April_09Banner

رحلات


الصقر
فارس السماء الجارح
شهية الصقر تحكم سلوكه وسرعته تصل إلى 140 ميلًا في الساعة ويعيش 12 عامًا.

Health1_April

• عَمَّان: نور الصالح

في أرض يستحضر اسمها صورة الفرسان على صهوات أحصنتهم، تستمر إحدى عادات الماضي وهي الصيد بالصقور، أو الصيد باستخدام الطيور الجارحة التي ما زال يمارسها بدو وادي عربة في الأردن، ليحيوا عادة لطالما وصفت تقليدًا راسخًا تتوارثه الأجيال.

  • تعود أصول تلك العادة إلى آسيا, إلا أنه من الصعب تحديد مكان نشأتها وزمانها، حيث يُرجع بعضهم أصلها إلى الصين

  • يتطلب اصطياد الصقور، وترويضها، وتدريبها صبرًا هائلًا، ومهارة، وشجاعة فائقة, ويعتمد الأمر برمته على مقدار الثقة بين الصقَّار وطائره

لمقابلة مدربي الصقور «أو الصقارين» توجهنا نحو منطقة الرشيح الجبلية النائية التي تبعد نحو 240 كم جنوب عَمَّان، وهي إحدى قرى وادي عربة الثمانية، ويبلغ عدد سكانها 2000 نسمة. وباستثناء بعض المنازل والنباتات الخضراء المتناثرة هنا وهناك نادرًا ما تجد أي مظهر من مظاهر المدنية في تلك القرية.. لكن كما قال لنا الصقارون هكذا هي الصحراء، لا يمكنك أن تستشعر سحرها وحياتها إلا عندما تكون فيها، حيث يأخذك قاطنوها لسبر أغوارها فتحيا مرة أخرى في الماضي العتيق. وهناك في قلب الصحراء ترى علاقة مختلفة بين الإنسان والطير.

تاريخ
يعرف الصيد بالصقور في اللهجة المحلية بـ«القنص» وقد ساد المنطقة العربية لسنوات طويلة، وهو فن تدريب الطيور الجارحة «الجوارح»، وخصوصًا الصقور، على الصيد.
وتعود أصول تلك العادة إلى آسيا إلا أنه من الصعب تحديد مكان نشوئها وزمانه، حيث يرجع بعضهم أصلها إلى الصين، بينما يرجع بعضهم الآخر أصلها إلى الشرق الأوسط وهو الرأي الأكثر ترجيحًا، حيث تمكن الباحثون العرب من إثبات أن الصيد بالصقور قد شهد بداياته في شبه الجزيرة العربية في عصور ما قبل الإسلام على يد حارث بن معاوية الذي كان أول من حمل صقرًا ليصطاد به، كما أن حمزة بن عبدالمطلب كان أحد أشهر ممارسي تلك الرياضة في فترة بزوغ الإسلام.
وقد نشأت هذه الرياضة نتيجة للحاجة إلى إضافة اللحم إلى النظام الغذائي لسكان الصحراء، ومن المحتمل أن تكون إحدى طرق الصيد البدائية التي استخدمها الإنسان. وفي وقتنا هذا، تطور الصيد بالصقور ليصبح رياضة وطريقة لتمضية وقت الفراغ لدى سكان شبه الجزيرة العربية.

رحلة
وتأتي رحلتنا لاستكشاف عادة الصيد بالصقور في وقتها، حيث تحوم أسراب الطيور في سماء الأردن خلال هجرتها الموسمية بحثًا عن طقس أدفأ. وتستعد المنطقة لاستقبال زوارها السنويين من الطيور القادمة من وسط آسيا وأوروبا، والمتجهة إلى أفريقيا وجنوب آسيا: باكستان، والعراق، وإيران، وأجزاء من شبه الجزيرة العربية منها الأردن. وهذا بمنزلة إعلان عن بدء موسم الصيد في المنطقة.
من أهم الطيور التي تزور المنطقة طائر الحبارى الذي يخضع للحماية الدولية. ويلعب هذا الطائر دورًا مهمًا في التراث الثقافي للبدو، حيث إنه كان من كبر الحجم بمكان ليكفي تغذية العديد من الأشخاص.
وفي الوقت الذي تأتي فيه هذه الفصائل النادرة من الطيور إلى الأردن يحل عليها، أيضًا، ضيوف آخرون بمن فيهم الصقارون الذين جاؤوا من بلدان أخرى ليصطادوا طائر الحبارى الذي يعد غاية كل الصقارين العرب. ويستخدم الصقارون الفصائل المهاجرة من الصقور كبيرة الحجم مثل الصقر الحر (Falco Cherrug)، والصقر الشاهين أو الجوال (Falco Peregrinus).
ويعد الصيد بالصقور بالنسبة لشباب البدو في منطقة الرشيح بمنزلة ملاذ لهم من البطالة في منطقة تنعدم فيها فرص العمل، كما أنها وسيلة التسلية الوحيدة المتاحة أمامهم. ويقول محمد الشمري، أحد الصقارين: «إنها وسيلتنا لتمضية وقت الفراغ»، وإن اكتشافه لتلك الرياضة في سن مبكرة منحه هدفًا في الحياة. ومحمد الذي يبلغ من العمر 26 عامًا شديد الولع بالصيد بالصقور. فعندما كان صغيرًا كان يسعى لصيد الجوارح التي تطير على مسافة قريبة من منزله. «لقد كبرت وأنا أرى أبي وأعمامي يمارسون هذه العادة، وعندها قررت أن أصبح صقارًا».
يعد وادي عربة من أفضل المناطق لممارسة الصيد بالصقور على مر التاريخ. وفي الماضي كانت تجري ممارسة تلك الرياضة على الأقدام، أو من على ظهور الجمال، حيث كانت مناطق الصيد متقاربة ولم تكن هناك سيارات، أما اليوم فإنها رياضة تكلف أكثر ما كانت عليه في الماضي. ويقول محمد وهو يعد أدواته ليقدم لنا عرضًا باستخدام صقره المدرب: «يسافر الناس مسافات طويلة بالسيارات الجيب لممارسة هذه الرياضة».
ويدعى الصقر الخاص بمحمد «سراب» وهو الرفيق المخلص له خلال العديد من رحلات الصيد في مناطق مختلفة. وينحدر سراب الذي يبلغ من العمر عامين من سلالة الواكري، وهي واحدة من أنقى السلالات وأغلاها. ومن أنقى السلالات، أيضًا، صقور الحر والشاهين، خصوصًا إناثها التي يصل ثمن الواحدة منها إلى 5000 دولار.
يقول سامي، وهو صقار آخر، بينما يقف الصقر على كتفه بلا حراك مرتديًا عصابه تغطي عينيه بإحكام. «يحب الصقر الاستقرار على أعلى مكان.. إنه طائر حر، يحب الطيران وحده. فإذا كان هناك صقران يطيران في المنطقة نفسها، يقوم أحدهما بقتل الآخر».
وبناء على طلبنا نزع سامي العصابة المسماة بـ«البرقة» من على عيني الصقر. كانت عيونه السوداء الحادة التي كانت رمزًا للجمال في الشعر العربي تحدق إلى الأمام. كل ما في هذا الطائر يوحي بأنه طائر صياد، منقاره الشرس حاد بما يكفي لتمزيق اللحم، وألوانه قاتمة، ومخالبه مقوسة.
كان صوت جناحيه وهما يخفقان للأعلى والأسفل يخترق صمت الصحراء، وكان منظره وهو ينقض من السماء إلى الأسفل ليفاجئ فريسته التي لا حول لها ولا قوة منظرًا مرعبًا.
ويقول أبو ظاظا، وهو مدرب محمد الشمري: «ليس بإمكان أي شخص أن يصبح صقارًا، فهذا أمر يتطلب ذكاءً وعينًا فاحصة».

مهارات
يتطلب اصطياد الصقور وترويضها وتدريبها صبرًا هائلاً، ومهارة وشجاعة فائقة. ويعتمد الأمر برمته على مقدار الثقة بين الصقار وطيره. فبعد اصطياد الصقر باستخدام طرق مختلفة ينشأ تفاهم فريد من نوعه بين الطائر وصاحبه في فترة تتراوح مدتها من أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع. وعلى عكس الكلب أو أي حيوان منزلي آخر لا يستجيب الصقر لصاحبه بدافع من العاطفة أو الخوف، لكنه تدرب على أن الطعام يرتبط بهذا الصقار فشهية الطائر هي التي تحكم سلوكه، وهكذا يتم تدريبه، بحيث ينظر إلى مدربه على أنه مصدر الطعام الوحيد أمامه.
خلال الأسابيع الثلاثة يبقى الصقر بعد تغطية عينيه في مكان بارد، ويلف حبل حول كاحله. ومن وقت إلى آخر يقوم الصقار بنخزه بلطف وحمله باستخدام قفاز جلدي سميك لبضع ساعات في اليوم. وبينما يتسبب صبر الصقار في حمل الصقر في جولاته اليومية في زرع الثقة في الصقر تتسبب عملية إطعام الصقر من على القفاز في الربط بين الصقار والطعام.
يقوم الصقار بإطلاق اسم على الصقر وينادي عليه باستمرار حتى يتعرف الطائر على صوته من على مسافة. وبعد ثلاثة أيام يتم نزع العصابة ويكون أول ما يراه الطائر عندئذ هو وجه الشخص الذي ألف صوته وبدأ يثق فيه خلال فترة العمى المؤقتة التي مر بها.
يبدأ الصقر بعدئذ في عمل رحلات قصيرة يستخدم خلالها الصقار الطعم وقطع اللحم النيء، حيث يضعها على بعد 100 ياردة من الصقر وينادي عليه بينما يقوم بزحزحة الطعم إلى الخلف. ثم يطير الصقر ليمسك بالطعم وعندها يمنحه الصقار بعض اللحم مكافأة له، ويستخدم في المرحلة التالية من التدريب فريسة حية مثل حمامة مربوطة بحبل. وعندما يتعلم الصقر أن يطير إلى الصقار دون تردد، يتركه الأخير ليطير بحرية فوق مكان الصيد.
يقول أبو ظاظا، الذي مارس هذه الرياضة أربعين عامًا: «من المهم جدًا أن يكون الصقار في موقعه عندما يمسك الصقر بالفريسة». فالاعتقاد الشائع بأن الصقر يحمل الفريسة إلى الصقار غير صحيح. فإن لم يكن الصقار على مرمى البصر يأكل الصقر الفريسة كلها. وإذا حدث هذا يفقد الصقار سيطرته على الطائر».
وهذا الكلام أعاد إلى عوض، وهو صقار آخر، ذكرى الحادثة التي فقد فيها صقره، لأنه أطعمه زيادة عن اللزوم. «إذا شبعت الجوارح تفقد الرغبة في العودة إلى الصقار الذي لن يستطيع إغراءها بالطعام بعد ذلك». فيجب على الصقار إعطاء الصقر طعامًا يكفى بصعوبة لسد رمقه كجائزة من أجل أن يظل الطائر جائعًا ومتحمسًا للصيد مرة أخرى.
قبل البدء في مهمة الصيد يجب على الصقار وزن الصقر، وإذا زاد وزنه على وزن الطيران فإن الصقار المتمرس يعلم جيدًا أنه لا يجب أن يصيد بهذا الصقر. ووزن الطيران هو الوزن الذي يكون فيه الطائر جائعًا بما يكفي ليصطاد، وقويًا بما يكفي ليتمكن من الاصطياد بمهارة».

حماية البيئة
وبهدف حماية الطيور والحيوانات البرية أخذت الجمعية الملكية لحماية الطبيعة في الأردن على عاتقها مهمة تنظيم الصيد في الأردن، وإصدار العديد من القوانين المتعلقة بالقنص باستخدام الصقور. الاستغلال المفرط للثروة البرية والممارسة غيرالأخلاقية للقنص دفعت الجمعية الملكية لحماية الطبيعة لحظر هذه الرياضة القديمة. لقد أدى الصيد الجائر إلى نقص أعداد الطيور المستهدفة، بالذات طائر الحبارى. لكن رغبةً من الجمعية للوصول إلى حل وسط لهذه المسألة فقد اعتمدت برنامجًا تدريبيًا سنويًا يستغرق عشرة أيام بشرط أن يحضر الصيادون صقورهم المرخصة معهم بالإضافة إلى فرائسهم، منها على سبيل المثال الحمام.

الخبرة العلاجية
على مر السنوات نشأت علاقة قوية في مجال الصيد بالصقور بين الأردن وشبه الجزيرة العربية، خصوصًا دولة الإمارات العربية المتحدة.. إلا أن هناك اختلافات بين كل من الدولتين في هذا الشأن. فالصيد بالصقور يشكل جزءًا لا يتجزأ من حياة العديد من الإماراتيين، حيث تمتلك كل أسرة تقريبًا صقرًا خاصًا بها بينما الوضع مختلف في الأردن. يقول الصقارون في وادي عربة إن الناس عمومًا فقدوا اهتمامهم بتلك العادة. فالصقر من أكثر الطيور حساسية وصعوبة في التعامل. ولا يتوافر في تلك المنطقة أطباء متخصصون ومستشفيات لمعالجة الجوارح، وإن كان البدو اكتسبوا خبرة في أمراض الصقور بسبب طول العشرة، فهم يمارسون الطرق العلاجية نفسها التي توارثوها عن أجدادهم منذ آلاف السنين، وهذه الخبرة تتناقلها الأجيال من جيل إلى آخر.
ومن أمراض الصقور المختلفة السامور، وهو عدوى شديدة تصيب حوافر الصقر وديدان الرئة، وهو مرض فطري يصيب الجهاز التنفسي للطير.

شكاوى
أبرز الشكاوى ضد تلك العادة هي أن طائر الحبارى الفريسة الرئيسة للصقر معرض للانقراض بسبب الصيد الجائر، وأدى التحذير العالمي من انخفاض أعداد ذلك الطائر إلى صعوبة ممارسة الصيد بالصقور. وفي الإمارات فإن هذه الفصائل معرضة لخطر الانقراض لكثرة الصيد بالصقور الذي يسره سهولة المواصلات وكفاءتها، وهناك الآن محاولات للحفاظ على هذه الفصائل.
وبسبب التجارة غير المشروعة في الجوارح انخفضت أعداد الصقور مؤخرًا. فطبقًا لتقديرات عام 2007، انخفضت أعداد الصقور بنسبة تتراوح بين 53? إلى 75% على مر الخمسة عشر عامًا الماضية، وهذا يتضمن الأنواع المستخدمة في الصيد بكثرة مثل الصقر الحر(Falco Cherrug)، والشاهين (Falco Peregrinus)، وصقر الجير (Falco rusticolus). وتندرج جميع هذه الفصائل في اتفاقية الاتجار الدولي بأنواع الحيوانات والنباتات البرية المعرضة للانقراض (CITIES).
وتبذل العديد من الجهود للحفاظ على هذه الفصائل البرية المعرضة للانقراض مثل تشجيع استخدام الطيور المهجنة في تلك الرياضة، ويأتي ذلك ضمن المحاولات المستمرة التي تهدف إلى خلق توازن بين التراث والحفاظ على البيئة.
ومن المهم جدًا عند انتهاء موسم الصيد إطلاق سراح الصقور لتعود إلى أماكن تكاثرها الأصلية على أمل أن يتكاثروا، ويساهموا في الحفاظ على بقائهم.
وفي دولة الإمارات يتم تسجيل الصقور من أجل تنظيم تجارة الصيد بالصقور. وتم العمل بهذا النظام في عام 2002 لمنع أصحاب الصقور من تسفير صقورهم دون الحصول على جوازات سفر لها.

أسعار
ويعتمد سعر الصقر على حجمه وسلالته، وفي أواخر الأربعينيات كان يمكن شراء الصقر بنحو 40 دولارًا، بينما بلغ سعره في فترة الستينيات 700 دولار، وتصل أسعار الصقور الآن إلى آلاف الدولارات. ومن الممكن أن يصل سعر صقور معينة إلى مليون دولار في المزاد. وفي دول مثل باكستان، حيث يحظر القانون ممارسة رياضة الصيد بالصقور، تبيع الحكومة تصريحات سنوية لاصطياد الصقور وبيعها.
إن تلك العلاقة الغامضة التي ربطت بين الإنسان وذلك الطائر البري لطالما صمدت في وجه الزمن، وسوف تستمر في سلب لب الأجيال القادمة. فالصيد بالصقور لا يعد مجرد رياضة لبدو الرشيح، ولكنها عذر لهم ليعودوا مرة أخرى إلى الصحراء حيث ينتمون، فهي فرصة لهم ليجتمعوا مع أصدقائهم حول نار المخيم ليستمتعوا بحياة الصحراء مرة أخرى.