المنستير
مدينة تطل من عمق التاريخ
أول مدينة عربية إسلامية تُبنى في شمال إفريقيا، ورباطها أقدم حصن في المغرب العربي.
• تونس: منال العابدي
مدينة المنستير التونسية يزورها العديد من السياح من مختلف الجنسيات، يقف التاريخ شامخًا على عتبات هذه المدينة، ليسري منه عبق الحضارات، وتمتطي الأسطورة صهوة الحلم تؤسس لحاضر مشرق، ومستقبل أكثر إشراقًا.
المنستير أو «روسبينا» ملكة تطل من عمق التاريخ لتمزج الحاضر بالماضي، وترسم خطوط المستقبل.
|
|
|
|
تقع مدينة المنستير في الوسط الشرقي، على بعد 165 كم من العاصمة التونسية، وعلى مشارف البحر الأبيض المتوسط. المنستير مدينة تاريخها ثري بالأحداث، وخير دليل على ذلك هو التراث الذي نقلته لنا. فقد شهدت حضارات العصر الحجري، إذ بينت الحفريات وجود آثار لأنشطة بشرية ضاربة في القدم ترجع إلى الحضارة العاطرية التي امتدت بين نهاية العصر الحجري القديم الأوسط وبداية العصر الحجري القديم الأعلى «بين 25000 سنة و35000 سنة قبل الميلاد». ويبدو أن النعت عاطري هو نسبة إلى بئر العاطر بالجزائر قرب الحدود التونسية.
تاريخ.. وحضارة
عُرفت المنستير في نهاية فترة ما قبل التاريخ حضارة «الحوانت» وقد اشتقت هذه التسمية من الكلمة العربية «حانوت» بمعنى الدكان وذلك حوالي 2000 إلى 3000 قبل الميلاد، وهي حضارة اعتمدت على حفر سراديب في الشاطئ الصخري تستعمل للسكن ثم لدفن الموتى.
المنستير من اللاتينية «مونستيريوم»، أو اليونانية «مونستيريون» هي روسبينا القديمة التي أسسها الفينيقيون سكان صور في القرن الرابع قبل الميلاد. وتعني كلمة «روبينا» التي هي من أصل بوني الرأس أو بالتحديد شبه الجزيرة، وكانت روسبينا تمتد على أكثر من 8 هكتارات من موقع استراتيجي بعيد عن الغزوات.
الحكم الروماني
وقد ساعدت روسبينا البطل القرطاجي «حنبعل» في حربه ضد الرومان في القرن الثالث قبل الميلاد، ورغم أن روسبينا قد عرفت الحكم الروماني منذ سقوط قرطاج في القرن الثاني قبل الميلاد «146 قبل الميلاد» فلا شك في أن الحضارة البونية وهي مزيج من الحضارة البربرية والحضارة الفينيقية قد تواصل وجودها في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، وفي تلك الفترة كانت روسبينا مدينة حرة لها مجلس بلدي وميناء كبير.
وقد كانت المنستير مسرحًا لبعض فصول تاريخ تونس، فقد ضرب التاريخ موعدًا مع يوليوس قيصر في حربه الإفريقية «46 قبل الميلاد» منحها بعض تألق انتصاره على خصمه بومبيوس، فنالت المدينة منزلة مرموقة بين المدن الإفريقية الخاضعة تحت السلطة الرومانية.
العصر الذهبي
وشهدت المنستير في العهد الزيري عصرها الذهبي حيث سلمت من ويلات الزحف الهلالي، ورأى الزيريون في رعايتها خير ما يثبت لأهل إفريقيا تمسكهم بالمذهب المالكي فتعددت المساجد بها كمسجد الكبير قبلي الرباط، ومسجد الإمام المازري غربه، وأضيف إليها رباط السيدة أم ملال عمة المعز. وتعد المقبرة البحرية في المنستير متحفًا كبيرًا لتاريخ المجتمع الإفريقي بما خلفته من نقائش يعود قسمها الأكبر إلى العهد الزيري. ولعل من أهم دفناء هذه المرحلة الإمام المازري الذي صار رمزًا للمنستير وأهلها.
البوابات البديعة
بعد نكبة النورمان والفتح الموحدي، استعادت المنستير كثيرًا من إشعاعها تحت الحكم الحفصي واستفادت من سياسة الحفصيين العمرانية لتتحول إلى مدينة ذات ملامح كلاسيكية فبُنيت أسوارها ذات البوابات البديعة كباب الدرب وباب السور، وتعددت مساجد الأحياء بها في القرن السابع هجري، 13 ميلادي، ثم تحول الرباط إلى قصبة حفصية، وأضاف إليه أبو فارس عبدالعزيز مدخله الغربي الموجود حاليًا.
وكانت المنستير أول مدينة عربية إسلامية تُبنى في إفريقيا وفي شمال إفريقيا كانت تضم تونس الحالية وجزءًا من الجزائر.. وقد أصبحت سنة 665 ميلادية «السنة 45 من الهجرة» معقلاً خارجيًا لحماية العاصمة القيروان.
رباط المنستير
أسس هرثمة بن الأعين، والي الخليفة هارون الرشيد، الرباط الكبير بالمنستير سنة 796 ميلادي «سنة 180 هجري» وأصبح رباط المنستير أكثر المعالم الدفاعية ضخامة بفضل التوسعات والتحصينات التي أدخلت عليه بين القرن 15 والقرن 18 وسكنه المرابطون وهم متطوعون لخدمة الرباط، وقد تحول سريعًا إلى مركز روحي مشع دعّم في أواسط القرن الثالث هجري.
ساحة الرباط
ويعد رباط المنستير اليوم أقدم حصن في المغرب العربي وأحسنها حالة ويشرف برج المراقبة فيه الذي يبلغ ارتفاعه عشرين مترًا على ساحة الرباط التي تحيط بها الحجرات من ثلاث جهات، وفي قمة هذا البرج يمكن التمتع بجمال شاطئ المنستير بزرقته وصفائه.
وقد هدفت سياسة الحماية الفرنسية «1881 إلى 1956» إلى إعادة إحياء «حضرموت» الرومانية فتم تعزيز مدينة سوسة وأهملت المنستير التي قسمت إلى عدة قيادات، وتم عزلها اقتصاديًا بسبب بعدها عن الخط الحديدي والتجميد التدريجي لنشاط مينائها. وقد هدم سورها الداخلي سنة 1903 ومتاجرها سنة 1926، وبذلك دخلت المدينة في طور من الركود الاقتصادي، والاجتماعي، والحضري دام قرابة خمس وسبعين سنة.
أبراج مستديرة
ويتخذ الرباط شكل قلعة مدعمة بأبراج مستديرة وأخرى متعددة الأضلاع، وتزين المدخل مشاك مسطحة منتهية بأقواس نصف دائرية يعتريها إفريز من الأشكال النباتية، وهو تنسيق زخرفي يميز الأسلوب الفاطمي الزيري، ويتكون المدخل من بوابة منعرجة تعلوها نقيشة حفصية كتبت عليها بخط نسخي. وتؤدي البوابة إلى فناء يسمح بالنفاذ إلى الرباط الأصلي.
يضم المدخل فناء محاطًا بأروقة تنفتح عليها الغرف، ويأوي الطابق الأول قاعة للصلاة تتألف من أسكوبين وسبع بلاطات، يتميز البلاط الأوسط بعرضه الكبير مقارنة مع البلاطات الأخرى، وقد أصبح هذا الترتيب المعماري المطبق لأول مرة في قاعة للصلاة أمرًا ثابتًا في جميع الجوامع الإفريقية التونسية الكبيرة.
وتوجد أمام هذا المجمع من جهة الجنوب وعلى مستوى الطابق الأول قاعة مؤلفة من سبع بلاطات يقطعها أسكوبان، وهي مسقوفة بقبوات نصف أسطوانية، باستثناء البلاط الأوسط الذي غطى نصفه الجنوبي بقبية كروية الشكل منخفضة.
الصناعات التقليدية
كان الرباط قبل نهاية التعديل رباعي الأضلاع، يتألف من أربعة مبان تفتح على صحنين داخليين، وبالإضافة إلى الحجرات الصغيرة المخصصة للمجاهدين الذين كانوا يضطلعون بوظائفهم العسكرية ويعكفون في الوقت نفسه على الصلاة والتأمل، يأوي الرباط مسجدين يأوي أوسعهما حاليًا مجموعة نادرة من لوازم العبادة والصناعات التقليدية في العهد الوسيط.
ويمكن الصعود في مدرج حلزوني الشكل يضم حوالي 100 درجة للوصول إلى برج المراقبة، حيث يتم منه تبادل الإشارات الضوئية في الليل مع أبراج الرباطات المجاورة، وحيث تشاهد منه مشهدًا طبيعيًا رائعًا: المنستير الساحلية وجمال بحرها بزرقته التي تخطف الأبصار.
وجهة سياحية
تعد مدينة المنستير التونسية قبلة سياحية من أهم نقاط الاستقطاب في تونس وخارجها، حيث تشهد سنويًا تدفق آلاف السياح على نزلها وفنادقها، ويستقطب ميناؤها الترفيهي اهتمام الكثيرين، فهو مندمج في مركب سياحي يضم مركز إقامة فاخرًا، ومرافق أخرى عديدة.
من أهم الأنشطة الترفيهية بمدينة المنستير مهرجانها الدولي الذي كانت انطلاقته سنة 1964، وكان اسم المهرجان وقتها «مهرجان المغرب العربي»، ليصبح بعد ذلك مهرجان المسرح العربي يضم استعراضات للفنون الشعبية.
ويحتضن رباط هرثمة بن الجعد العروض الفنية، حيث استقطب العديد والعديد من الفنانين التونسيين، والعرب، والأجانب.