الفسيفساء
حوار الألوان
قطع صغيرة من الحجارة والزجاج تمثل أقدم فنون التعبير.
• عَمَّان: نزار الغنانيم
فن الفسيفساء من أقدم أنواع الفنون التعبيرية وأرقاها. ارتبطت نشأته بحاجة الإنسان إلى نوع جديد من الأرضيات التي تساعده على سرد أحداث دينية أو دنيوية. وعلى مر العصور، تعرض هذا الفن إلى ظروف مختلفة من التدمير، فدفن أغلبه داخل الأرض لمئات السنين.
حقيقة الفسيفساء
الفسيفساء عبارة عن مكعبات صغيرة تكون، عادة، من الحجارة الملونة أو الزجاج، وأحيانًا من مواد أخرى مثل الصدف، والخشب... وغيرهما. وبهذا يمكن تعريف فن الفسيفساء بأنه: ذلك الشكل الفني الذي تنتظم فيه قطع صغيرة من الحجارة أو الزجاج الملون، أو أي مادة أخرى مثبتة معًا بمادة رابطة. وهو فن تقليدي، ومن غير الممكن أن يكون ارتجاليًا من حيث تقنيته، أو طبيعته الفنية المرتبة ببراعة الحرفيين المهتمين بطريقة أداء المواضيع الزخرفية، سواء بالمكعبات الزجاجية أم الحجرية.
ووفق رهام حداد، مدرسة في معهد مادبا لفن الفسيفساء، فإن تاريخ فن الفسيفساء يشغل مرحلة زمنية طويلة، تمتد إلى ما قبل العصر الحجري القديم حتى عصر الإمبراطورية البيزنطية واندثارها في القرن الخامس عشر الميلادي، إلى أن استعاد هذا الفن نشاطه وحيويته في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين على أيدي العديد من المدارس الفنية، والأفراد المهتمين بهذا الفن المتميز.
أنواعها
يمكن تقسيم الفسيفساء إلى ثلاثة أنواع زخرفية، تبعًا للغرض المتوخى منها، وللمواد المستخدمة في إنتاجها، وهذه الأنواع الثلاثة هي: الفسيفساء الجدارية، وتعد من أقدم الأشكال الفسيفسائية وأولها وجودًا، وكان أول ظهور لها على واجهة المعبد السومري وأعمدته في مدينة أوروك «الوركاء الحديثة». ويعود هذا المعبد إلى نهاية الألف الرابع قبل الميلاد تقريبًا، حيث يزيد طول هذه الواجهة الطينية على 80 قدمًا, وتمثلت الفسيفساء فيها بأسافين صلصالية «فخارية» ذات نهايات دائرية حمراء وسوداء وبيضاء، شكلت معًا تصاميم هندسية بسيطة.
والنوع الثاني: هو الفسيفساء الزجاجية، وكان أول ظهور لها خلال العصر الهللينستي، واستمرت حتى القرن الأول قبل الميلاد. واستعملت الفسيفساء الزجاجية في الأرضيات، ولم تكن ألوانها محددة. كما استخدمت على الجدران بعد خلطها مع طبقات وشرائح رقيقة من الذهب، أو من الفضة أحيانًا.
واستمر ظهور الفسيفساء الزجاجية الجدارية خلال العصر الروماني، حيث اقترن استعمالها بالمباني المتصلة باستخدامات المياه مثل: سبيل الحوريات والحمامات، وذلك لأن الماء لا يدمر الفسيفساء الزجاجية، ولا ينفذ خلالها، فحلت الفسيفساء محل الرسم، وزخارف الجبص التي تتلف بسهولة بوساطة الرطوبة والماء.
كما ساد استعمال هذا النوع من الزخرفة الجدارية في مباني الإمبراطورية البيزنطية، الدينية منها والمدنية، وخصوصًا في مدينتي روما ورافينا في إيطاليا، فضلاً عن انتشارها الواسع في المباني الدينية العائدة إلى العصر الأموي، ممثلة في بناء قبة الصخرة في القدس، والمسجد الأموي في دمشق.
طبيعية
أما النوع الثالث: فهو الفسيفساء الأرضية، وتدل المكتشفات الأثرية على أن أول تطور لتقنية الفسيفساء كزخرفة أرضية مصنوعة من الحصى الطبيعي، وجدت منذ عصر مبكر في الشرق والمنطقة حول شواطئ البحر المتوسط، حيث اكتشفت أرضيات مصنوعة من الحصى في «مايرا» في بلاد الرافدين، والعائدة إلى نحو 2000 ق.م، في القصر الآشوري الخاص بأرسلان طاش. كما عثر على أرضيات من النوع نفسه، أيضًا، في تل بارسيب، تعود إلى نحو القرن التاسع قبل الميلاد. وفي جورديوم «عاصمة فريجيا في آسيا الصغرى» نحو القرن الثامن قبل الميلاد.
وبناءً على ذلك، فإن هذه المكتشفات تدعم الادعاء بأن الفسيفساء المصنوعة من الحصى بدأت في الشرق، وانتقلت إلى اليونان وبقية العالم الغربي بعد الاحتلال الفارسي لآسيا الصغرى نحو عام 546ق.م. ويعود السبب في انتشار هذا النوع من الأرضيات المصنوعة من الحصى البحرية والنهرية الطبيعية، إلى أنها كانت ذات غاية وظيفية أكثر منها جمالية، حيث زودت الأرضيات بسطح صلب ومقاوم للماء.
لقد رُتبت الحصوات الكبيرة في البداية بجانب بعضها بعضًا لتشكل أنماطًا هندسية، واستعملت لرصف الساحات المفتوحة، ثم اتجهت هذه التقنية العملية والرخيصة إلى المباني العامة، والقاعات، حيث صُممت الأرضيات لتعكس تأثيرات زخرفية معينة.
أرضيات
بدأ استعمال الأرضيات الفسيفسائية المصنوعة من الحصى في البيوت الخاصة بالأثرياء في العصور الكلاسيكية فقط، حيث عكست قدرة تحمل عالية للضغط الناجم عن كثرة الحركة والاستخدام.
أما في العصر البيزنطي فقد ازدهرت الأرضيات الفسيفسائية، وعدت فن الزخرفة الأساسي في الإمبراطورية البيزنطية، التي كانت تضم أجزاءً واسعة من منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، حيث استخدمت في زخرفة أرضيات المباني وتزيينها، الداخلية منها والخارجية، ونفذت بأساليب تقنية خاصة، اختلفت باختلاف الوظيفة التي ستؤديها الأرضية الفسيفسائية، ويُلاحظ ذلك بوضوح في الفسيفساء المنتشرة في الأردن عامة ومادبا خاصة، وفي غيرها من المواقع الأثرية العائدة إلى هذه الفترة. كما استمر ظهور الأرضيات الفسيفسائية في العديد من المباني العائدة إلى العصر الأموي في منطقتي الأردن وفلسطين.
وهناك نوع رابع يسمى الفسيفساء المنقولة: انتجت العديد من القطع الفسيفسائية بمقاييس صغيرة على دعامات متنقلة، حيث تسهل عملية نقلها من مكان إلى آخر. ومن الأمثلة على هذا النوع من الزخرفة: الصور المنفردة، أو الشعارات المعروفة بـ(Emblemata)، التي ظهرت في العصرين الهللينستي والروماني، بالإضافة إلى الأيقونات الفسيفسائية البيزنطية، والفسيفساء الدقيقة ذات المكعبات صغيرة الحجم جدًا من القرن التاسع عشر، فضلاً عن الأعمال الفسيفسائية التي استحدثت في مطلع القرن العشرين، كالفسيفساء النافرة، أو التماثيل الملبسة بالفسيفساء، والمنفذة من قِبَل فنانين معاصرين.
إسلامية
استوحى المسلمون استخدام الفسيفساء مباشرة من الفن المعماري الروماني والبيزنطي، حيث كانت وظيفتها العامة الرئيسة زخرفة المباني العامة. ومن المعلوم أن الكثير من الفسيفساء في العصر الإسلامي الأول كانت من عمل الحرفيين والفنانين البيزنطيين. ويمكن تمييز نوعين من الفسيفساء، ذلك النوع المستخدم للأرضيات والآخر المستخدم للجدران. وصنعت فسيفساء الأرضيات من قطع الحجارة أو الرخام الملون، وكثيرًا ما كان يتم ترتيبها على شكل رسومات، وغالبًا ما كانت فسيفساء الجدران تُصنَع من قطع فسيفساء زجاجية مصنعة خصيصًا، ويتم ترتيبها كمشاهد تصويرية.
لقد تم العثور على أمثلة من فسيفساء الأرضيات في الحفريات التي جرت على المباني الإسلامية القديمة في سوريا وفلسطين، وكانت في الغالب مباني بيزنطية الأصل.
هندسية.. ونباتية
تفتقر فسيفساء الأرضيات الإسلامية، في العادة، إلى أي صور للحيوانات أو الأشخاص. ومن الملاحظ أنه تمت إزالة الأجزاء أو طمسها، والتي تحوي صورًا للفسيفساء خلال العصر الإسلامي، ومع ذلك توجد في القصور الخاصة مثل قصر الحيرة في سوريا، وخربة المفجر فسيفساء عليها صور على الأرضية.
فقد كان الاعتقاد بوجود الصور على الأرضيات مسموحًا به، لأنها ليست في مكان محترم، ويمكن السير فوقها. المثال الأشهر هو الجزء نصف الدائري الناتئ من المحراب في صالة النظارة في خربة المفجر، التي تحوي صورًا لأسد يهاجم غزالاً أمام شجرة.
ووصل فن الفسيفساء إلى الأمويين، حيث انتجت العديد من الأرضيات والجداريات الفسيفسائية، ذات التصاميم الهندسية والنباتية والكتابية، الخالية، في معظم الأحيان، من أي تصاوير حية. وهناك العديد من الأمثلة الحية الشاهدة على طبيعة الفسيفساء الأموية، في العديد من المباني العائدة إلى هذه الفترة، مثل: بناء قبة الصخرة في مدينة القدس، والمسجد الأموي في دمشق، وخربة المفجر «قصر هشام» في أريحا، وغيرها.
أساليب
ووفق رهام حداد، فلا توجد هناك أي قوانين ثابتة لتصميم عمل فسيفسائي، لكن يجب، دومًا، تبسيط التصميم، بوضع الخطوط الرئيسة له بغض النظر عما إذا كان التصميم مأخوذًا من تصميم قديم، أو من الطبيعة، أو حتى من الخيال.
مباشر
ومن الأساليب المتبعة في رصف المكعبات الفسيفسائية ما يلي: أولاً الأسلوب المباشر، ويسمى بهذا الاسم لأن المكعبات الفسيفسائية تثبت مباشرة على الأرضية النهائية المناسبة للعمل الفسيفسائي، سواء أكان أرضيًا أم جداريًا أم لوحات صغيرة قابلة للنقل.
معكوس
الأسلوب الثاني: هو غير المباشر «الطريقة المعكوسة أو المقلوبة»: يعد هذا الأسلوب أبسط وأسرع من الأسلوب المباشر، وقد سُمي الأسلوب غير المباشر، لأن الفنان لا يحتاج إلى تثبيت العمل الفسيفسائي على الدعامة النهائية المناسبة له، سواء أكان أرضيًا أم لوحات صغيرة قابلة للنقل. ويُستعمل هذا الأسلوب عند الحاجة إلى إنتاج سطح فسيفسائي مستوٍ وناعم كالأرضيات، أو إنتاج عمل فسيفسائي في المشغل، ونقله إلى الموقع المراد زخرفته، ونتيجة لذلك فإن هذا الأسلوب غير مناسب لزخرفة الجدران.
وتُنفذ الأعمال الفسيفسائية، تبعًا لهذا الأسلوب في المشاغل على دعامات مؤقتة، تتألف، عادة، من قماش القنب، أو من ألواح سميكة من الورق الذي يحمل التصاميم التمهيدية المعكوسة، حيث تُلصق عليها المكعبات بمادة لاصقة قابلة للذوبان في الماء. وعندما ينتهي العمل، فإن الجانب المعكوس من العمل الفني، والذي سيثبت في الدعامة الملاطية النهائية، وهو الجانب المرئي للمشاهد، سيمثل ظهر العمل الفني الفسيفسائي، بينما سيمثل الجانب الأمامي الملتصق بالدعامة المؤقتة وجه العمل الفني، الذي سيواجه الناظر أخيرًا، وهنا يصبح اللوح الفسيفسائي جاهزًا ليوضع في الموقع المراد زخرفته، وذلك بضغطه في الفرشة الملاطية المحضرة، بحيث تتم إحاطتها بمدماك خشبي للحصول على سطح ناعم. وعندما تجف الفرشة الملاطية تُزال الدعامة المؤقتة بماء ساخن. وأخيرًا، ينظف سطح الفسيفساء لإزالة أي آثار باقية من المادة اللاصقة.
كما أن الفسيفساء المنفذة بهذا الأسلوب مستوية وملساء، ولا تحوي أيًا من التموجات أو التعرجات التي تنتج، عادة، عن غرس المكعبات الفسيفسائية في الملاط, بالإضافة إلى أنها لا تثبت بزوايا مختلفة، وبالتالي فإن العمل الفسيفسائي لا يحتوي على خاصية التلاعب بانعكاس الضوء. لهذا يعد استخدام هذه التقنية من الأمور المناسبة لتنفيذ أرضية أو عمل فسيفسائي منقول وبه العديد من النواحي اللافتة للنظر مثل: ألوان الحجارة، وأحجامها، وأشكالها، والفراغات بينها، وطبيعة المواد المختلفة.
هذا وقد استعادت الفسيفساء مظهرها الرائع، كطريقة زخرفية أنيقة ظاهرة للعيان، على شاكلة الزخرفة الخارجية للمباني التي تنفذ، في الوقت الحالي، في العديد من المشاريع العمرانية حول العالم، أو من خلال استخدامها في إنتاج العديد من مواد الديكورات الداخلية، وفي الزخرفة على الأواني الخزفية.