وقفة مضيئة
من سيرة الرسول
د.رفيق السامرائي
جامعة الأمير محمد بن فهد، الخبر
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
إن نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هو أحد التنظيمات لبناء المجتمع المدني، وللتغلب على المشكلات الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية، فهي من أخطر المراحل التي واجهت المهاجرين بالمدينة. فكان لا بد من الاستقرار النفسي، والسياسي، والاقتصادي، ليكون المسلمون أكثر ثقة، وأكثر جدارة لحمل الدعوة الإسلامية، وتوسيع نفوذ الإسلام.
ولقد أشار القرآن الكريم إلى مدى تعاون الأنصار وإيثارهم بقوله:
}وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَـان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَــــــئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{ «الحشر: 59».
لقد أحسن الأنصار إلى المهاجرين، وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم، فلا يجد الأنصاري في صدره حرجًا أو حسدًا وغيظًا، بل طابت أنفسهم بذلك، وقدموا المهاجرين على أنفسهم في حظوظ الدنيا ولو كانت بهم حاجة وفقر (1).
عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه، للإخوة التي آخى النبي، عليه السلام، بينهم (2).
ولعل من أعظم صور الإيثار التي سجلها الصحابة الكرام، وهي صورة مذهلة لا أظن لها مثيلاً في تاريخ الإنسانية ولا يكون، إلا ما رحم ربي، وهي قول سعد بن الربيع لعبدالرحمن بن عوف: إني أكثر الأنصار مالاً، فأُقسم مالي نصفين، ولي امرأتان، فانظر أعجبها إليك فسمِّها لي أطلِّقلها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلُّوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضلٌ من أقط وسمن... الحديث(3).
يبين الحديث أن كرم سعد بن الربيع، الذي لا مثيل له، تقابله روعة عبدالرحمن بن عوف في عدم استغلال أخيه، ما يدل على نقاء السريرة، وسلامة الطبع، والعزيمة القوية التي دفعته إلى البيع والشراء ليصبح، بعد ذلك، من أغنياء الصحابة. بهذا التآخي فقد تغلب مجتمع المدينة على سائر الصعوبات الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية.
أضف إلى ذلك أن ربط المهاجرين بالأنصار كان انطلاقًا من العقيدة الإسلامية، وأن التفاخر بالأنساب والعشيرة لم يُعد شأنه قويًا في المجتمع المدني، القائم على التضحية والإيثار، انطلاقًا من عقيدة التوحيد، كما أسلفت.
وبذلك، فالولاء لله ورسوله، والتضحية في سبيل نصرة دينه وإعلاء كلمته، وليس لنصرة الدم والعشيرة والحمية.
ومن خلال نظام المؤاخاة لا بد من الشعور الدائم بأن المؤاخاة باقية لم تنسخ، سوى ما يترتب عليها من توارث، فإنه منسوخ، وبوسع المؤمنين في كل عصر أن يتآخوا بينهم على المواساة، والارتفاق، والنصيحة، وتترتب على مؤاخاتهم حقوق أخص من المؤاخاة العامة بين المؤمنين (4).
فحريٌ بالمجتمع العربي والإسلامي أن يستلهم من هذه الوقفة العظيمة ليتعلم معنى التكافل الاجتماعي والأخوة الصادقة، خصوصًا إذا عرفنا ما تعيشه المجتمعات اليوم من مصاعب ونكبات تنزل بالناس، الأمر الذي يستدعي تكثيف الجهود في معاني الإخاء والمودة والرحمة بالناس.
ومن هنا وجب استشعار حق الأخوة في السراء والضراء، فيكون المؤمن لأخيه المؤمن كالبنيان المرصوص.
يقول عليه السلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا».
إن أخوة الدين تفرض على الناس التناصر بينهم، يقول، عليه السلام،: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، قيل: أنصره مظلومًا فيكف أنصره ظالمًا؟ قال: تحجزه عن الظلم، ففي ذلك نصره».
إن نظرة الأخ لأخيه بنظرة استغراب، وتنكر، واستعلاء، تؤدي، لا محالة، إلى الخذلان والعار، وقد حذر الإسلام من ذلك كله، فقال عليه السلام: «ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله ولا يحقره... الحديث» رواه مسلم.
إن مجتمع المدينة النبوية الذي احتضن المهاجرين والوافدين، ما جعل صدور الأنصار لا تجد الحرج، بل تجد الإيثار على النفس من أجل الجماعة، وهذه هي علامة الإخاء الصحيح، إخاء العقيدة الخالصة لوجه الله تعالى، فليس إخاءً من أجل أهداف دنيوية أو مصالح شخصية... إلخ.
وكم نحن اليوم بحاجة ماسة إلى الوقوف على سيرته، صلى الله عليه وسلم، لأن من مزايا الإنسان أن ينمو فيه غذاء الروح والعقل، مثلما ينمو جسده بالطعام والشراب، بل إن روح الإنسان وعقله أكثر أهمية، وإلا فسيتحول الإنسان إلى آلة صماء قاتلة، لا يفهم ما حوله سوى المادية، وبالتالي سيقع في الانهزامية النفسية، متمردًا على القيم، ومغلبًا الجوانب المادية على الجوانب الروحية.
والله يقول الحق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
الهوامش:
(1) تفسير الشوكاني «5/261».
(2) صحيح البخاري «فتح الباري» «8/247» برقم «4580».
(3) صحيح البخاري «فتح الباري» «7/112» برقم «3780».
(4) انظر: المجتمع المدني، أكرم العمري ص «80».