April_09Banner

رمضان


الصوم
أحب العبادات إلى الله
يدرب الإنسان، وينمي قدرته على التحكم في الذات، ويخضع كل ميول الدنيا تحت سيطرة الإرادة.

Health1_April

• الرياض: نزار الغنانيم
• تصوير: خالد محمود

الصوم من أحب العبادات إلى الله تعالى، والله يثيب عليه بغير تقدير، وهذا ما دلت عليه الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، فهو جنّة الروح، وكفّارة ومغفِرة للذّنوب، ولعِظَم شأنه وسمو قيمته الدينية، ولفؤائده الدنيوية العظيمة، رتَّب عليه الشارع الحكيم أجورًا عظيمة، وجعله شرعة وفريضة لكل مسلم يؤمن بالله ويريد تحقيق التزكية والصفاء لروحه ونفسه.

  • تتجلى فيه أسمى غايات كبح جماح النفس وتربيتها بترك بعض العادات السيئة التي ألفتها

  • الصوم يعمق الخشوع والإحساس بالسكينة، والتحكم في الشهوات وإنماء الشخصية

  • يعطي الفرصة للإنسان لكي يفكر في ذاته، ويعمل على التوازن الذي يؤدي إلى الصحة

بحسب الشيخ يوسف بن محمد الدوس، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود، وعضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، في هذه الحياة تمتد بالإنسان التبعات ما امتدت به الأيام، ولربما ظل الإنسان، من جراء أحداث الزمن وصروف العيش، وإنغماسه في ملذاتها، في تعب دائم، وقلق طويل، وشتات في الذهن والتفكير، وعبوس في الوجه وشحوب في المحيا.

استقرار النفس وطمأنتها
وما هذه الأمراض التي انتشرت في أوساطنا اليوم، إلا شيء قليل من تبعات الواقع المعاش وإفرازات الماديات، التي حولت حياة الناس إلى جفاف قاحل وعزلة تامة، أقفرت معها الروح، وقست بسببها القلوب، واضطربت منها النفوس، وها نحن نعاني أمراضًا عمَّت وانتشرت، بل واستعصت أيضًا، وهي في أسبابها ترجع إلى الضغوط النفسية، وعدم القدرة على التكيف مع الحياة بالطريقة الوسطية المتزنة، وقد أفرزت هذه الأوضاع المضطربة للنفوس ألوانًا من الأدواء لم تكن مألوفة من قبل بهذه النسب المخيفة، كالكآبة والقلق، وارتفاع نسبة مرضى السكري، وارتفاع الضغط، والقولون العصبي، وقرحة المعدة.. وغيرها. وقد أكدت الجمعية الطبية الأمريكية أن 60% من العلل والأمراض سببها الاضطرابات النفسية!
ونحن، بحمد الله، قد هيأ لنا ديننا بتعاليمه السديدة، وتشريعاته السمحة، وإرشاداته الحكيمة، ما يكون سببًا في استقرار هذه النفس وطمأنينتها، إذا ما تمثل بها المؤمن تمثلاً حقيقيًا في واقع حياته، ومن الواضح أن الذين لديهم تمسك جيِّد بتعاليم الشريعة في الاعتقاد والسلوك يحققون قدرًا كبيرًا من الاستقرار النفسي والعاطفي، وتوازنًا في السلوك والأخلاق. ولذا فإن استغلال المواسم الإيمانية والممارسات التعبدية بتجديد بواعث الأمل وترسيخ معاني القوة مطلب ملح لكل من يريد أن يجلب لنفسه السعادة النفسية والرقي الروحي والتخلص من تراكمات الأيام ورواسب الأحداث.
ولذلك كانت العبادات متكررة في حياة المؤمن، لتشكل في طريقه الطويل المثخن بالأعباء والمنعطفات المهلكة والتعرجات الوعرة، محطاتٍ يتزود فيها، ويحط من تلك الأعباء والتبعات، وطبيعة الإنسان جامحة ولاهثة، فتجده دائم الشكاية والتبرم من أوضاعه وأحواله، مع أنه قد يكون في رغد وبين أبناء وحفدة، وذا مكانة ونفوذ، قال تعالى }كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى{ العلق «6-7».

ضبط الرغبات وكبحها
وبيَّن الدوس أن الدراسات النقدية تناولت نمط العيش الحديث، أشهرها كتابات هربرت ماركيوز وإيريك فروم، أشارت إلى سلبية خطيرة تنخر نفسية الكائن الإنساني تتمثل في طغيان رغبات التملك والاستهلاك. ويرى ماركيوز أن نمط العيش المعاصر كبّل الكائن الإنساني برغبات زائفة، تحولت بفعل قوة الدعاية وآلياتها إلى حاجات يظل الإنسان دومًا يجري لاهثًا من أجل سدها. وفي ظل هذا النمط الاستهلاكي يفقد الإنسان القدرة على ضبط اختياراته واستجاباته لمثيرات غرائزه.
ومن منظور سيكولوجي، أكدت أبحاث د.كانمان الأستاذ في جامعة برنستون الأميركية أن ارتفاع معدلات الاكتئاب يتناسب مع ارتفاع الاختيارات الاستهلاكية وتعددها، وعدم قدرة الناس على ضبط رغباتهم وكبحها، وهذا عكس الظن الشائع الذي يحسب أن تعدد الاختيارات والانسياق نحو الاستهلاك يسعدان الإنسان!
وفي السياق ذاته تخلص دراسة د.باري شوارتز إلى ذات النتيجة، وهي أن نفسية الاكتئاب والإحباط قرينة للإفراط في الانسياق مع تيار الاستهلاك الجارف، وعدم الانتباه إلى فائدة ضبط الشهوات والتقليل من اندفاع الرغبة.
لذا نجد الكثير من الأبحاث تنصح بالتدريب على كبح الشهوة والسيطرة على الرغبات بالصوم. بل ثمة مئات من المؤسسات والمراكز الطبية تتخصص في العلاج بالصوم، مثل: الجمعية العالمية للصحة، وجمعية الطبيعة والصحة بكندا، والجمعية الأميركية للصحة الطبيعية.. وغيرها. هذا فضلاً عن عدد من الجمعيات والمراكز المبثوثة في أوروبا، دون أن نعد آلاف المراكز الموجودة في آسيا «اليابان والهند والصين..» التي من المعلوم أن لها في تقاليدها الدينية القديمة سابق اهتمام وتقديرًا للصوم.

التوازن المؤدي إلى الصحة
فالصيام فوائده الصحية والنفسية والروحية عديدة، وأول هذه الفوائد إنماء الشخصية. ومعناه النضج وتحمُّل المسؤولية والراحة النفسية.. إنه يعطي الفرصة للإنسان لكي يفكر في ذاته، ويعمل على التوازن الذي يؤدي إلى الصحة بشتى صورها، وبالطبع فإن الصيام يدرب الإنسان، وينمي قدرته على التحكم في الذات، ويخضع كل ميول الدنيا إلى سيطرة الإرادة، وكل ذلك يتم بقوة الإيمان.
وتتجلى في رمضان أسمى غايات كبح جماح النفس، وتربيتها بترك بعض العادات السيئة، التي ألفها الإنسان وقتًا طويلاً، سواء كانت في المأكل والمشرب، أو في السلوك والعادات. فالصائم يشعر بالطمأنينة والراحة النفسية والفكرية، ويحاول الابتعاد عما يعكر صفو الصيام من محرمات ومنغصات، ويحافظ على ضوابط السلوك الجيدة، فينعكس إيجابًا على المجتمع عمومًا، قال صلى الله عليه وسلم: «الصيام جُنّة، فإذا صام أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم» رواه البخاري وغيره، وقد أثبتت دراسات عديدة انخفاض نسبة الجريمة بوضوح في البلاد الإسلامية خلال شهر رمضان.
ومن فوائد الصيام الأخرى أنه يخضع الملذات لإرادة الفرد.. فعند الصيام يحدث نقص في سكر الدم..وهذا يسبب نوعًا من الفتور والكسل والسكينة.. وهذه الأحاسيس تؤدي إلى نوع من الضعف والقابلية للإيحاء، ومن ثم يكون الإنسان في حالة من التواضع وعدم الاختيال بالذات.. مع إحساس بالضعف والحاجة، فيتذكر المؤمن حقيقته.. ومن هنا يأتي الخشوع والاتجاه الصحيح إلى الله، وهو ما يعزز إيمان الإنسان ويقوِّي عقيدته. وهكذا نجد الصيام هو الذي يعمق الخشوع والإحساس بالسكينة، والتحكم في الشهوات وإنماء الشخصية.

أحب العبادات
والصيام موجود في كل الأديان، وكل الأديان تحبذه، لأن في الصيام تعزيزًا للإيمان، صحيح أن نوعية الصيام تختلف من دين إلى دين، إلا أن الصوم يهب الإنسان السكينة، والهدوء، والخشوع، والتغلب على الملذات، والاتجاه إلى الله.
يقول د.العالمي ألكسيس كاريك الحائز على جائزة نوبل في الطب في كتابه الذي يعده الأطباء حجة في الطب «الإنسان ذلك المجهول»: «إن كثرة وجبات الطعام، وانتظامها ووفرتها، تعطل وظيفة أدت دورًا عظيمًا في بقاء الأجناس البشرية، وهي وظيفة التكيف على قلة الطعام، ولذلك كان الناس يلتزمون الصوم والحرمان من الطعام، إذ يحدث أول الأمر الشعور بالجوع، ويحدث أحيانًا التهيُّج العصبي، ثم يعقب ذلك شعور بالضعف، بيد أنه تحدث إلى جانب ذلك ظواهر خفية أهم بكثير منه، فإن سكر الكبد سيتحرك، ويتحرك معه أيضًا الدهن المخزون تحت الجلد، وبروتينات العضل والغدد وخلايا الكبد، وتضحي جميع الأعضاء بمادتها الخاصة للإبقاء على كمال الوسيط الداخلي، وسلامة القلب».
ثم إننا لا نريد بحديثنا هذا تجريد فعل الصوم من معناه التعبدي، ولا اختزال النظر في فائدته الدنيوية تحديدًا، بل إن المؤمن يجب أن ينظر في الصوم من جهة ثمرته الأخروية أيضًا. وهنا يكفي استشعار ذاك المعنى الجميل الذي يحمله الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به». وقد اختلف العلماء في تفسير المراد بقوله سبحانه «الصيام لي وأنا أجزي به» على أقوال منها: أن الصوم لا يقع فيه الرياء، كما يقع في غيره. ومنها أن المراد بقوله: «وأنا أجزي به» أني أنفرد بعلم مقدار ثوابه. وقال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كُشفَت مقادير ثوابها للناس، وأنها تُضاعف من عشرة إلى سبع مئة إلى ما شاء الله، إلا الصيام فإِن الله يُثيب عليه بغير تقدير. ومنها معنى قوله: «الصوم لي» أي أنه أحب العبادات إليَّ والمُقدم عندي.

الصوم جنّة
ووفق الدوس، إنه وإن اختلفت التأويلات فإنها تؤولُ كلها إلى عِظَم شأن الصيام وسمو قيمته، ولأجل هذه الفوائد العظيمة للصيام رتب عليه الشارع الحكيم أجورًا عظيمة، وجعله شرعة وفريضة لكل مسلم يؤمن بالله ويريد تحقيق التزكية والصفاء لروحه ونفسه. وانظروا إلى هذه الطائفة الكريمة من الأحاديث النبوية الثابتة، التي تزيد المؤمن إقبالاً ونشاطًا على هذه العبادة الجليلة:
روى أحمد عن جابر رضي الله عنه أنّ النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، قال: «إنّما الصيام جنّة يستجِنّ بها العبدُ من النار». وجاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبيّ، صلى الله عليه وسلم، قال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءةَ فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنّه له وجاء» رواه البخاري ومسلم. وروى النسائيّ عن أبي أمامة قال: أتيتُ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: مُرني بأمرٍ آخذه عنك، قال: «عليك بالصوم فإنه لا مِثلَ له». وفي الجنّة بابٌ لا يدخل منه إلا الصائمون، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه، أنّ النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، قال: «إنَّ في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرُهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخُل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أغلِقَ فلم يدخل منه أحد» أخرجه البخاري ومسلم. وروى الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنّ النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، قال: ««الصيامُ والقرآن يشفعان للعبد يومَ القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ، منعتُه الطعامَ والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النومَ بالليل فشفِّعني فيه قال: فيشفَّعَان». والصّومُ كفّارة ومغفِرة للذّنوب، فإنّ الحسنات تكفِّر السيئات، فقد قال، صلى الله عليه وسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه». والصّيام أيضًا سببٌ للسّعادة في الدّارين، فقد قال، صلى الله عليه وسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «والذي نفسُ محمّد بيده، لخلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقيَ ربّه فرحَ بصومِه» رواه البخاري ومسلم.

هبة ربانية
وها هو رمضان شهر الصيام بكل تلك المعاني الجميلة، محملاً بالبشارات والنفحات التي تضفي طابعًا خاصًا على الدنيا بأسرها، وتنثر عبقًا مليئًا بالهدايات الربانية والدلالات السامية، التي تغمر النفوس بمظاهر السرور ومعاني السكينة، فكان حريًا بالمؤمن أن يستبشر بهذا الشهر وبقدومه، كما كان يفعل عليه الصلاة والسلام مع أصحابه، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم». إسناده صحيح، قال ابن رجب في اللطائف: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بشهر رمضان.
ومتى ما استشعر المؤمن قيمة هذه الهبة الربانية وأحسن استغلالها، حقق لنفسه قدرًا كبيرًا من الاستقرار والطمأنينة، وتجددت في داخله مكامن القوة وبوادر الإبداع والرقي، التي تضمن له الحيوية في قابل أيامه.