April_09Banner

ذاكرة المكان


العقير
العقيرالتاريخ يتجول بين أركانه
كان بمنزلة مركز تجارة عالمي، ويعد أحد الأسواق التجارية القديمة المهمة في فترة ما قبل الإسلام.

Health1_April

• استطلاع وتصوير: عبدالله الزهراني

لا تزال آثاره باقية حتى اليوم، شاخصةً في المكان، تقف شاهدةً على عصور وحضارات متعاقبة في منطقة الخليج العربي، الزوار لهذا المكان التاريخي لا يتعبون من التجوال بين أركانه التي تحكي قصصًا جميلةً عن ماضٍ عريق وتاريخ عميق، عاش فيه محبوه بين الأرصفة والطرقات، أجمل الأيام وأصعب الظروف، وسطر فيه الشعراء أبلغ القصائد في الصبر والانتظار.. إنه ميناء العقير التاريخي، الذي أتعب علماء الآثار، بحثًا وتنقيبًا حتى يومنا هذا.

  • العقير اسم له قيمته الخاصة، وهو على درجة عالية من القوة، حيث لعب دورًا مهمًا في التاريخ القديم

  • يرتبط بواحة الأحساء بطريق تجاري بري قديم، شيدت عليه عدة قلاع وآبار للمياه

  • تحتضن العقير العديد من المباني الأثرية والتاريخية، أهمها مبنى الجمارك الذي يقع بمحاذاة البحر

ميناء العقير ظل لمدة من الزمن في وحدة وعزلة، وكان طيلة السنوات الماضية عرضة لأقسى الظروف المناخية المتأتية عن الرياح القوية والأمواج العاتية، التي لم تؤثر في دوره الكبير وتاريخه القديم، الذي يعود لأكثر من ألف وخمس مئة سنة، كانت حافلة بالكثير من الأحداث المهمة، أبرزها انطلاقة جحافل الجيوش الإسلامية التي فتحت بلاد فارس، والهند، ووصلت إلى مشارف بلاد الصين، كما عقد فيه الملك عبدالعزيز معاهدة العقير الشهيرة مع السير بيرسي كوكس، ممثل الحكومة الإنجليزية في 26 ديسمبر «كانون الأول» 1915، وها هو اليوم يعود مجددًا وجهًا للخير، حيث تنتظره مشاريع سياحية ضخمة، وجهود كبيرة، لتحويله وجهة جذب سياحي فريدة من نوعها، على ضفاف الخليج العربي.

موقع استراتيجي
ميناء العقير ثغر بلاد هجر منذ القدم، يقع على الشاطئ الغربي للخليج العربي، ويبعد نحو 90 كيلاً شرق مدينة الهفوف، عبر طريق حديث معبّد، وذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان، أن العقير قريبة من شاطئ هجر، وتبعد عن الهفوف نحو 40 كلم، ويرى باحث الآثار في الهيئة العامة للسياحة والآثار، خالد بن أحمد الفريدة، أن اسم العقير أو العجير، كما يسميه أهالي الأحساء، ربما جاء من اسم قبيلة عجير، التي سكنت المنطقة خلال الألف الأول قبل الميلاد، وقد يكون لاسمه دلالة جغرافية، فقد ورد في معجم البلدان للياقوت الحموي، أن العقر كل فرجة بين شيئين وتصغيرها عقير.

ويعد العقير ميناء جنوب نجد، لأنه أقرب ميناء لها يرتبط بطريق بري قديم، يعرف بدرب حوجان، يتجه من الأحساء إلى حرض ويتفرع إلى يبرين باتجاه جنوب الجزيرة العربية، أو إلى الخرج فالرياض، أو عبر درب المزاليج الذي يمر بالحني فأبو جفان فالخرج فالرياض، ويمتد بر العقير غرب البحر، ابتداء من تل الزينات جنوب مدخل دوحة رحوم شمالاً، حتى رأس السفيرة جنوبًا، بطول 45 كلم وعرض 5.5 كلم، من البحر باتجاه الأحساء.

طبيعة خلابة
تتميز سواحل العقير بسحرها وجمالها، فهي من أجمل السواحل الشرقية على ضفاف الخليج العربي، وذلك بتداخل مياه الخليج العربي مع الشواطئ الرملية الضحلة، وتنوع المظاهر الجغرافية، وكثرة الرؤوس والخلجان والجزر، التي من أبرزها جزيرة الزخنوانية وجزيرة الفطيم، كما يتميز ساحل العقير بالطبيعة الجميلة، والبيئة النظيفة، ووجود آبار المياه العذبة التي تنبع بجوار الساحل والمباني القديمة، وتكثر فيه الأسماك النادرة والمتنوعة المشهورة في منطقة الخليج العربي.

العراقة التاريخية
العقير اسم له قيمته الخاصة، وإرثٌ ووزن كبير في فترة ما قبل الإسلام، وهو على درجة عالية من القوة، حيث لعب دورًا مهمًا في التاريخ القديم، والدليل على ذلك الشواهد الأثرية التي اكتشفت به، ويعتقد العالم الأثري كارنوال، أنها موقع الجرهاء المفقود، وكتب أبحاثًا عن الأحساء، نشرت عام 1946، كما زارته البعثة الدنماركية، وكتب جيفري بيي عنها في كتاب «المسح الآثاري الأولي بشرق الجزيرة 1971» وكتابه الآخر «البحث عن دلمون»، وقد ارتبط اسم العقير بالجرهاء تاريخيًا، وفق ما كتبه المؤرخون، تحليلاً للنصوص التاريخية القديمة، فقد ذكر استرابو أن الجرهاء مدينة على خليج عميق، يسكنها الكلدانيون من بابل، وقد ذهب استرابو إلى أن الجرهاء كانت في الأصل موضعًا للكلدانين، وكانت ذات تجارة مزدهرة مع أهل بابل، وأن سكانها قد هاجروا منها، وأسسوا دولة الكلدانيين في عام 2000 قبل الميلاد، حيث زحفوا نحو الشمال حتى وصلوا بابل. وقد وجد بعض الباحثين كتابات بالخط العربي المسند بالمنطقة الشرقية، وهو ما تعارف عليه الباحثون بالخط الحسائي، وقد تأثرت هذه الكتابات بالموروثات الثقافية في بلاد الرافدين.

وقد ذكر بليني «الذي عاش في فترة ما بين 23 ق. م إلى 79م» أن خليج الجرهاء، البلدة التي تحمل الاسم نفسه، طول محيطها خمسة أميال، وتضم أبراجًا مشيدة من قوالب الملح المربعة، وذكر توسطها بين جزيرة البحرين وهجر، وهو موقع يتوافق وموقع العقير الحالي.

الأهمية التجارية
عند الحديث عن العقير لا بد من ذكر أنه كان بمنزلة مركز تجارة عالمي، وأحد الأسواق التجارية القديمة في فترة ما قبل الإسلام، حيث ارتبط بسوق المشقر وسوق هجر، وذكر بعض المؤرخين أنه يقع على ساحل البحر، ويلتقي فيه عدد كبير من تجار الأقاليم والأقطار المجاورة، وتعرض فيه ألوان شتى من محاصيل بلاد العرب ومنتجات البلاد الأجنبية. وبعد دخول قبيلة عبدالقيس في الإسلام، دخلت المنطقة طواعية في الإسلام الحنيف، وشهد ميناء العقير انطلاقة جحافل الجيوش الإسلامية التي فتحت بلاد فارس والهند ووصلت إلى مشارف الصين.

كما يرتبط بواحة الأحساء بطريق تجاري بري قديم، شيدت عليه عدة قلاع وآبار للمياه، من أهمها: أم الذر، وشاطر، وبريمان، وخوينج، وقد شيدت هذه القلاع لحماية القوافل التجارية وتزويدها بالمياه، ويقدر عدد الأحمال التي تغادر ميناء العقير إلى الأحساء، ثم إلى المناطق الأخرى، ما بين 250 حمل جمل إلى 300 حمل جمل، تحمل أصناف البضائع من الأخشاب، والمواد الغذائية، والبن، والهيل، والبهارات، والملابس، والعطور، والبخور، والصندل، حيث ترد من الهند، والصين، وإيران، والعراق، واليمن، وحضرموت، وعمان، وتعود محملة بأهم منتجات الأحساء من التمور، والدبس، وفسائل النخيل وسعفها، والصوف، والمواشي، وبعض المنتجات اليدوية كالفخار.

دور البلدية

أكد المهندس فهد الجبير، رئيس بلدية الأحساء، أن مشروع تطوير العقير، سيبلور نقلة نوعية للارتقاء بالسياحة وتعزيزها بمنطقة الأحساء، في حدود ميزانية تطوير تقدر بنحو 4 مليارات ريال، وسيتم تنفيذ عدد من المدن الترفيهية، والمنتجعات السياحية، وميناء ومطار وفنادق وغيرها من متطلبات شواطئ المدن الكبرى. وسيكون الشاطئ وجهة سياحية كبرى، لأبناء المملكة ومواطني دول مجلس التعاون الخليجي. ووعد الجبير بتذليل جميع العوائق التي تبرز ضمن سياق أعمال البلدية، ووضع التسهيلات الممكنة، في ظل لائحة الاستثمار المرنة والمشجعة، التي تكون سندًا وضمانًا، يمكن التعويل عليها من قبل المستثمرين الذين يريدون الاستثمار في الأحساء.


وقد ركب أهالي الأحساء البحر قديمًا، إما لغرض التجارة والسفر، أو للغوص على اللؤلؤ، وصيد الأسماك، حيث تتميز العقير بكثرة الأسماك المشهورة بالجودة، وطيب الطعم، والنكهة، وذلك بسبب زيادة الملح في مياه الخليج العربي، ونظافة المراعي البحرية، ومن أشهر أنواع أسماك العقير: الكنعد، والتونة، والربيب، والحاقول، والشعوم، والصافي، والدويلمي، والفسكر، والبياح، والهامور والبدح والحمام.

المباني الأثرية
تحتضن العقير العديد من المباني الأثرية والتاريخية، أهمها: مبنى الجمارك الذي يقع بمحاذاة البحر، ويتكون من إدارة ومستودع في وحدة بنائية واحدة، الفرضــة، وهي إلى الشرق من مبنى المكاتب، باتجاه البحر فناء مكشوف، ويقسم إلى جزأين، الأول مكشوف يمثل رصيف تفريغ البضائع، والثاني مغمور بشكل نصف دائري، لتسهيل رسو السفن، وليعمل كمصد يخفف من ارتطام الأمواج بالرصيف، مبنى القلعـة، ويتكون من قصر الإمارة ذي المدخل المقوس، وجنوب القلعة يوجد المسجد، ويتكون من رواقين أقيما على أعمدة مربعة وسداسية الشكل، بنيت بحجارة البحر «الفروش» ومونة الجص، مبنى الخان ويقع غرب الميناء، وقد استعمل منذ بداية القرن السابع الهجري كاستراحة للمسافرين ودوابهم، ويحتوي على حجرات للنوم وقاعات لعرض البضائع، وبه غرف صغيرة ذات مداخل مقوسة وأبواب خشبية مستطيلة، تعلوها غرف مسقوفة بخشب الكندل والباسكيل، ومغطاة بالطين، كانت تستخدم سكنًا للعاملين بالميناء وكبار الزوار، وتزاول فيها الأعمال التجارية من بيع وشراء وتخليص للبضائع، أما برج أبو زهمول فقد شيد سنة 1280هـ ويعرف باسم برج الراكة، لوجود شجرة آراك ضخمة بالقرب منه، وهو مبنى أسطواني الشكل، يبلغ ارتفاعه عشرة أمتار، بني على تل مرتفع عما حوله، ويصعد إليه بسلم حلزوني يوصل إلى أدواره الثلاثة، ويحيط به سور دائري، يبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار، وتوجد بينهما بئر ماء عذب، يستقي منها الذين يترددون على العقير.

العقير اليوم
بقي العقير الميناء الرئيس للمنطقة ووسط الجزيرة العربية، حتى عام 1365 هجرية، وفقد الأهمية الاستراتيجية والقيمة التجارية والحيوية والنشاط، مع اكتشاف النفط في المنطقة، وازدادت بعد الطفرة النفطية وبناء موانئ ومرافئ بديلة في الخبر، والدمام، ورأس تنورة، وإنشاء شواطئ وكورنيشات حديثة، حيث سحب من تحته البساط، الأمر الذي فقد بعدها الميناء أهميته التجارية، فهجرته السفن والبواخر منذ ذلك الحين، والعقير اليوم يعد قيمة تاريخية استثنائية، ينتظره العديد من مشاريع الجذب والاستثمار السياحي الفريدة.