April_09Banner

تاريخ


بيوت الطين
حنين إلى ماضي السنين
أقرب للأعمال الفنية اليدوية، وتجسيد للذائقة الريفية الصحراوية.

Health1_April

• استطلاع وتصوير: عبدالعزيز محمد العريفي

بيوت الطين ليست كالمنشآت الأخرى التي تعتمد الدقة الهندسية والقولبة والآلات والمواد الكيميائية، بل هي أقرب للأعمال الفنية اليدوية، وتجسيد للذائقة الريفية الصحراوية التي تحليها العشوائية، وتتلفع بالعفوية.

Health2_April
  • ليست كالبيوت التي تعتمد الدقة الهندسية والقولبة والآلات والمواد الكيميائية

  • من المفارقات الطريفة أن من يقوم عادة بالبناء هم من أهل البلد أصلاً، وقد يكونون من الوجهاء وعِلْيَة القوم

تتداعى أصوات وصور ثلاثية الأبعاد للبنائين وهم منهمكون برص لبنات الطين، وتشييد صروح الذكريات الجميلة على مساحات المخيلة، وتتسلل إلى أنفك رائحة الطين المخلوط بالتبن حتى تكاد تشعر ببرودتها ورطوبتها على وجنتيك كلما ولجت بيتًا من بيوت الطين القديمة.. بل إنك تشعر بذلك بمجرد مشاهدتك صورة لها.
فكل جدار من جدرانها المتهالكة، وكل زاوية، وكل باب وكل نافذة، حتى عود التبن الذي يحاول جاهدًا لعقود التحرر من الطين الذي جف حول خاصرته كلها تصرخ بلسان الصمت تريد أن تروي لك قصتها، وتبوح بمكنون أسرار تكاد حروفها تتلاشى في صحائف الماضي.

قصر المصمك
وتلح عليك تلك الأحاسيس عندما يرتبط المبنى بحادثة تاريخية أو بشخوص مهمة من العالم القديم مثل «قصر المصمك» في مدينة الرياض الذي تتجلى فيه قصة فتح الرياض على يد المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز بكل أبعادها، حتى تكاد تفر في بعض الأحيان خوفًا من سنابك الخيل أن تدوسك، وتنسى أنها لم تبارح خيالك.

الدقة الهندسية
والمنشآت الطينية ليست كالمنشآت الأخرى التي تعتمد الدقة الهندسية، والقولبة، والآلات، والمواد الكيميائية، بل إنها أقرب للأعمال الفنية اليدوية، وتجسيد للذائقة الريفية الصحراوية التي تحليها العشوائية وتتلفع بالعفوية، ولا يعني ذلك أن هناك انفصامًا نكدًا بين الهندسة المعمارية التقليدية وطريقة بناء بيوت الطين، بل المقصود أنها لا تلتزم صرامتها المعهودة في المنشآت المسلحة.

جزيرة العرب
وتأتي بيوت الطين على أنماط وأشكال كثيرة أفضلها في جزيرة العرب ما تم بناؤه بطريقة العروق كما كان متبعًا في قصور المدن الصحراوية القديمة مثل حائل ونجران، فتلك الطريقة تضفي على القصر جمالاً معماريًا مميزًا، فضلاً عن المتانة التي تزيد من عمره الافتراضي.

الصلصال اللازب
وتتم تلك الطريقة، حسب ما ذكر لنا أحد كبار السن ممن شاركوا في بناء الكثير من القصور الطينية، بأن نعمل مخططًا للبيت أو القصر أولاً، ومن ثم نحفر لأساسات الجدران على شكل خندق، مع مراعاة ترك فراغات معينة للأبواب والفتحات.
ونملأ الخندق بالحجارة، ثم نجلب الكثير من التراب الطيني على ظهور الجمال من أماكن شتى تكون بعيدة في بعض الأحيان، ويخلط بالماء وتدوسه الجمال حتى يتحول إلى ما يشبه الصلصال اللازب ويترك لعدة أيام مع ترطيبه بالماء من حين لآخر.

تماسك البناء
وبعد ذلك يخلط بأعواد التبن والقليل من البحص، وهو حصى صغير لزيادة تماسك البناء عند هطول الأمطار، وأخيرًا يقوم البناؤون بنقل الطين بالمحافر والبدء بعمل العرق الأول فوق حفرة الأساس المملوءة بالحجارة وبسمك نصف متر تقريبًا يزيد وينقص حسب ما يراه صاحب البيت، وبارتفاع مماثل ويترك لليوم التالي، أو حتى يصل درجة من الجفاف تخوله احتمال عرق آخر فوقه.

زخرفة المجالس
وهكذا يتم وضع العروق واحدًا فوق الآخر، مع مراعاة الأبعاد حتى الوصول إلى الارتفاع الكافي لوضع السقف، والذي عادة ما يكون من جذوع أشجار الأثل المتساوية السمك تقريبًا، وخوص النخل الذي يصف فوقها بترتيب، ويوضع العازل الذي ربما كان من قماش الخيش المغموس بالقار أو ما أشبه، ثم يغطى بالطين تمامًا، وهكذا حتى يتم الانتهاء من بناء الدور الثاني وعمل القباب المرتكزة على أميال أسطوانية من الصخور والطين، والتفنن في عمل الشرف التي هي من سمات البيت الطيني، وأخيرًا وضع الجبس على أجزاء معينة من البيت للحماية وللتجميل، والعناية الفائقة بتجصيص المجالس وزخرفتها بتلك الزخارف المميزة، خصوصًا فيما يطلق عليه الوجار أوالكمار، حيث موقد النار أو الكانون، والرفوف التي تصف عليها الأباريق والدلال وغيرها، وتسوية الأرضية وتركيب الأبواب الخشبية المميزة والشبابيك.

الكرم.. والأريحية
ومن المفارقات الطريفة أن من يقوم عادة بالبناء هم من أهل البلد أصلاً، وقد يكونون من وجهائه ومن عِلْيَة القوم. وتتجلى صفة الكرم والأريحية بأبهى صورها لترافق البناء منذ البدء بإنشائه وحتى الانتهاء منه. فمثلاً في حائل عندما يهم أحدهم ببناء بيت فإن ذلك يعني حتمية المبادرة وحالة استنفار تعاونية للقاطنين حوله، إذ عليهم التناوب على دعوة البنائين للفطور، وللغداء، وللعشاء طوال مدة البناء، والمبالغة في إكرامهم كسجية ومتلازمة استثنائية راقية تلازم الأصالة العربية، وتعكس مدى التلاحم والتكاتف الاجتماعي، وثقافة النخوة في تلك البيئات.

الانفجار الحضاري
ورغم التطور العمراني الذي تزدان به بلادنا، بات فيه ما بقي من بيوتات طينية أو بالأحرى ما بقي من أطلالها أشبه ببقايا أسنان في لثة مسنة تستوجب العلاج والترميم من قبل أصحابها، لتبقى شاهدًا على تراث عمراني يستحق الحفاظ عليه والتفاخر به كمنتج إبداعي ربما لن يتكرر.

الأسلوب النجدي
وفي هذا السياق قام أحد سكان مدينة المزاحمية، وهي مدينة صغيرة تبعد عن مدينة الرياض بنحو مئة كلم غربًا، ببناء استراحة كبيرة فائقة الروعة وتحرى في بنائها ألا تخرج عن الأسلوب النجدي القديم في البناء، حيث بدت وكأنها قصر طيني يعود لأحد الأعيان الأثرياء في حقبة ماضية على الرغم من أنها قد بنيت بالخرسانة المسلحة وفق أحدث الطرق الحديثة في البناء.
ويقول صاحبها عبدالكريم سعد الشمالي، الحاصل على درجة الماجستير بالعلاقات العامة وعضو مرشح لمجلس بلدية محافظة المزاحمية: الفكرة باختصار كانت منذ فترة طويلة تربو على أكثر من 25 عامًا، وكان الهدف منها أن تكون معرضًا فوتوغرافيًا توثيقيًا، ومتحفًا خاصًا يتاح للجميع، ويمكن الاستفادة منه كمنتدى ثقافي، وليصبح معلمًا من معالم المزاحمية التراثية والسياحية بما يحويه ويقدمه انطلاقًا من مبدأ المحافظة على تراثنا وعاداتنا الإسلامية، وأداء رسالة وطنية سامية تخدم المحافظة وأبناءها، وتفي باستخداماتي الشخصية.

الجمال المعماري
وقد مرت مرحلة التصاميم بعدة مراحل أهمها الاطلاع على المباني التي تحمل السمة نفسها مثل «قهوة المغواة بحائل». فلقد قمت بزيارة مدينة حائل خصيصًا للاطلاع على بعض الجوانب المعمارية التي يمكن الاستفادة منها، ولقد قمت بنقل خاصية «العروق» التي استخدمت داخل الديوانية لإبراز الجمال المعماري الشعبي، وخصوصًا مع توافر الإضاءة.
أما عن المساحة الإجمالية للمبنى فقد تم بناؤه على مساحة تقارب الـ3000م2 خصص منها 700م2 للديوانية ومرافقها، حيث تم بناء المجلس على مساحة 120م2، والمقلط على مساحة تربو على الـ100م2، عدا غرف الخدمات التي خصصت للضيافة.
وقد كنت أستمع إلى الآراء، وخصوصًا من كبار السن الذين لديهم خبرة فيما تحويه المنازل القديمة، فضلاً عن الاطلاع على بعض المباني الطينية التي لا تزال قائمة، ومن ثم أقوم بالمزج والخلط بينها لتحقيق ما يتماشى مع احتياجاتي بأسلوب فني. ولا أنكر أن دراستي في مجال التربية الفنية ومعاصرة والدي، يرحمه الله، والذي كان يعمل في مجال البناء باللبن قديمًا أعطتني الكثير من الخبرات، ما ساهم في خفض التكاليف مقارنة بالأسعار السائدة في السوق. وقد بلغت تكاليف البناء أكثر من ست مئة ألف ريال، وعن سر تميز المبنى في الوحدات الزخرفية فذلك راجع لالتزامي بالنمط النجدي القديم، إذ نجد، وللأسف الشديد، أن هناك خلطًا بين الوحدات الزخرفية الشعبية المعمارية التقليدية بعناصر لا علاقة لها بتراثنا في كثير من المباني المحسوبة على التراث.

لوحة فنية
والصعوبات التي واجهتها في أثناء البناء تكمن في عدم وجود صورة واضحة لأي مقاول، ما جعل الكثيرين يحجمون عن العمل معي. فالمبنى كان لوحة فنية لا يمكن أن تتنبأ بنتيجتها إلا في النهاية، ما دعا بعضهم للظن بأن ما قمت به لا يعدو كونه مغامرة لا فائدة منها! والمفارقة المضحكة أن من انتقدني جاء فيما بعد بمقاولين للاستفادة من الفكرة!!
وقد انتهيت من بعض التجهيزات التي يمكن من خلالها أن تؤدي الديوانية رسالتها للمجتمع، فهناك مجلس يومي على سبيل المثال بين صلاتي المغرب والعشاء، يحضره العديد من الأعيان، وكبار السن، والشباب في المحافظة، يتم فيه تبادل الأحاديث والأشعار، وبعض الروايات والقصص القديمة، كما زار عدد من المسؤولين من داخل المملكة وخارجها الديوانية كجزء من برنامج زيارتهم لمحافظة المزاحمية، مثل سفير الهند، والشيخ حسين آل شيخ إمام وخطيب الحرم النبوي، ووزير الشباب والرياضة الهندي، والقنصل المصري، ومسؤولين مدنيين وعسكريين وغيرهم.