أدب الرحلات
بقلم: السفير صالح بن محمد الغفيلي
من الكتب التي أحرص على قراءتها، وقبل ذلك البحث عنها، ومن ثم الاحتفاظ بها، نوعان من الكتب: السير الذاتية، أيًّا كانت أهمية كاتبها أو حتى محتواها، والكتب ذات العلاقة بكل ما يتصل بما يسمى «أدب الرحلات»، وخصوصًا ما تركه لنا الرحالة الأوروبيون، الذين صالوا وجالوا كثيرًا في وقت مضى، في أرجاء الجزيرة العربية، شمالاً وحتى أرض الحجاز وأطراف نجد.
أولئك الرحالة الذين قاموا بتلك الرحلات الشاقة، غير مبالين بعنت الطريق ومصاعبه، متسلحين بما يتصفون به من عزم وتصميم على بلوغ الهدف المنشود الذي انتدبوا من أجله، والذي لم تدرك أبعاده حينذاك، ولكن مهما كانت تلك الأبعاد والغايات المجهولة من وراء تلك الرحلات الاستكشافية المضنية التي قاموا بها، فقد تركوا لنا، في نهاية الأمر والمطاف، ثمرة جهودهم، وهي دراسات ميدانية قيمة في تاريخ تلك المناطق وجغرافيتها، التي وصلوا إليها، إضافة إلى معرفة ما كان سائدًا آنذاك في تلك المناطق، من أعراف وصراعات قبلية، والتي ما كان لنا أن نقف عليها اليوم، لو لم يقم أولئك بتلك الرحلات الاستكشافية الموثقة بالصور، والخرائط، وأسماء المعالم الجغرافية، والشخوص الذين التقوا بهم، وكثير من التعريفات والتفاصيل الدقيقة لكل ما كان يقع على جانبي خط سيرهم، من معالم أو قرى، وهو ما يؤكد مدى حرص هؤلاء الرحالة على نجاح المهام المكلفين بها من قبل بعض جامعات وجهات أخرى تعنى بمثل هذه الدراسات، ربما لأهداف سياسية مستترة خلف عناوين لا تثير أي تساؤل أو شكوك حولها، لذلك كانت تجد قبولاً وتعاونًا، ولا أقول ساذجًا، من قبل عرب تلك المناطق آنذاك، ولكن بحسن نية منهم، سواء كانوا حاضرة أم بادية، كيف لا، وبعض هؤلاء الرحالة كانوا يمارسون مهنة الطب مع الأهالي، مع أنهم ليسوا أطباء، لكنهم كانوا بما يحملونه معهم من إسعافات طبية أولية، يتمثلون ذلك، وإن لم يدعوه، لكن عندما يطلب منهم المساعدة وهم يواجهون بعض تلك الحالات المرضية البسيطة التي كانت تصادفهم وهم في طريقهم إلى أهدافهم، كالحمى، والجروح السطحية، والإسهال، ونحو ذلك، وهي الحالات المرضية التي كان يعانيها بعض سكان تلك المناطق الصحراوية حينذاك. سهَّل التعامل بين الطرفين، إجادة معظم هؤلاء الرحالة التحدث باللغة العربية، بلهجات تلك القبائل، إضافة إلى الأسلوب الدبلوماسي الذي يجيدونه أيضًا، الأمر الذي ساعد أولئك الرحالة على الاقتراب أكثر من تلك القبائل، بحيث أتاح لهم ذلك ذكر أدق التفاصيل عن عاداتهم وتقاليدهم.
ومن تلك الكتب التي قرأتها أيضًا كتاب «الرحالة الأوروبيون في شمال الجزيرة العربية.. منطقة الجوف ووادي السرحان 1845-1922، لمؤلفه د.عوض البادي، تحدث فيه عن أولئك الرحالة الأوروبيين الأحد عشر، الذين ضمهم هذا الكتاب في صفحاته الـ 535، وهو من القطع المتوسط، جدير بالقراءة والاطلاع.
وهناك كتاب آخر، أصغر حجمًا من سابقه، وأقل وزنًا، قام بترجمته د.خالد عبيدالله عمر، يتحدث الكتاب عن رحلة الكولونيل لجمن في الجزيرة العربية 1909 إلى 1910، الناشر «الدار العربية للموسوعات». الكتاب يختلف في أسلوبه ومنهجه وحتى في أهدافه وغاياته، عن كتب الرحلات الأخرى، فهو، إضافة إلى ما يزخر به من معلومات، أكثر دقة وتفصيلاً عن المناطق التي كانت مسرحًا لنشاطه، كما يأخذك المترجم بأسلوب سلس لتعيش معه متعة مرافقة المؤلف في رحلته، أو لنقول مغامراته التي عانى فيها كثيرًا مشقة الهروب والتخفي عن أعين من كان يعتقد المؤلف أنهم يلاحقونه. لذلك فالكتاب مليء بالمواقف الطريفة غير المتوقعة، التي واجهها المؤلف، وكيف تخلص منها بذكاء رجل الاستخبارات، صاحب المهمة المحددة «الكولونيل لجمن». لا أريد أن أطيل الحديث عن هذا الكتاب، لكنني سأتوقف عند الصفحة 72، مكتفيًا بنقل نص ما كتب بالهامش «1»، وهو كما يلي:
«العتيبة أو العتوب من القبائل العربية الشهيرة في جزيرة العرب، تتجمع في مناطق القصيم، والوشم، والسدير، وهذه القبيلة قد انتشرت إلى شرقي الجزيرة العربية، وأسست الكويت والزبارة في قطر. والأسرتان الحاكمتان حاليًا في الكويت والبحرين، هما من قبيلة عتيبة أو عتبة»، ولأنه يقصد بذلك، وهو ما لفت نظري، عائلتي آل خليفة حكام البحرين، وآل الصباح حكام الكويت، وهما العائلتان المعروفتان بأنهما من قبيلة «عنزة» وليستا من قبيلة «عتيبة» المعروفة أيضًا.
نعم، إن هذا الخطأ التاريخي، الذي وقع فيه كل من المؤلف والمترجم معًا، هو ما لفت نظري، بل وأثار تعجبي واستغرابي، لذلك رأيت لأهميته أن ألف النظر إليه، فمثل هذه الأخطاء التي تنمو عن جهل وعدم اهتمام، هي التي تشوِّه التاريخ، وتسيء إليه، إذا ما تركت دونما تصحيح، كما هو حال كثير من كتب التاريخ المتداولة بين أيدي الناس اليوم.