حتى لا نجد أنفسنا خارج السياق
الثقافة مشروع حياة
للثقافة دور اجتماعي وحضاري وتربوي لصيرورة إنسان المستقبل وتشكيل عالمه الفكري.
• الرياض: هيثم السيد
المثقفون هم أكثر الناس قدرة على تبني الأزمات، كما أنهم الأقل حضورًا ضمن أدوارهم الحقيقية بين مختلف فئات المجتمع، والمسألة هنا لم تعد تتعلق فقط بوجودهم الافتراضي داخل النخبوية وخارج العالم، بل تجاوزت ذلك إلى تساؤلات باتت أكثر جدية مع اضطراد التحولات الحضارية التي كان يفترض بالبيئة الثقافية أن تكون أول المواكبين لها، بناءً على ارتباطها المباشر بما يثار من جدل يتصل، في معظمه، بدور الهوية الثقافية، واللغوية، والفكرية في استيعاب العولمة، ومسايرتها دون فقدان الخصوصية الوجودية أو الإنسانية للمجتمع.
يرى الأديب عادل الحوشان أن المثقف الذي يعي واجبه يجب أن يعيش بشكل مطلق وهو يراقب، ويقرأ، وينفخ الغبار عن طرقات الناس، وألا يحيل وجوده معهم إلى انتقاص لثقافتهم الذي هو جزء من مكوناتها. عليه أن يأخذ طريقه الصواب أين أبصره وبأي كيفية يراها دون أن يضيف عبئًا إلى الأعباء التي يتركها غيره، أو على الأقل يحاولون من خلالها إعادتنا إلى التاريخ وإغلاق الكتاب علينا.
طرقات مختلفة
لقد عاش المثقفون، وفق الحوشان، زمنًا طويلاً بين غلافين متشابهين، يعيدون التفكير بالمنطق نفسه والعبارات نفسها وسياقاتها دون أن يلتفت أحدهم إلى أنهم شاركوا في النوم داخل جملة واحدة من النصوص ريثما يأتي حدث ما ليوقظهم من نومهم.
وهناك أجيال قادمة تستفيد من هذه الأخطاء التي وقعنا فيها، بعد أن دربوا أنفسهم على تقنيات جديدة غير طرقاتنا التي اعتدنا جر أرجلنا فيها ذهابًا وإيابًا. صحيح أنها أتت، أيضًا، بفعل الأحداث نفسها، وصحيح أنها تسير في طرقات مختلفة وربما بعيدة، وأقصد هنا ما تنتجه هذه الأجيال، وصحيح أنها، مقارنة بما ينتجه العالم ما زالت تحاول أن تشبه ولو أحد عناوينه الرئيسة، بعيدًا عن التفاصيل وبأخطاء مربكة، لكنها تسير بلا خوف من أحد سوى ضمائرها التي أؤمن أنها يقظة ومنتبهة. الخطأ الوحيد، إن وجد، هو أنها تضع المرآة أمامها، وترى الوجوه نفسها، لكن بلا هزائم.
دور المثقف
يقول الحوشان: إذا لم نستطع أن نُدخل كل القيم البشرية «الفن، والخير، والعدل، والجمال» إلى حاضرنا، ونطرق كل الأبواب والنوافذ، فإننا سنجد أنفسنا فجأة خارج السياق تمامًا.
علينا مثلما قال الماركيز في رسالته إلى العالم: «أن نفعل ما نقوله، وأن نقول ما نفكر به».
ثمة تغيرات وتحولات سارعت في القضاء على تربية أجيال كاملة، ولا أستبعد الظروف السياسية العالمية وحروبها، فالتربية التقليدية سواء كانت بالعصا أو بالكتاب ستذهب بها أبعد من ذلك، صارت الرواية السعودية، مثلًا، في السنوات الثلاث الأخيرة عبارة عن «مسكوت عنه فقط»، وهذا المسكوت عنه لا تتم كتابته في مناخ جمالي بقدر ما هو ارتجال يجد قنوات لتسويقه والاتجار به، بصفته منتجًا مسكوتًا عنه في جغرافيا بقيت طويلًا في العتمة.
العصر الذهبي
يرى الحوشان أن الثقافة بمعناها التقليدي صارت طعامًا ثانويًا للمارة، سحقها الإعلام، وسحقتها أوجه الصراع بين تيارات، وسحقتها السوق، وسيدمرها المستقبل ما لم نعمل عليها بذكاء. يريد العالم أن يعرف الكثير من التفاصيل، وأن يقرأ، ونحن نعيش عصرًا ذهبيًا في كل الاتجاهات، وعلينا ألا نضع بين يديه وجوهًا مشوهة تزيد تدميرنا.
ليس ضروريًا أن نكون ممثلين لأية مؤسسة رسمية في محافلها الخارجية ومناسباتها، فهذه لها شروطها التي قد لا نجيدها، لكننا لا نعدم وجود عشرات الطرق لنشارك في تغيير المائدة التي شوهها التاريخ جدًا، والحاضر جدًا، والمستقبل الذي سيأتي، وإن كنا كما نحن عليه فـجدًا.
إن كان لا بد، فإن المثقف شريك رئيس، يجب أن يدخل الحرب بطرق أقل بشاعة، أو على الأقل أن يفهم لعبتها، وأن يحاربها بأدواته من خلال خيوطها المشدودة.
الإبداع الثقافي
يتناول الكاتب والناقد الفلسطيني نبيل عودة القضية بمفهومها الأشمل فيقول: الثقافة أو الإبداع الثقافي بالتحديد يحتل حيزًا واسعًا من تفكيرنا كمبدعين، فهل واقع مجتمعنا يتماثل مع أحلامنا الإبداعية؟ وهل استطعنا كمبدعين أن نتحول إلى الصوت المعبر عن واقعنا والمؤثر في صيرورتنا الفكرية؟
للإذاعات والتلفازات برامج ثقافية، ومواقع الإنترنت مليئة بالزوايا الثقافية. حياتنا الثقافية تفتقد الفعل الثقافي. نفتقد حياة ثقافية نشطة وحركة ثقافية قادرة على التأثير. حركة لها كيان وصوت وقرار.
ما قيمة الثقافة إذا لم تُحدث حركة اجتماعية وفكرية، ونقدًا صريحًا، وتفتح نقاشًا وحوارًا يقودنا إلى تعدد الآراء، والأذواق، والمفاهيم، والتجارب، والتحديات؟
وسائل الإعلام
يتساءل عودة: ما قيمة المثقف إذا كان ما يكتبه يدفن بلا مراسم، ودون فتح ديوان للتعازي؟ ما قيمة الكتابة إذا ولدت ميتة على صفحات وسائل الإعلام، وكل أثرها أنها تعبئ فراغًا؟ فمن المؤسف أن الثقافة في حياتنا لا تشكل إلا بندًا غير قابل للتنفيذ، وهي نتيجة تلقائية للرؤية التي ينطلق منها من لا يرون أهمية الدورين الاجتماعي والحضاري للثقافة، وأهمية دورها التربوي، وقيمتها في النضال الاجتماعي والسياسي، ودورها في صيرورة إنسان المستقبل وتشكيل عالمه الفكري.
الأدب والثقافة لهما وظيفة اجتماعية، ومهمة إنسانية عامة، عبر الإبداع الأدبي. يقوم المثقف بنشاط جديد، نشاط لذاته، ونشاط لمجتمعه. نشاط للعالم الخارجي حوله، ونشاط للعالم الأكثر اتساعًا من رقعته المحدودة جغرافيًا، وقد يشكل الإبداع ولادة حقيقية جديدة للمبدع، ونقلة نوعية، وفكرًا، وموقفًا، وإبداعًا.
المشروع الثقافي
يرى عودة أن الإنسان الذي لا يملك هدفًا في الحياة هو في الوقت نفسه لا يملك مشروعًا ثقافيًا، حتى لو كان أستاذًا في علم اللغويات، فلا بد أن يكون للأديب أو المثقف مشروع حياة يرتبط بقضايا مجتمعه وعالمه.
إن ما نحتاج إليه ليس المثقف الخامل الباحث عن المصفقين، إنما المثقف النقدي الذي ينقد ذاته وتجربته، ويكون ارتباطه الأساسي بالثقافة بمفهومها الكوني وليس القبلي العشائري أو القومي المتعصب. وأن يكون مثقفًا متحررًا من التبعية أيًا كان نوعها وشكلها الفكري، أو السياسي، أو الاجتماعي.
العمل الثقافي
يتناول الناقد أحمد شهاب أزمة غياب الفاعلية والعمق في ممارسة الفعل الثقافي، ما أفرغه من قيمته وتأثيره، ويقول: الحاجة المرجوة من الثقافة ذاتها ومن العمل الثقافي، لم تلقَ ولم تحذ اهتمامًا كافيًا، ولم تأخذ حقها من الدراسة والبحث، رغم وجاهة الطرح وشرعية الاستفهام. لا ريب أن عددًا من المثقفين اعتنوا عناية لا بأس بها بهذا الجانب، إلا أننا نلاحظ عدم تبلور إجابة وافية عملية حتى هذه الساعة، ربما لانعدام المؤسسات الثقافية النوعية والمختصة أو قلتها، وتزاحم هذا القليل بقضاياه الأخرى، بالإضافة إلى خلط الأوراق وما يتبع ذلك من عوائق تعترض مسيرة المؤسسات القليلة الموزعة هنا وهناك.
المعالجات الثقافية
يقول شهاب: ربما كان لغياب المشروع الثقافي الشامل الذي يضم بين دفتيه وتحت مظلته تلك الرؤى والتطلعات والآراء «المختزلة» لأهم طبقة في المجتمع، ما حوَّل المعالجات الثقافية إلى معالجات قشرية «شكلية» يطغى عليها الخيال ويغيب عنها الواقع، ما أسهم في نشأة طبقة تتعاطى مع الثقافة كحالة كسبية، وواجهة اجتماعية أحالت الثقافة والعمل إلى نوع من الترف الفكري الذي أسهم إسهامًا لا بأس به في تقويض فكر التغيير والإصلاح الاجتماعي. ونشأ بدلًا منه فكر تكريس الواقع السيئ وتطبيعه، وربما كانت للفكر الكسبي الاستهلاكي مؤسساته، ومشروعاته، وتأثيره، وبروزه على الساحة، وبالتالي تعاطي أفراد المجتمع معه وتأثرهم به، في ظل غياب المشروع الثقافي الجاد.
حقوق المثقف
من زاوية محلية وبرؤية أكثر التصاقًا بالهم الاجتماعي والبعد الإنساني، تتجه رؤية الكاتب والقاص محمد اليحيا إلى المطالبة بتوفير بيئة مواتية للمثقف أو كما يبدو هي مطالبة بتحويل المثقف ذاته إلى مشروع، والعناية به على هذا الأساس. يقول اليحيا: الثقافة لن تكون مشروع حياة ما لم يتوافر للمثقف الأمان في حياته والأمان ولأسرته بعد مماته، كما أنه يجب أن يعطى للمثقف حقه ومكانته من خلال بطاقات تثبت انتماءه إلى الثقافة، وتحتوي تلك البطاقة ميزات عديدة. كما أننا لكي نجعل الجمود الثقافي حياة وحيوية يفترض أن يكون هناك تحفيز وتنافس بين المثقفين بشكل ثابت ومستمر طوال العام، لا كما يحدث، حاليًا، بإقامة فعاليات موسمية، فلدينا أندية أدبية، وفروع لجمعيات الثقافة والفنون. الأندية الأدبية النشاط فيها محدود بسبب الميزانية، ومجلس إدارة جمعية الثقافة والفنون يبدو أنه لا علاقة له بالثقافة.
وضوح المنهج
يقدم د.فيصل العوامي قراءة منهجية تحدد سلوكيات عامة في سبيل تفعيل الدور الثقافي تتمثل في وضوح المنهج والتوجه، ويتساءل: من أين يريد أن ينطلق المثقف في مشروعه؟ ولماذا والى أين يريد أن يصل؟ وما أدواته العملية ومسلماته الأولية؟
مضيفًا: هذه التساؤلات هي التي تتآلف لتكون منهجًا للعمل، ولذا لا بد من وضوحها لتكون مشاركته علمية مبتعدة عن الضبابية.
وفي بعض الأحيان يكون للمثقف دون غيره مشروع ثقافي اجتماعي، لكنه معتم وضبابي، بسبب عدم وضوح مبادئه، أو لأنه جاء كرد فعل سلبي على بعض المؤاخذات الاجتماعية. وما يحدث في هذه الحال هو تلكؤ هذا المشروع في مسيرته وتعثره بين الحين والآخر، ما يجعله يدور في حلقة مفرغة لا يدري إلى أين يريد الوصول، وما ينتظر من المثقف هو مشروع واضح المعالم، فصيح المنهج، غير ضبابي. وقد امتلأت الساحة اليوم بالتجارب العديدة والقوية، فلذلك أمكن للمثقف أن يستقي منها عبرًا ويستفيد من نجاحاتها وفشلها في تكوين مشروعه المستقبلي.
البديل المناسب
يطرح العوامي فكرة «التحول إلى المؤسساتية» كسلوك آخر، حيث يرى أن من أشد ما يؤخذ على المثقف في عمله، نزوعه المستمر نحو الفردية، ويُرجع ذلك إلى كثرة إشكالات المثقف، حيث إنه لا يرضى عن الشئ ولا حتى عن نفسه، وهو ما يبقيه وحده دائرًا في حلقته، أو لتوقف طموحه عند حد نقد الموجود فقط، دون محاولة إيجاد البديل المناسب الذي يضيفه.
الساحة الثقافية والاجتماعية اليوم ليست في حاجة إلى من يتخصص في النقد المطلق. وإنما هي بحاجة إلى مشروعات حية، لذا أقول: إن المثقف بحاجة اليوم إلى أن يكون أكثر عملية، وأن يتحول وينتقل من أسلوب العمل الفردي الذي يتوقف عند حدود النقد، إلى أسلوب العمل المؤسساتي الجمعي الذي يجعل المثقف في زحمة العمل والإنتاج، وبالتالي الإيجابية وليست السلبية، وأعني بهذا التحول إلى المؤسساتية، والاندماج في مشروعات اجتماعية أو ثقافية تحمل أهدافًا واضحة.
ولا يصح أن يقول المثقف إما أن أعمل بمنهجي وفكري أو لا أعمل، لعدم صحته كمنهج فقط، وإنما لأنه مستحيل التحقيق، لأن كل إنسان في الساحة العملية يمكن أن يقول ذلك، فلأن هذا المنهج غير صحيح، لا بد إذًا من التوافق والتلاقي مع سائر المشروعات القائمة في المحيط الذي يعمل به المثقف.
|