الروائي مصطفى الكيلاني:
الرواية العربية في طريقها إلى العالمية
من يستسهل قصيدة النثر فهو في الحقيقة يكتب نصًا عابرًا، أو خاطرة.
• حاوره: محمد محمود البشتاوي
ما أن تستمع إلى د.مصطفى الكيلاني، حتى تذهب معه بعيدًا في استكشاف العملية الإبداعية، وتشريح النص، فتصاب بحيرة البداية، فهو قاص وروائي، شاعر إن أردتَ، ناقد أكاديمي، وأستاذ جامعي، صاحب ثقافة موسوعية، يؤمن بأن القراءة هي البدء، وأن «القارئ المفترض» هو جزء من الكتابة.
|
|
|
|
الكيلاني القادم من تونس الخضراء، أستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في سوسة، جامعة الوسط، يدرس الأدب الحديث، والنقد، أصدر عشرات الكتب في مختلف الأجناس الأدبية، ولا يزال مشتغلاً في هذه الحقول، يقدم الجديد المتميز، ويشقُّ لنفسهِ مسارًا مختلفًا، يحمل فيه مشروعًا ثقافيًا عربيًا، يسعى من خلاله لنقل الأدب العربي، ويخص الرواية إلى العالمية، ليكون بذلك منافسًا للآداب العالمية.
القراءة هي البدء
يرى صاحب رواية «نزيف الظل» أن البداية تكون من القراءة، والكتابة تنبثق منها رغم أنه يعد الكتابة «بمنزلة الرحم الولود»، موضحًا أنه اندفع إليها بسبب العطش والرغبة المكبوتة التي تنطلق من فكرة النقصان، فـ«الكائن البشري في اعتقادي اختلف عن غيره من الكائنات، لأنه كائن ناقص، ويدرك ذلك، ويسعى إلى الكمال».
ويضيف أستاذ الأدب الحديث «في البدء كانت القراءة، والنصوص الصروح، هي النصوص التي انبثقت من القراءة الواسعة متعددة المراجع، والقارئ المفترض هو جزء من الكتابة وهو الذي يتحول بفعل القراءة إلى مجموع القراء في سياقات زمنية مختلفة، ما يحول النص إلى سمة الخلود أو الديمومة».
ونظرًا للتداخل المتمثل في كتابات الكيلاني بين الكتابة الإبداعية والوظيفية النقدية، فهو يرى أن «العمل الإبداعي القصصي أو الروائي يشتمل على الكثير من النقد، والفكر النقدي ماثل»، مؤكدًا «أن النقد هو جزء من العمل الإبداعي لأنه فكر، وعلى المستوى الإجرائي إجراء الكتابة، نحن نعيش حالة من الحيرة نغالب فيها البياض، نشطب، نُشذب، ونهذب ما نكتبه».
ويتابع صاحب رواية «مرايا الساعات الميتة» أنه «عندما نكتب النص ونعود إليه كي نعيد قراءته، بإعادة فعل القراءة نجد حالنا دائمًا في حاجة إلى المراجعة، فما هو الدافع إلى ذلك؟»، يجيب «إنه الفكر النقدي الماثل في الكتابة وفينا، والنقدي هو جزء من الكتابة.. أما ممارسة الوظيفة النقدية فهذا موضوع آخر».
ويرى الناقد المختص في دراسة الأجناس الأدبية أن النقد ثلاثة نقود، «نقد أكاديمي جامعي يؤدي وظيفة الوصف أو التوصيف، التفكيك، الإحصاء، وصف الأساليب، والنقد المبدع القارئ الذي يتفاعل مع المقروء ولا يتفاعل كثيرًا مع المناهج، والنقد الإعلامي الصحفي».
بين الرواية والشعر
وحول ما تمتاز به قصصه القصيرة من تجانس أو تماهي مع الشعر، يقول صاحب مجموعة «حلم السبيل» «لنخرج من دائرة المقارنة بين الأجناس الأدبية، فالقصة القصيرة هي أقرب إلى القصيدة، لأنها تمثل كمًّا إنسانيًّا ولغويًّا محدودًا مقارنة مع الرواية. القصة تتنزل بين الشعر والرواية، تأخذ منهما، ومن الأجناس الأدبية الأخرى، من الحكاية والمروي، وتأخذ من الشعر توهج الحالة الشعرية».
ويثير الكيلاني مسألة استسهال الروائيين للقصة، وعدّها تمرينًا كتابيًا، موضحًا أنها ليست كذلك، لأن «الرواية هندسة ومعمار ولها مجال زمني أوسع، ولك من الوقت ما تستطيع أن تؤدي به وظيفة السرد على أتم وجه. أما القصة القصيرة فتطرح المشكلة بحدة، وأنت مطالب باختصار اللغة».
ويتابع أن «القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا هي أشبه ما يكون بالنص الشعري، القصة الومضة، هي أقرب إلى القصيدة، وأحيانًا نجد لدى شعراء عرب كأدونيس نصوصًا شعرية أشبه ما تكون بالقصص الومضات».
وفيما يتعلق بكتاباته القصصية التي تجول بين السخرية الهادفة، والمتخيل الكابوسي، والواقع المرمز بأقنعة، فهو يرى أن ذلك يعود إلى لحظة الكتابة لأن «القصة القصيرة مرتبطة بحالة وسياق تلك الحالة، ولذلك قد يحتاج القاص أو الذات الساردة قصصًا إلى السخرية لأداء المعنى، وأحيانًا في أعلى تخوم الكارثة في مستوى الوعي، قد يتحول حال القلق إلى درجة الأذى».
قصيدة النثر
ومن القضايا الأدبية التي درسها الكيلاني، كانت قصيدة النثر المثيرة للجدل في الوسط الثقافي العربي، وحولها يقول «كتب عن قصيدة النثر نزر قليل، وكتب الكثير الكثير في قصيدة النثر، أي كتابة قصيدة النثر، فثمة من يستسهل كتابتها، بدعوى التحرر من الوزن».
ويضيف صاحب مجموعة «أعوام الجراد والمخاض» «حينما ننظر إلى قصيدة النثر نجدها أصعب من قصيدة التفعيلة، أو القصيدة العمودية، لأن فيهما ما يسمى بالثوابت، أما قصيدة النثر فهي مغامرة، كمن يسير في درب الوجود والإبداع دون علامات».
ويرى أن «المرجع لكتابة قصيدة النثر هو الثقافة الواسعة، لابد من ثقافةٍ عميقة، ثقافة فلسفية، ثقافة لها علاقة بالفنون التشكيلية والرسم، وثقافة في الحوار، لأن القصيدة متعددة الأساليب، وبالتالي الذين يستسهلون قصيدة النثر هم بالحقيقة يكتبون نصوصًا عابرة، أو خواطر».
وفيما يخص المنجز النقدي حول هذه القصيدة، فليس هنالك سوى فصول نقدية، وقد «أنجز عز الدين المناصرة كتابًا مهمًا في نظري عدت إليه من أجل التوثيق، لكنه كتاب توثيقي، والحاجة الماسة هي لعمل يحلل قصيدة النثر».
وفي هذا الصدد يقول «أنجزت عملاً كاملاً تعطل في دار النشر قرابة العامين أو أكثر، والآن سيصدر عن دار نقوش عربية في تونس، كتاب ضخم من حيث الحجم يقارب السبع مئة صفحة، لأنه يحاول أن يسد ثغرة في النقد الأدبي الحديث، وفي نقد قصيدة النثر تحديدًا».
ويشير الكيلاني، الذي بدأ حياته الأدبية شاعرًا قبل أن يتحول إلى السرد والنقد، إلى أنه «لا يمكن للشعر أن يخلوَ من صناعة، ثمة جانب الصناعة، على مستوى الإنتاج، أنا لا أتصور شاعرًا لا يتقن اللغة، لأنه سيؤسس ويبني استعارات جديدة، حسب بول ريكور».
ويتابع أن «بناء استعارة جديدة يحتاج إلى معرفة الاستعارات السالفة أو السابقة، التي تقادمت وأصبحت بمرور الزمن ميتة أو مستهلكة، وريكور يقابل بين الاستعارة الحية والميتة. فالصناعة ضرورية مرتبطة بالثقافة، لابد من أدوات الصناعة، ولكن الشعر ليس صناعة وحسب، إنما إبداع، لحظة مرتبطة بالصدفة، والعفوية، والموهبة، والروح الخلاقة».
ويرى أن «بصمة الشاعر تُشكل التفرد في العمل الإبداعي، والعمل الشعري خاصة»، مضيفًا «أن الشعر أصعب الأجناس الأدبية، لأنه مرجع لها وللفنون، وهذا ما أثبته مارتن هيدجر، في بحوثه الجمالية، خصوصًا حينما اشتغل على التأويلية أدرك أن الشعري هو تجاوز حدود القصيدة».
التراث العربي
الكيلاني الذي كتب الرواية متأخرًا، مقارنةً مع القصة والنقد، يربط هذا التأخر بـ«تقدم العمر، والسبب أن القصيدة أقرب إلى الحالة الهوجاء، القصة أشبه ما تكون بحالة، أما الرواية فتحتاج إلى تقدم تجربة الوجود والكتابة، لأن الصناعة تتأكد في العمل الروائي، ثمة هندسة، ومعمار».
وحول الرواية التي يؤكد الكيلاني أنها «فن وفد إلينا من الغرب»، في حين استفاد هذا الغرب، على حد قوله، من التراث السردي العربي، فـ«أخذ الأساليب والمراجع في تطوير أو إنشاء هذا الفن الجديد العابر، الذي اتخذ أشكالاً غربية وانتقل من الشمال إلى الجنوب، أي انتقل إلينا».
ويرى أن الرواية العربية مرت بثلاث مراحل، هي «مرحلة تقليد الرواية الغربية، والمرحلة الثانية تمثلت في التجريب الأول، أدرك فيها الروائيون العرب بعد هزات عنيفة مثل هزيمة 67، ثم تغير حياة الفرد والمجتمعات العربية، أن هنالك حاجة إلى فهم جديد لتقنيات الرواية، ولأداء الواقع والوقائع الجديدة».
أما المرحلة الثالثة القائمة اليوم، فهي «التجريب الثاني، الذي أدرك فيه الروائي العربي أنه بالغ في تغييب المحكي– السرد، نتيجة المبالغة في اعتماد التجريب، وفي هذا الطور يسعى إلى تحقيق المختلف المتفرد، لذلك الرواية العربية هي في طريقها إلى العالمية بل قطعت أشواطا في ذلك».
ويؤكد الناقد المختص أن الرواية العربية في المشرق والمغرب، تشترك في المراحل الثلاث السابقة، ولها مشترك يتعلق بالتراث الشفهي والمدون، إلا أن الاختلاف يقع في اختلاف المجتمعات، موضحًا أن الرواية في الشرق تمتاز بـ«التنوع والثراء» الذي يعود إلى تنوع المجتمع وثرائه في المشرق دون أن يعني ذلك نفي الرواية المغاربية.
ويُحيل الكيلاني مشكلة تأخر الرواية العربية عن العالمية إلى «الترجمة، فنحن بأمس الحاجة إليها، هي موجودة، لكن لا وجود لاستراتيجية، ما يجعل الغالب على الترجمة هو الاعتباطية، وما ينجز هو فردي، وتدخل العلاقات الشخصية في الترجمة».
ويضع الكيلاني رؤيةً لمشروعٍ عربي يتمثل في «مأسسة» الترجمة، في حين يدعو إلى تنظيم النقد إن «أردنا تطوير نقد الرواية بالمعنى المؤسسي نكون بحاجة إلى تمويل وتخصيص فرق بحثية، ومؤسسات أكاديمية متعاونة، والنقد اليوم يقوم على المشاريع الفردية وأطروحات جامعية، ومقالات».
صحراء دوز
يقول الكيلاني إن «الدخول إلى صحراء دوز في أقصى الجنوب التونسي هو بمنزلة الانتقال من وجود إلى آخر»، مشيرًا إلى منطقة تقع في مثلث يجمع بين تونس والجزائر وليبيا، وهو مثلث خارج تصنيف الحدود.
ويتابع أنه عاش مغامرةً «مع من يعرف مسالك الصحراء، فخرجنا عن الحدود، ودخلنا إلى المثلث، فزرنا جماعة تسمى «الربايع»، وهم عرب من بني هلال، فسألت الأولاد، هل أنت تونسي أم جزائري أم ليبي؟ فلم يجب، ثم قال أنا ربايعي؟».
وفي أسئلته إلى «الطفل الربايعي» يقول «حينما سألته عن عمره ضحك، لأنه لا يعلم حقًا وإن بدا حسب الظاهر في آخر الطفولة أو على بدء عتبة الشباب. سألته عن الطعام الذي يقتاته، عن الماء، عن الدواء، عن ألعابه ولعبه، عن المدرسة التي لا يعلم عنها شيئًا، وكأنه يفهم بعض ما أقول أحيانًا فيجيب إيماءً بالنفي أو الإثبات».
ويرى الكيلاني أن «صحراء دوز هي متعددة رغم واحدية الرمل، ذلك ما لم يكشف عنه الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو رغم عديد مدنه «اللامرئية»، فدوز وجه آخر للمدينة، لأنها سليلة الصحراء، ومثال حي يدلل على أن الصحراء مدينة أخرى، إن نظرنا إليها بعين الوجود».
وينهي الناقد متعدد الإبداع «الثابت أنني أتطهر في كل عام عند زيارة دوز وصحراء دوز وأصدقاء دوز الأوفياء، أحفاد العرب المرازيق، أجدادي أيضًا رغم مَنْ أسكنوني قريبًا من البحر».