بلاد فاتح الأندلس
العلا..
عروس الجبال
يحيطها جبلان بينهما وادٍ خصب تزرع فيه النخيل والفاكهة.
• استطلاع: عبدالعزيز محمد العريفي
• تصوير: تشارلي ميراندا
|
|
|
|
عندما يتحول الفضول إلى هاجس يتمرد على الذات البليدة، ويستنهضها ويصفع خديها لتصحو وتنشط وتكرع كأس المعرفة بنهم، وتتوثب نحو آفاق المعلومة أيًا كان مكانها، يزداد الأمر إلحاحًا إذا ما امتزجت المعلومة بعبقرية الزمان والمكان كما هو الحال عندما يدفعك الفضول دفعًا لمعرفة المزيد والمزيد عن مدينة العلا، أو عروس الجبال كما يحلو لأهلها أن يلقبوها. هذه المدينة الضاربة في ثرى القدم، والزاخرة بالمواقع الأثرية المهمة فلا غرو إذًا أن لقبها الأركلجيون بعاصمة الآثار.
العلا، وهو الاسم الحديث نسبيًا لوادي القرى الذي كثر ذكره في كتب التاريخ وتغنى به الشعراء، وهي بلاد فاتح الأندلس أبو عبدالرحمن موسى بن نصير اللخمي الذي أنشأ فيها قلعته المشهورة. وقد دعا لأهلها الرسول، صلى الله عليه وسلم، عندما أقام بها في أثناء ذهابه إلى غزوة تبوك، كما زارها الرحالة ابن بطوطة ومدحها ومدح أهلها. ويقول عنها ياقوت الحموي في معجمه الشهير: العلا بضم أوله وهو جمع العليا، وهو اسم لموضع من ناحية وادي القرى بينها وبين الشام، نزله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في طريقه إلى تبوك، وبني مكان مصلاه مسجد.
وكانت العلا قديمًا تسمى ديدان، ويروى أن سبب تسمية العلا بالعلا أنه كان بالعلا عينان مشهورتان بالماء العذب هما المعلق وتدعل، وكان على منبع المعلق نخلات شاهقات العلو يطلق عليها العلى. ويحيط بمدينة العلا جبلان كبيران وبينهما واد خصب التربة يزرع فيه النخيل والفواكه. وتقع العلا في الجزء الشمالي الغربي من جزيرة العرب بين المدينة المنورة وتبوك، وتبعد عن المدينة نحو 380 كم. وتعد من أهم المناطق الحضارية التاريخية، نظرًا لوقوعها على الطريق الرئيس لقوافل التوابل في الحضارات القديمة.
وتذكر بعض المصادر أنه عندما برزت العلا في أوائل القرن السابع الهجري كمدينة رئيسة في المنطقة عقب اندثار مدينة فرح في وادي القرى التابعة آنذاك لسلطة الأيوبيين في دمشق، وفي القرن الثامن عشر ميلادي أصبحت تابعة لسلطة العثمانيين، وفي القرن التاسع عشر أضحت تابعة لمحافظة المدينة المنورة، ثم أصبحت تابعة لإمارة حائل حتى عام 1309هجرية.. وهذا من المفارقات العجيبة، وبعدها عادت مرة أخرى لتكون تبعًا للمدينة المنورة.
وبعد مبايعة الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، ملكًا على الحجاز عام 1344هجرية 1926 ميلادية سارع أهالي العلا بإرسال برقية يبايعون فيها الملك عبدالعزيز، وتاريخها لم يعرف على وجه التحديد، إلا أن المؤرخين أجمعوا على أن تاريخها ربما يعود إلى ما قبل الميلاد بآلاف السنين، وتعاقبت عليها عدة دول وحضارات، وبها مدائن صالح، أو قرى صالح، أو الحجر، وهي تسميات تطلق على مكان قوم ثمود والأنباط، حيث تجد مقابرهم المنحوتة في الجبال بطريقة غاية في الدقة والجمال والغرابة تصل إلى حد الإدهاش.
ومن آثار العلا محلب ناقة النبي صالح، عليه السلام، والقلاع الإسلامية، ومحطات السكة الحديدية، ومقابر الأسُود، وجبل عكمة الصليمية، وغيرها الكثير مما لا يزال الأركليجيون يعملون بجد لكشفه.
ومن أهم الدول أو الممالك التي تعاقبت على السيطرة على العلا: مملكة ديدان، وحدد تاريخها من القرن السادس قبل الميلاد حتى بداية القرن الخامس قبل الميلاد، ومملكة لحيان، وحدد تاريخ تلك الدولة من بداية القرن الخامس قبل الميلاد حتى نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وقد امتد نفوذ دولتهم حتى خليج العقبة، واللحيانيين لم ينقرضوا ولا يزال الكثير منهم موجودًا حول مكة المكرمة إلى يومنا هذا، ودولة معين، وهذه الدولة حدد تاريخها بداية من منتصف القرن السادس قبل الميلاد وحتى مطلع القرن الأول ميلادي، ودولة الأنباط، والأنباط قبائل عربية عاشت في المنطقة الواقعة بين العراق وسوريا والأردن، وجاؤوا إلى منطقة البتراء في الأردن واستولوا عليها من الأدوميين. وقد وصل الأنباط إلى مراحل متقدمة من الرقي والحضارة، وتوسع نفوذهم ليصل إلى شرق فلسطين وجنوبها، ودمشق، وإلى مدائن صالح. وحاول الإغريق القضاء على تلك الحضارة عدة مرات دون جدوى حتى وقعت دولة الأنباط أخيرًا تحت الحكم الروماني الغاشم، وتفرقت قبائلهم داخل الجزيرة العربية وخارجها.
وهناك العديد من المعالم الأثرية في العلا أهمها مدائن صالح، وهي عبارة عن مقابر منحوتة في الصخر، وتمثل حضارة ثمود قوم نبي الله صالح، عليه السلام. وتبلغ مساحة المنطقة الأثرية 13.39كم، وتضم هذه المساحة آثارًا قائمة وأخرى تنتظر الكشف عنها تتمثل في أماكن العبادة والنقوش الصخرية من آثار ثمودية، ولحيانية، ونبطية. ويبلغ عدد المدافن بمدائن صالح 131 مدفنًا، وأنشئت جميعها في الفترة من العام الأول قبل الميلاد إلى عام 75 ميلادية، والخريبة وبها محلب الناقة، وهو عبارة عن حوض كبير منحوت من صخرة عظيمة. ويقال إن ناقة صالح، عليه السلام، كان يحلب لبنها فيه وكما ورد في القرآن الكريم }قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم{«الشعراء: 155».
بيد أن علماء الآثار أجمعوا على أنه لا يعدو كونه بقايا معبد نبطي قديم وليس محلبًا لناقة النبي صالح، عليه السلام، ومقابر الأسُود.. وأطلق عليها هذا الاسم لوجود حيوانات تشبه الأسود نحتت على واجهات المقابر، وجبل عكمة، وفي أعلاه يوجد معبد قديم، ومحطة السكة الحديدية التي قام بإنشائها السلطان العثماني عبدالحميد الثاني في أوائل القرن العشرين لنقل الحجاج من دمشق إلى المدينة المنورة، والمزحم، وهو عبارة عن ممر ضيق يقال إنه المكان الذي عقرت فيه الناقة، والحوارة، وهو جبل كبير أملس قيل إنه خرجت منه ناقة صالح ولجأ إليه حوارها بعد عقرها، وقلعة الحجر الإسلامية التي ورد ذكرها في رواية المقدسي، وقد بناها العباسيون عام375هـ 985م كاستراحة لحجاج بيت الله الحرام، وقلعة موسى بن نصير آنفة الذكر، وقد أنشأها القائد المسلم موسى بن نصير على جبل شاهق وسط مدينة العلا، وأطلال البلدة القديمة التي تسمى بالديرة، وهي بقايا لأبنية طينية وحجرية تتسم بروعة الإنشاء والهندسة المعمارية تعود إلى القرنين السابع والثامن الهجريين.
وتتميز العلا بجمال طبيعي خاص تكاد تنفرد به، وقلما تجد له مثيلاً في العالم.. فجبالها تشكلت بأشكال غريبة أشبه تارة بناطحات السحاب وتارة أشبه بالعمالقة وتارة تكون أشبه ما تكون بتضاريس كوكب من كواكب أفلام الخيال العلمي. كما أن العلا تزخر بالمناطق والمواقع السياحية غير ما ذكرنا تستحق الزيارة مثل مداخيل، وهي متنزهات برية فائقة الجمال، والهوية وهي منخفض جبلي سحيق يقع شرق مدينة العلا، ومتنزه الملك عبدالعزيز، وهو من مشروعات اللجنة الأهلية للتنشيط السياحي ويقع بأعلى حرة عويرض، ويطل على مدينة العلا، ويمتاز ببرودة الجو في الصيف، والقطارة وهو نبع مائي على مدار السنة يقع داخل جبال العلا الجنوبية، ويتميز بالتكوينات الصخرية والجبلية المدهشة، والورد وهو من أعلى الجبال في شمال غرب المملكة العربية السعودية لدرجة أنه في الشتاء ربما غطت الثلوج قمته في بعض الأحيان، وشرعان.. جبال شاهقة بأشكال فريدة وأشجارها وارفة ودائمة الخضرة، والطنطورة أو المزولة الشمسية، وهو بناء حجري هرمي بني بدقة يستخدم كمزولة شمسية لمعرفة الفصول ودخول مربعانية الشتاء، والمابيات، وهي آثار مدينة إسلامية تعود للعهد العباسي وتقع جنوب العلا.