إلى التراث وتمسكه بالكتابة في إطار الوزن.
هذا الجيل الذي أعد نفسي أحد مكوناته برز فيه شعراء عديدون مثل: محمد عبدالكريم الشحي, وعمر عبدالله محروس، وعلي الرواحي، وعبدالله المعمري، وخميس بن قلم، غيرهم كثير.
إن ما ذكرته ليس سوى نماذج بسيطة من باب التدليل فقط, أما الواقع الشعري في عُمان فإنه زاخر بالكثير من العطاء، والألوان، والأصوات المميزة, وهو مشهد نابض وحيوي يضاهي سواه في بقية الدول العربية الشقيقة.
أم كلثوم
لك آراء أثارت حولك الكثير من ردود الأفعال لا سيما رفضك أن يكون أحمد شوقي أمير الشعراء. ما الذي جعلك تتبنى هذا الموقف؟
أعتقد أن هذا الموضوع تم تضخيمه وإعطاؤه أكبر مما ينبغي، فأنا حين تحدثت عن الألقاب رفضتها لذاتها ولم أتطرق إلى ذكر الأشخاص، أي أنني أرفض لقب «أمير الشعراء» ولم أتحدث عن أحمد شوقي، ولكن الناس نسيت النعت وذهبت إلى المنعوت.
وما زلت عند رأيي أن الشعر لا يقبل الإمارة والأمراء، فهذه مناصب سياسية، والشعر بعيد عنها، اللفظة تحمل في مفهومها دلالة الأمر التي يقابلها النهي، وهي دلالات سلطوية يرفضها منطق الإبداع الذي يقوم أساسًا على الحرية والتمرد، فكيف أقبل أميرًا على نفسي في فضاء الحرية والانطلاق؟