«البلدة القديمة» في العلا
قرية سياحية بمواصفات تراثية
ازدهرت منذ 800 عام، وصنفت إحدى ثلاث مدن إسلامية باقية من القرن السابع الهجري.
• العلا: علي العمري
يصف الرحالة العرب حاضرة العلا المعروفة في المجتمع المحلي حاليًا بـ«الديرة» أو «البلدة القديمة» في مؤلفاتهم التي تعود إلى القرن السابع الهجري بأنها من إحدى أهم حواضر الحجاز وأكبرها بعد مكة المكرمة، كما يصنفها المؤرخون بأنها إحدى ثلاث مدن إسلامية باقية من القرن السابع الهجري تمثل المدينة الإسلامية بمساجدها، ومنازلها، وأسواقها، ويعود السبب في شهرتها إلى جغرافيتها في توسطها طريق الحاج الشامي، وكانت محطة رئيسة يتوقف بها الحجاج للتزود بالطعام والماء، ولكثرة عيونها، وخصوبة أرضها، وجودة ثمارها.
|
|
|
|
تخضع «البلدة القديمة» لمشروع إعادة تأهيل متكامل من الهيئة العامة للسياحة والآثار تحت اسم «القرية التراثية»، ويمر بأربع مراحل دشن المرحلة الأولى صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان، الرئيس العام للهيئة العامة للآثار، في مارس الماضي بحضور صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن ماجد، أمير منطقة المدينة المنورة رئيس مجلس التنمية السياحية، كما زارها مدير عام اليونسكو كويشيرو ماتسورا والوفد المرافق له ضمن زيارتهم مدائن صالح.
تعد القرية واحدة من خمسة مواقع أولية باشرت الهيئة العامة للسياحة والآثار العمل بها، لإطلاقها كمرحلة أولى ضمن برنامج القرى التراثية الذي أطلقته لتنمية 64 قرية تراثية في مختلف أنحاء المملكة، وتنفرد «القرية التراثية» في العلا بميزة كونها قريبة من مراكز تجمع السياح الذين يزورون مدائن صالح، كما تهدف مشروعات تنمية القرى التراثية إلى استدامة التنمية، والتشجع على إقامة المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ما يسهم في رسم ملامح النشاط الاقتصادي للسكان والمستثمرين، ومع توافر الخدمات الأساسية اللازمة، فإن ذلك يحفز السياح، ويسهم في قضاء جزء من برنامجهم السياحي داخل هذه القرى، ما يعود بالفائدة الكبرى على السكان المحليين، ويشجع الأسر على العمل في إنتاج متطلبات السائح.
الرؤية التكاملية لمشروع تطوير القرية في جوانبها الإنشائية، والتراثية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية يجملها د.يوسف المزيني، المدير التنفيذي لجهاز السياحة والآثار في منطقة المدينة المنورة بقوله: «إن مشروع تأهيل القرية التراثية في العلا يهدف إلى تحويلها إلى قرية سياحية عالمية متعددة الأنشطة بطريقة تكفل المحافظة على تراثها العمراني، وتحقق عوائد لمالكيها وسكان المحافظة، وتوفر فرصًا وظيفية واستثمارية جديدة عبر تنميتها، وتطويرها، وإعادة تأهيلها، وتوظيفها اقتصاديًا، وتوفير منتج مميز على الخارطة السياحية في محافظة العلا، للإسهام في إيجاد فرص عمل جديدة للمواطنين، تحقق الفوائد لملاك القرية وسكان المحافظة والمواقع المحيطة بها، بالإضافة إلى المحافظة على التراث العمراني المتميز للقرية، ومنع استمرار تدهوره». واهتم النطاق التأهيلي للعمل بدارسة النسيج العمراني وفق رؤية المختصين في الهيئة العامة للسياحة والآثار، والذي يتصف ببناء البيوت من طابقين، بشكل متلاصق، وتتشابه في التصميمين الداخلي والخارجي للقرية التي تشتمل على أكثر من 732 بيتًا، وتضم القرية العديد من المعالم المتميزة التي تم تطويرها لخدمة الأنشطة السياحية والثقافية المختلفة مثل: الطنطورة، ومسجد العظام، والسوق، والساحات العامة. كما تم خلال المشروع التطويري للبلدة المحافظة على العناصر العمرانية التراثية، وإيقاف التدهور المستمر لمبانيها، عبر وضع قاعدة اقتصادية مناسبة لتوظيفها سياحيًا، والمحافظة على المكونات التراثية في القرية، واستثمارها بشكل يضمن استمرارها.
وتتصف «الديرة» أو «البلدة القديمة» بأنها كانت مركز التجمع السكاني في المحافظة إلى أن انتقل جميع سكانها، تقريبًا، أواخر عام 1981 تجاه الأحياء الجديدة التي أنشئت حديثًا، وتتسم بأنها من المباني الطينية المتلاصقة لا تتجاوز الدورين، وتتميز بنسيج عمراني متلاصق ومتلازم، وتضم هذا النسيج وتتخلله شبكة من الطرق والأزقة الضيقة المتعرجة أو المستقيمة، كما توجد بوابات رئيسة عدة لحماية البلدة ليلاً، كما يقع في طرف القرية التراثية من جهة الجنوب الشرقي للبلدة مسجد أثري قديم أسسه الرسول، صلي الله عليه وسلم، في طريقه في غزوة تبوك، وخط مكانه وعلَّمه بالعظام، ولذلك سمي «مسجد العظام»، كما يسمى «مسجد الصخرة»، كما تمتد أسواق القرية في الجهة الغربية على امتداد القرية، حيث تقع المحال، والقهوة، وبئر الماء، وعلى قمة جبل تطل قلعة إسلامية تسمى «قلعة أم ناصر»، وهي قلعة دفن بجوارها القائد المسلم موسي بن نصير، ويستطيع الزائر من أعلاها مشاهدة جميع أرجاء القرية.
وتحيط بالقرية من الشرق، والجنوب، والشمال مزارع النخيل، والحمضيات، والفاكهة، حيث كانت ترويها نحو 35 عينًا جارية أسهمت في اتساع رقعة المزارع القديمة أضعاف مساحة القرية نفسها، وتتألف القرية من منطقتين هما: الحلف والشقيق، ويعد «الدور» الواقع غرب القرية المركز التجاري للبلدة، حيث كانت تعرض فيه معظم السلع والمواشي، وكان سكان البادية يجلبون ما لديهم من منتجات ويبيعونها في سوق القرية.
شمل مشروع التأهيل الذي تم تنفيذ المرحلة الأولى منه إعادة تأهيل قلعة موسى بن نصير وبعض الممرات، ويتكون هذا الجزء من المباني المطلة على الشارع الرئيس وقلعة موسى بن نصير الواقعة أعلى جبل القلعة، بالإضافة إلى بعض المباني الواقعة على الممرات المستهدفة التي تؤدي إلى الجزء الغربي من القرية، أما الجزء الغربي فقد تم ترميم الساحة الغربية والمباني المطلة عليها الواقعة في القرية التراثية وإعادة تأهيلها، ويتكون هذا الجزء من مجموعة مبانٍ مطلة على ساحة كانت تستخدم في السابق لتبادل البضائع مع البادية، ويتم ترميمها لتكون سوقًا شعبية للمحافظة.
شملت يد التطوير سوق الدور، وإعادة تنسيق مسار الطريق القديم وتخصيصه للمشاة، واستخدام المواد المتوافرة في الموقع، خصوصًا الأحجار المحلية لدعم مظهر القرية وتناسقها مع الجوار، وإزالة جميع المعوقات البصرية، لكي يتسنى للزوار الاستمتاع بالمناظر المحيطة به، من ترميم مباني السوق، وإعادة تأهيلها كسوق شعبية، والسماح باستثمار الأراضي الفضاء ضمن معايير عمرانية تتناسب مع طبيعة الموقع، وإعادة بناء المتهدم من المباني باستخدام الركام المجمع من الطرقات والأزقة، وحماية المباني من تأثير المياه، بالإضافة إلى بعض الخدمات مثل: المطاعم والمقاهي الشعبية، وإعادة تأهيل بيت البلدية كمتحف للقرية التراثية، ومركز للزوار، وإعادة تأهيل الساحات وتطويرها باستخدام الأساليب التقليدية في تأهيل المنازل وتنسيقها، مع إعادة توصيل الماء إلى السبيل، وتحديد الرموز الفلكية في ساحة الطنطورة، وترميم المزولة الشمسية والحفاظ عليها، وتحديد الرموز الفلكية في الساحة، وخصوصًا تلك المتعلقة بتقسيم المياه بين السكان، ودخول مربعانية الشتاء.
وترغب الهيئة العامة للسياحة والآثار أن يسهم مشروع «القرى التراثية» في تنمية البيئة المحلية واحتضان العديد من الحرفيين والحرفيات عبر توفير فرص العمل، وتشجع الاستثمار في ترميم مباني التراث العمراني وإعادة تأهيلها وتوظيفها كنُزل ومطاعم سياحية, وبعث القيم الثقافية والحضارية، إلى جانب تفعيل النشاط الاقتصادي، ومنح القرية التراثية إقامة الفعاليات الثقافية والتراثية، وتشجيع المجتمعات المحلية على إنتاج المنتجات الزراعية والمأكولات الشعبية والحرف اليدوية التي يطلبها المتسوقون والزوار وتسويقها، وبذلك فإن القرى التراثية تعد أحد الموارد الرئيسة للسياحة الثقافية، وموردًا اقتصاديًا مهمًا يعتمد عليه المجتمع المحلي.