عبدالرحمن السدحان:
للكاتب.. منطقة محايدة!
أحاول عبر رئتي الثالثة أن أتنفس هواء غير ملوث بكربون الهوى أو غبار اللغو.
• الرياض: أميرة المالكي
عبدالرحمن السدحان، أمين عام مجلس الوزراء.. كاتب يرصف حرفه على طرقات الذكرى، تعاضد العلم والخبرة، واشتركا معًا في تكوين ملامح خطواته، ولادته الثانية كانت في أمريكا، لعب الحظ والمصادفة دورهما في حياته ويعد الكتابة فتيلاً يشعل أصابعه ليعطر الحقيقة.
من قمة عقبة «ضلع» هبوطًا إلى جازان، حتى استشراف نهر البردوني ليكون التحليق من بعد إلى أمريكا.. رحلة متباينة التضاريس، هل كانت كافية لرسم خارطة عبدالرحمن السدحان الإنسانية؟
تلك كانت «خارطة طريق» قاسية بمقاييس الزمان والمكان سلكتُها مختارًا حينًا، وكارهًا حينًا آخر، بدءًا من عقبة ضلع هجرةً إلى جازان.. ثم ما تلا ذلك من «هجرات» متتالية حتى انتهى بي الأمر في العالم الجديد..أمريكا مبتعثًا للدراسة الجامعية.
لم يكن لبعض محطات تلك الرحلة الطويلة «بوصلة» تقود مسارها، ولذا لعبت المصادفةُ حينًا والحظ أحيانًا دورًا مفصليًا في تشكيل حياتي، لكنها أفلحت في انتشالي من رصيف اللاوعي لتضعني في جادة الوعي الجاد يوم عرفتُ لأول مرة ما أريد!
لذا، لم أقلْ عبثًا يوم وصفتُ تجربة الدراسة في أمريكا بـ«الولادة الثانية» لي، ولولاها لكان لي شأن آخر الله وحده به عليم، والحمد لله من قبل ومن بعد.
إن قلنا إن احتساء الثقافات المختلفة يمنح صحة فكرية جيدة..أي النقلات في حياتك كانت سعراتها عالية..؟ ولماذا؟
أعدُّ هذا السؤال امتدادًا لسابقه فأقول:
إن ولادة الوعي الحقيقي في دنياي بدأت لحظة بدأت خطواتي الأولى داخل الحرم الجامعي في أمريكا. لحظتئذ، شعرتُ، لأول مرة، أنني دخلتُ نفق التشكّل الإداري والمعنوي لـ«عبدالرحمن» الإنسان الجديد الرابض في أعماقي، وأبصرتُ، لأول مرة أيضًا، بصيصًا باهتًا من النور في نهاية ذلك النفق الطويل جعلني أعقد العزم على قبول التحدي متوكلًا على الله. كنت بعيدًا جغرافيًا عن الأهل والأصحاب والأتراب وأرض الذكريات، لكنني كنت إحساسًا وشعورًا قريبًا جدًا من بلادي ولاءً لها وانتماءً، ولذا كنتُ حريصًا على استثمار كل دقيقة لأحقق لنفسي النقلة المنشودة عقلًا وروحًا وسلوكًا، كي «أتأهل» لخدمة ذلك التراب البعيد خدمة تتساوى عمقًا مع الحب له، ونشوة العودة إليه يومًا ما إنسانًا جديدًا.
نعم كانت «سعرات» التجربة في أمريكا، دراسةً وتعايشًا وحياةً، عالية التركيز، ثرية العطاء، ولذا أجرؤ اليوم على القول إنني عثرت على نفسي في ثنايا تلك التجربة.. رغم قسوة الغربة وشجن الحنين إلى كل شيء أنتمي إليه، ولكن كان لابد من ذلك الانصهار لتحقيق الولادة الجديدة بكل ما فيها من عطاء.
وجود «لا شيء» من مفاتن الحضارة في طفولتك..ماذا قدم لك من أشياء الآن..؟
لو لم يقترن هذا «اللا شيء» بطفولتي، ندرة تشبه العدم أو عدمًا ينافسُ الحرمان، لما شهدتُ هذا اليوم بكل ما فيه من مفاتن الوفرة، ونعيم العطاء، وذلك بفضل من الله، أولًا وآخرًا، ثم بالصبر والصمود، والتفاؤل بغدٍ أفضل. كنتُ في زمني الغابر أنام وملء جفوني الأمل في أن تكون «وجبة» الزاد في غدي خيرًا من أمسي، ثم تحول الحال، وزال المحال، وكبرت دائرة التفاؤل وعظم الأمل يعضدهما كدٌّ لا يعرفُ المَلَل.. والحمد لله الذي بحمده تزداد النعم وتبقى.
ما زلت تحتفظ بصحيفة الحائط المدرسية..هل تعتقد أنها جالبة للحظ، لذا فهي باقية..؟
لا زلت أحتفظ بـ«يتيمتي» الوحيدة صحيفة الحائط في المدرسة النموذجية الابتدائية بجدة «أنشأتها» قبل نحو خمسين عامًا، وأسميتها «صوت الطالب» ظنًا مني أنها ستكون «منبرَ من لا منبرَ له» من زملاء الدراسة، وأنها ستنمو وتبقى لتحقيق ذلك الهدف، لكنها ولدت يتيمة، وكاد اليتم أن يُودعها غياهب النسيان، لولا أن المصادفة وحدها أبقتها لتنتقل معي إلى الرياض في عام 1376هـ، ثم تدخل في «غيبوبة» طويلة حتى عدتُ من أمريكا لأنتشلها بعد أن كاد الإهمال يحولها إلى أشلاء، ثم أرد لها الاعتبار لتكون صحيفة حائط من جديد «تسكن» بروازًا جميلًا داخل مكتبة منزلي، ثم تخلد بعد ذلك بالظهور في كتاب ذكرياتي «قطرات من سحائب الذكرى».
اليوم أقرؤها للمرة المليون فأبتسم ابتسامة تبللها دمعة ذكرى ليوم ولدت هي بين يدي داخل«زنزانتي» الصغيرة في منزل العائلة في جدة.
في حديث سابق لك قلت: تعلمتُ من دراسة اللغة الإنجليزية كيف أكتب باللغة العربية. كيف كان ذلك؟
كنتُ وما برحتُ أعني ما قلتُه يومًا، وأقوله الآن.. إنني تعلمتُ من الإنجليزية كيف يجب أن أكتب بلغتي الأم، كنتُ في مرحلتيْ الدراسة المتوسطة والثانوية «أحشو» كراسة الإنشاء بإسهاب في الكلام، أقرؤه فتعجبني صياغتهُ، ويقرأ أستاذ الإنشاء، فيمسّه ما مسّني إعجابًا بما كتبت، لكنه كان كلامًا مرسلًا، بلا هدف، وبقليل من المعنى، وكانت الفقرة تبدأ بأول كلمة في السطر ثم تسيح عبر السطور والصفحات التالية، بلا خطة، ولا تسلسل في الفكر أو التفكير والمعنى.
وحين تعلمتُ «هندسة» الحرف في سنتي الأولى بالجامعة في أمريكا، أدركتُ أنه لابد أن يكون للنص المراد إنشاؤه هدفٌ معلن وآخر تفصح عنه السطور، ولابد أن يكون له «خارطة طريق» تتلخص في الآتي: ماذا تريد أن تقول؟ ولماذا؟ ثم ترسم بالحرف المعنى المرادَ بالنص، ثم تختم بخلاصة لما سبق، وأيّ نتائج قادك إليه البحث والتأمل، وهذا هو تفصيل ما أوجزته يومًا في هذا الصدد.
الكتابة تنجبها القراءة، فهل كانت تستهويك كُتبُ السيرة، لتفاجئنا بولادة ابنك الأجمل «قطرات من سحائب الذكرى»؟
لم يكن أدب السير الذاتية زادًا لي يومًا ولا متاعًا، وما كنت أفكر يومًا، ولو على بساط الحلم، أنني سأكتب نصًا يمكن أن يوصف بـ«السيرة الذاتية»، لكنني ألفيت نفسي ذات مساء من صيف 1425هـ أمسك القلم وأبدأ كتابة نص يتحدث عن بدايات حياتي، لأن فيها ما يستحق أن يُروى، وجاءت هذه الولادة «متعثرة» بادئ الأمر، لأنني لم أكن مقتنعًا بقدرتي على خوض تلك التجربة القاسية، تجربة الغوص في مجاهل الذاكرة بحثًا عن مادة تستحق التدوين، وكان هناك أمرٌ آخر عانيته في البدء أيضًا، وهو أن «النبش» في رفات الماضي ليس أمرًا محببًا إلى النفس، لأن فيه جروحًا لم تندمل وأوجاعًا لم يعف عنها الزمن.
على أي حال، أحمد الله أنني لم أستسلم لمخاوفي من عتب القارئ أو غضبه أو إعراضه عن قراءة سيرتي، وجاءت معظم النتائج لتهزم كل توقعاتي..
لماذا تتجه البوصلة في كتاباتك نحو «السيدة الوالدة» غالبًا..؟ ولماذا شمس حرفك أفياؤها الماضي وذكراه؟
لمَ لا تكون سيدتي الوالدة «بوصلة» الحب في مشواري العاصف مع الحياة وهي التي حملتني وهنًا على وهن، وتحمَّلتْ في سبيلي كل أنواع الضيم، ما أعرف منه وما لم أعرف!! إما بسبب أوجاع الصغر التي كادت تودي بحياتي، أو بسبب حالة الشتات التي حاصرتني من كل جانب بعد افتراق الوالدين، رحمهما الله.. كانت أمي هي الفنار الذي يضيء شطآن حياتي، سواء كنتُ حاضرًا بين يديها أو كنتُ بعيدًا عنها، كان دعاؤها الحنون، رحمها الله وأرضاها، يصلني في كل مكان آوي إليه.
أتعجبون بعد هذا كله كيف تستأثر سيدتي الوالدة بالكثير من ملامحي الكتابية!
«الرئة الثالثة» أي نوع كتابة «تزفرها» أكثر؟ وأيها تتجنب تمريرها؟
أحاول عبر «رئتي الثالثة» أن أتنفس هواءً غير ملوث بـ«كربون» الهوى أو «غبار» اللغو الذي يشبه زبد البحر يتكسر على صخر الحق والحقيقة، وأحاول في الوقت نفسه، أن أنأى برئتي وقلمي عن «زفير» البحث عن الشهرة الذي تسمع له جعجعة ولا ترى طحنًا! أقول هذا لا ادعاءً للفضيلة ولا تزكية للنفس، فالنفس أمارة بالخطأ أحيانًا، ولكنني أحترم ذكاء القارئ وعقله قدر احترامي لكل كلمة يرسمها قلمي على الورق، وبدون هذا أو ذاك، لستُ جديرًا باحترام القارئ ولا وقته.
تقول إنك خلال الكتابة «تتجنب إشعال النيران خلفك» ألا تستحق بعض القضايا إشعال فتيل يضيء ولا يحرق؟
ما قصدته بذلك القول هو التحذير لنفسي ألا تُفتَتَن بكتابةٍ هي أقرب إلى فرقعة «الصواريخ المزيفة» للألعاب النارية تحدث دويًا بلا نور ولا نار. وما أتمناه لقلمي هو أن يشعل في أصابعي قبسًا من نور يعطر الحقيقة..لا فتيلًا يوقد نارًا تحرق عطائي ولا تضيء.
الشيخ حمد الجاسر رفض مقالتك النقدية «عن العمالة الوافدة» بينما تصدرت مقالة «الوحدة العربية» الصفحة الأولى.. هل كان لهذا أثر في توجهك الكتابي؟
كان ذلك اللقاء مع فقيد الثقافة العربية الشيخ حمد الجاسر، رحمه الله، نقطة تحول في حياتي، ليس في سيرتي مع القلم فحسب، وقد نجحت بحمد الله في أن أحول الشعور بالإحباط الذي تلا لقائي الأول معه إلى شحنة من التحدي منح قلمي تأشيرة دخول إلى ملكوت صحيفة اليمامة ليدخل ذلك الملكوت من أوسع أبوابه ويُستقْبل في قاعة كبار الزوار ضيفًا على الصفحة الأولى منها وكان ذلك «الانتصار» رد اعتبار هز كياني جذلًا وثقة.
هل يستطيع الكاتب إفراغ محبرته من منصبه الوظيفي؟
يستطيع الكاتب أن يوجد لنفسه «منطقة محايدة» بين حراك قلمه، ونواميس الوظيفة، فلا يمس أحدهما حِمى الآخر، وعكس ذلك عبث وفوضى.
مررتَ بتجربة أكاديمية.. هل تنبهت إلى الفجوة الحاصلة بين الطلاب وبين القراءة الثقافية؟ ومن أين يجب أن نبدأ معهم في هذا الشأن؟ وإلى أين يجب أن نصل بهم؟
أقول لكل من حماه نشء، من ذكر أو أنثى: عوّد نشأك على القراءة منذ الصغر، ابحثْ عن كل وسيلة ممكنة تحفزهم لها ولا تنفرهم منها، حتى إذا بلغوا سن الجد والجهاد مع النفس، لم يجدوا في القراءة «الضيف الثقيل» الذي يملُّه المكانُ، والزمانُ، والسمعُ، والبصرُ. عصرنا الحاضر هو عصر القراءة بكل قنواتها المقروء منها والمسموع، ومن لا يقرأ اليوم فلن يقرأ غدًا ولا بعد حين.
القسوة في بداية حياتك براقك نحو سماوات عديدة.. هل تظن أن رغد العيش والراحة لا يقومان بالمهمة نفسها؟
لا أريد هنا أن أتخذ موقف الزاهد أو المزهّد في رغد العيش، ولا أن أعمم الحكم بالقول إن من ينعم برغد العيش في بدايته لا يستعذب النجاح بعد الفشل ولا اليسر بعد العسر، ولا رغد العيش بعد ندرته، لكن الحقيقة التي أؤمن بها وشهدتها في حياتي. ومعي آخرون هي أن عسر العيش في بداية مشوار النمو الحياتي يجعل المرء أكثر التصاقًا بذاته، كشفًا لقدراته ومواهبه والفرص المتاحة له محاولًا بذلك تجاوز هذه المرحلة إلى مستوى من اليسر. عذاب المذاق حلو المنال، وإذا كانت المواقف في الحياة تعرف بضدها، فإن المرء لا يعرف نشوة النجاح إلا بعد مرارة الفشل، ولا رغد العيش إلا بعد ندرته وكده ونكده.
ولذا، أتمنى على الشاب ألاّ يقسو على نفسه أو يظلمها استسلامًا لنشوة الرفاهية ومباهجها، لأنه قد يشهد يومًا غياب ما ألفه من رغد، ثم لا يكون له رصيد من التجربة والمعاناة يعينانه على تلمس باب الخروج من تحديات يومه الجديد.
هل يحتاج جيل اليوم إلى بدايات مرهقة، وأدراج صعبة لينال فرصة يستحقها كما أنتم؟
يفتنني في التعامل مع سؤال كهذا قول الشاعر:
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا
وفي هذا القول حكمة لا تبلى ولا تبور، وجيل اليوم الذي ولد الكثيرون من أراده وفي أفواههم «ملاعق الرفاهية» لابد أن يدركوا ضرورة بناء قاعدة قوية من التأهيل لأنفسهم..كيلا يبقوا «أسرى» الرعاية من قبل أولياء أمورهم، وأن عملية التأهيل هذه طويلة الأجل، بطيئة الحركة، محفوفة بمفازات الصعاب، لكنهم لابد في النهاية أن يبلغوا بعون الله خطًا للنهاية تحدده قدراتهم.. وحصاد بذلهم لينعموا بعد ذلك «بثمرة» الشقاء بحثًا عن الفوز بالغنى عن الحاجة.. والثقة بالنفس بعيدًا عن مهزلة الاعتماد السرمدي على سواهم من وليّ أو حميم، وليتذكروا أبدًا أن زمنهم هذا صعب المسار، صعب النجاح، صعب الحلم، لكن لا شيء مستحيلًا يحول دون خوض التجربة بنجاح حتى النهاية.
معهد الإدارة وقفة مهمة في حياتك المهنية، ما الجميل إداريًا في تلك الفترة؟
معهد الإدارة محطة مهمة في مشوار حياتي شهدت فيه ولادتي إداريًا، وشهد هو انطلاقتي في مسارات مضيئة جمعت بين «رومانسية» الأكاديميا وفاعلية التطبيق العملي لكثير مما أفرزته دراستي الطويلة في أمريكا، كنت أتعامل مع الكتاب والكتابة الإدارية والمحاضرة، وفي الوقت نفسه، عشتُ تجربة الإدارة عمليًا.
أما أجمل ما في تلك المحطة فيتمثل في التجاذب الوديّ المباشر بين المشاركين في العمل في شراكة حميمية عبر سلم هرمي يسير يرى مَنْ في أعلاه العاملين في قاعدته من خلال منظومة من التلاحم اليومي المباشر وشبه المباشر، لم أشعر فيه يومًا بأن هناك فجوة من طقوس السلطة أو نواميسها تحول بيني وبين من بيده القرار.
والأهم من كل ذلك أن المعهد منحني فرصة ثرية للتعلم ميدانيًا عن الإدارة في بلادي عبر شرائح المتدربين الذين كانوا يفدون إليه من كل الأعمار ومنحني كذلك فرصة التعامل مع الكتاب: بحثًا واستقراءً وتطبيقًا.
برأيك.. لماذا التطوير في الأداء الإداري سلحفائي جدًا بالمقارنة مع النقلة الإنمائية التي تشهدها بلادنا؟
هذا سؤال معقد التكوين، والرد عليه أكثر تعقيدًا، وفي ظني أن ظاهرة الفجوة بين التطوير الإداري والرقي الإنمائي عالمية الهوية، وخصوصًا في الدول الأقل تطورًا، وليست محلية يختص بها هذا البلد أو ذاك. وأحسب، أيضًا، أن هذه الظاهرة جزء من معادلة التغير الإنساني، مقارنة بالنمو المادي، الأول بطيء الحركة والإنجاز، لأن مدخلاته ومخرجاته تعتمد على الإنسان المحفوف دومًا بقيم وعادات وطبائع تثقل حركته، وتقلل من سرعة إنجازه، في حين أن النمو الآخر يعتمد على تسخير المادة، وتوجيه حركتها وديناميكيتها، كلا النمطين من النمو يسير ويسيّر بفعل الإنسان، لكن النتائج مختلفة كيفًا وحركةً وكمًّا.
هذه محاولة اجتهادية لقراءة المعضلة التي طرحها السؤال من منظور إنساني، الفاعل والمفعول من أجله فيها هو الإنسان. وهو مبتدؤها وخبرها، وهو بدايتها ونهايتها، وأرجو ألا يظن أحد أنني بهذه «الفذلكة» الفلسفية أعتذر لظاهرة تخلف النمو الإداري عن نظيره المادي، لكنني أقرر حقيقة نشهدها ونقرؤها ونسمع عنها في أكثر من زمان ومكان، والأمل بعد ذلك لي في ردم الفجوة بين نمطي النمو، فذاك حلم قد لا يتحقق، ولكن في تضييقها ما أمكن، مع ضرورة الاستفادة من مخرجات التقنية الحديثة، كيلا تظل التنمية الإدارية أسيرة القصور الإنساني في أي شكل كان.
تسعة عشر عامًا في أروقة الخدمة المدنية.. أليست كافية لتتبنى حمل راية الذود عن حمى مستقبل الشباب وتخليصهم من البطالة المتزايدة في شرها؟
وماذا عسى تجربة تسعة عشر عامًا لإنسان متواضع القدر والقدرات مثلي في خدمة «الخدمة المدنية» أن تفعل لفك «أحاجي» البطالة التي يسهر الخلق جراها ويختصمون!! الأمر كله خلاصة «ثقافة» تبدأ وتنتهي بتراكمات تفترض أن الوظيفة العامة هي الخيار الأول والثاني والأخير، إن لم يكن «الأوحد» للشاب الجامعي وحامل الابتدائية، وما عدا ذلك فأمر استثنائي، وحتى لو تعثر الخيار الأول وتيسر الثاني، في أحد دهاليز القطاع الخاص، تظل «الوظيفة الحكومية» حلمًا لا يعادله حلم، حتى وإن فاقه عائدًا ومزايا.
دعوني أقلْها بصدق وصراحة، لنساعد جميعًا الشاب، ومجتمعه معه، على الخلاص من ثقافة الكابوس الوظيفي لصالح «الوظيفة العامة» وما ترمز إليه تلك «الثقافة» ادعاءً من يسر لا عسر فيه، وارتخاء لا جد فيه، ولا سؤال ولا عتاب أو عقاب. دعوا الشاب يبحث عن مناخ ملائم لناقة حلمه وتحصيله.
العمل الأكاديمي، والخدمة المدنية وأمانة مجلس الوزراء، كلها بوابات تفيض بنا إلى مساحة استفهام واسعة، ماذا يربط بين كل هذا وجيل الشباب المتجه نحو أنفاق مستقبلية لا ضوء «وظيفي» بآخرها؟
أبدأ بتساؤل عن سر إقحام «أمانة مجلس الوزراء» في بوابات هذا السؤال، ثم أنتقل من ذلك إلى القول بأنه إذا كان فهمي المتواضع قد أدرك شيئًا من غاية السؤال، فإنني أرى من الخطيئة والخلط ربط بوابة «العمل الأكاديمي» للشاب بــ«نفق مستقبلي» معتم بسبب غياب الضوء الوظيفي في آخره، وعندي أن فرضية كهذه مغرقة في التشاؤم حين «تبشر» الشاب وهو يخوض تجربة الاستعداد المستقبلي بنفق من البطالة لا ضوء في نهايته.
ومرة أخرى أتساءل: لم كل هذا التشاؤم، ولم كل هذا التباكي حول أمر لم يزل في طيات الغيب أقول «لمروجي» الشؤم حول مستقبل الشاب: دعوه يحلم ويعمل معًا على تحقيق حلمه فيتعلم علمًا صالحًا تحت قبة الجامعة أو خارجها يستثمر من خلاله رغباته ومواهبه وأحلامه، ثم من بعد ذلك لكل حدث حديث، ومستقبل هذه البلاد يعد بالكثير والكثير بإذن الله مما يَسُر الشاب وغير الشاب.
من حق الشباب أن يحلموا ومن واجبهم العمل على أحلامهم.. لكن من المسؤول عن تهيئة بيئة مناسبة لآمالهم؟
كثيرون يضطلعون بالمشاركة في تنمية الشباب وتهيئتهم لتحقيق أحلامهم، بدءًا بأنفسهم، وأنصح الشاب ألاّ يُصعّر خدّه أو يمشي في الأرض مختالًا وكأنه سيخرقُ الأرضَ أو يبلغَ الجبال طولًا، مستهترًا بمن سواه من أهل أو قريب أو صديق. ليُكمل كل منا دور المشاركة في تنمية الشاب عقلاً وروحًا ووجدانًا.
ونعم من حق الشاب أن يحلم، ومن واجب الأوصياء عليه أن يحلموا معه، لكن تحقيق الحلم، ليس بالأمر اليسير.
قرع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، حفظه الله، أجراس مهمة في أصعدة شتى.. منها «تفعيل دور المرأة السعودية» هل تظن أن هناك تنبأ مستقبليًا لأمر ما؟
سيبقى خادم الحرمين الشريفين نصير المرأة السعودية من عوادي الجهل أو التجاهل لآدميتها، وسيظل حفظه الله حليف طموحها لمشاركة شقيقها الرجل هموم تنمية الوطن شريطة أن تتأهل لذلك تأهيلًا سويًا يمكنها من تحقيق الشراكة وحمل الأمانة، وصيانة أمن هذا الوطن ورخائه وعزه.
بماذا يجب أن يتشبث أبناء الوطن عند كل عاصفة تهدد أمن البلاد وطمأنينتها؟
أقول لأبناء وطني حين يدعو الداعي لفداء الوطن: تمسكوا بثوابت وطنكم، واحموا أبناءكم وبناتكم فكرًا وروحًا وجسدًا، من عبث المهووسين بحمى الدمار وهمجية الفوضى، و«جاهلية» الظلام، في أيّ صورة جاءت، ولأي غاية سُخرت، وبأيّ رداء اتّزرت.