تاج السر:
لم أخرج من عباءة الطيب صالح
التجارب المعقدة لا تستهوي القارئ، وأفكر في كتابة نص تاريخي.
• حاوره: أسامة داود
يحظى إسهام د.أمير تاج السر، الروائي، بكثير من التقدير في المحافل الثقافية والأدبية العربية، كما كتب الكثير عن عالمه الإبداعي، وترجمت فصول من رواياته إلى الفرنسية.
وفي الوقت الذي يختلف النقاد على أعماله الأدبية، يتركها تتحدث عن نفسها، تاركًا لذائقة القارئ اكتشاف ما هو جديد.
إنه د.تاج السر، الروائي السوداني، الذي تجمعه بالطيب صالح صفتا القربى والصداقة.
تشترك مع الطيب صالح في محاولة الإجابة عن سؤال «الأنا والآخر» من خلال نتاجاتكما الروائي.. ألا ترى في ذلك ما يعزز الاتهامات الموجهة إليك بأنك خرجت من عباءته؟
في الحقيقة أن الطيب صالح خالي، وكانت تجمعني به صداقة كبيرة في أثناء حياته، وكان يجمعنا طريق الكتابة. الطيب صالح كتب من بيئة شمال السودان التي يخبرها جيدًا، بينما عشت معظم حياتي في شرق السودان، واستوضحت شخوصي ورواياتي من بيئة شرق السودان، كتبت عن مدينة بور سودان رواية «مرايا ساحلية»، وهي سيرة مدينة، لم يكن ليضيرني أن أخرج من عباءة الطيب صالح، لكنني في الواقع لم أخرج منها.
جرت العادة أن يتم توجيه النقد إلى النقاد من قِبَل المبدعين، لكنك كسرت هذه القاعدة!
في الحقيقة أنا لم أعول على النقاد كثيرًا في مشواري الكتابي رغم أن الكثيرين قد تناولوا تجربتي، لكنني لم أجد ناقدًا حتى الآن يعتني عناية حقيقية بهذه التجربة، ويغوص عميقًا في جذورها. كما تعرضت شخصيًا للتجريح من قِبَل عدد من النقاد، وأخرجني بعضهم من المشهد الروائي السوداني بوصفي غير مقيم في السودان، وذكر أحدهم مرة أن هويتي ليست سودانية رغم أنني لم أكتب عن مكان سوى السودان، وعندما ذُكِّرَ الناقد نفسه بأن الطيب صالح لم يعش، أيضًا، في السودان، ورغم ذلك عُدَّ رمزًا للسودان، قال: إن الطيب خرج وهو يحمل السودان في وجدانه، وكأننا خرجنا ونحن نحمل أثيوبيا أو إرتيريا في وجداننا.
أنا لا أرد على أحد، ولا أستجيب للمقالات التي تستفزني لأرد، لذلك لا أنتقد ناقدًا وأترك الآخرين يكتبون ما يشاؤون.
تشكو من نظرة المبدعين السودانيين واتهاماتهم لك بأنك تتطفل على الأدب، ما يحول دون التحامك بهم.. هل يعني ذلك وجود حالة انغلاق في المناخ الثقافي السوداني؟
أعتقد أن الأمر يبدو كذلك، ثمة انغلاق محلي، وربما كُتَّاب لا يودون الانتشار إلى أبعد من السودان، أنا في زياراتي السنوية للسودان كنت أحاول التقرب من المشهد الثقافي السوداني، كما كنت أود أن أسهم في عملية انتشار عدد من الكُتَّاب أراهم مبدعين، لكنني، دائمًا، أجد ذلك المشهد بكُتَّابه ومثقفيه يفرُّ مني، وفي النهاية أرى أن الكاتب ملزم بكتابته الشخصية حتى لو حذف من أي مشهد.
ينزع الروائيون نحو اللغة الشعرية، وتتحرر أنت منها.. ما السر في ذلك؟
في الحقيقة أنا أتيت إلى الرواية من الشعر، أي كنت شاعرًا وفي سن مبكرة تحولت إلى الرواية، في أعمال مثل: «سنابل من الياقوت»، و«نار الزغاريد»، و«صيد الحضرمية» كنت أبني النص بالصورة الشعرية، وبمرور الوقت، وتحديدًا ابتداءً من رواية «مهر الصياح» عثرت عليَّ في إرضاء الشعر والسرد في الوقت نفسه، فأصبحت الرواية سهلة الهضم والتذوق عكس الأعمال السابقة التي كان يتذوقها عشاق الشعر أكثر من عشاق النثر، وأعتقد أن هذه الطريقة هي التي فتحت لي آفاقًا جديدة لم أملكها من قبل مثل ترجمة أعمالي إلى لغات أجنبية، وأن يقرأها أشخاص ليست العربية لغتهم الأصلية.
لا أنكر أن للشعر دورًا كبيرًا لدي، حيث أوظف الشعر في قصائد داخل النصوص السردية، مثل أغنيات المطرب أحمد ذهب في رواية «زحف النمل»، وأيضًا قصائد المديح النبوي للشيخ الضرير في الرواية نفسها، وقمت بهذا المزج، أيضًا، في روايات أخرى.
إلى أي حد تشعر بأنك استفدت من الفضاء العربي الأفريقي؟
يمتلك السودان ذلك التنوع الثقافي، حيث توجد فيه الثقافة العربية الإسلامية جنبًا إلى جنب مع الثقافة الأفريقية. هناك الكثير من الحكايات والأساطير والغموض الساحر، بالإضافة إلى أن الإيقاع الحياتي فيه سريع جدًا، ما يشكل مغريات لا حصر لها للكتَّاب. في الماضي كنت أكتب «سيرة الوجع»، وهي لقطات أو حكايات تخضع لتلك المغريات التي ذكرتها، أشياء عن الوجوه والأمكنة، وأشياء عن تجارب شخصية وسط ذلك الزخم.
للتاريخ إغواءاته.. هل تجد نفسك تحت تأثيراتها، أم تتعمد توظيفها؟
في الحقيقة أستمتع بكتابة الرواية التاريخية، ولي قراءات كثيرة في التاريخ، وأحب قراءة التاريخ. حين أكتب نصًا تاريخيًا لا آخذ شخصية تاريخية معروفة مثلما يفعل بعض الزملاء، ولا أذكر زمانًا مؤرخًا أو مكانًا بعينه، وإنما أذهب إلى فترة تاريخية معينة آخذ منها جوانب الحياة العامة مثل تركيبة المجتمع في ذلك الوقت، ونمط الحياة السائد، ونمط البناء، والمأكل والمشرب، والأزياء والملابس التي تستعمل، وأشياء من هذا القبيل.
قد آخذ حدثًا معينًا في زمان معين، وأبني عليه نصًا، هذا النص قد يبدو خياليًا، حيث آتي بشخوصي وأحداثي التي لم تحدث إلا داخل النص، لكن رغم ذلك يوجد من يُحيل النص إلى زمن بعينه دون أي سند تاريخي مثل: تشويه التاريخ، أو لي عنقه. استفدت من هذه التقنية في روايتي «مهر الصياح»، و«توترات القبطي»، وبعض المقاطع في «سنابل من الياقوت»، وأفكر، حاليًا، في كتابة نص تاريخي خارج البيئة أو المعطيات السودانية.
يأخذ السرد منحى الوضوح في الرواية المعاصرة بعد أن سادت موجة التعقيد في فترات الستينيات والسبعينيات.. بماذا تفسر ذلك؟
طبعًا، الرواية مرت بمراحل كثيرة على أيدي أجيال متعاقبة في الكتابة، منذ أن عُرفت الرواية بتقنيتها الحديثة بعيدًا عن البدايات.
في فترة الستينيات والسبعينيات سادت فترة التجريب، وأنتجت تلك الفترة نصوصًا عظيمة، الآن أصبحت المتغيرات كثيرة، وإيقاع الحياة أسرع، ولم تعد تستهوي القارئ التجارب المعقدة، بقدر ما تستهويه الرواية التي يستمتع بها ويفهمها.
كان لا بد من ذلك التصالح لصالح القراءة، وفي اعتقادي لا توجد أي قيمة لأي نص بلا قُرَّاء، أيضًا ما زال بعض الكتَّاب ينحون نحو الرواية التجريبية رغم ما ذكرته عن حاجة النصوص إلى القُرَّاء.
وأعتقد أن حركة النقد لو واكبت التغيرات التي حدثت في الرواية لعثرت النصوص المتشابكة على من يقرأها ويفهمها أكثر.
يُثار الجدل حول الثقافة بين المشرق والمغرب.. هل ترى وجود ثقافتين، أم أننا بصدد ثقافة ممتدة؟
بالتأكيد توجد هاتان الثقافتان، لكن بلا اختلاف كبير، ما يحدث هو عدم دراية المشرق بالمغرب والعكس صحيح. في السنوات الأخيرة ثمة انفتاح لهاتين الثقافتين على بعضهما بعضًا، ومن ثم استطعنا أن نعثر على خطوط كثيرة تربط الثقافة المغاربية بالثقافة الشرقية.