June2010Banner


رحلة إلى الصحراء

قبل عشر سنوات دار حديث بيني وبين زميلي في مجلس الشورى د.زياد السديري عن مدى اهتمام الغربيين المقيمين في المملكة بالسياحة في بلادنا وإقبالهم عليها، وكان أجدر بنا أن نكون أكثر منهم خروجًا إلى الطبيعة بمظاهرها المتعددة، وبخاصة الصحراء. وكان في ذهني آنذاك تجربة د.س. إليو الأمريكي رئيسي والمشرف عليَّ في مستشفى أرامكو بالظهران، يوم أن كنت أذهب إليه للتدريب الصيفي وأنا طالب في كلية الطب. كان ينطلق مع زوجته وأطفاله عصر يوم الخميس من كل أسبوع بسيارتهم اللاندروفر إلى الصحراء، يضربون خيمتهم فيها ويفترشون الرمل ويلتحفون السماء، ولا يعودون إلا صباح السبت، هو إلى عمله في المستشفى، وأبناؤه إلى مدارسهم. كثيرًا ما حدثني د.إليو عن هذه الرحلات البرية وما كان يجد فيها هو وأسرته من متعة جسدية ونفسية قلما وجدوها في حياة المدينة. وبعد أن تقاعد د.إليو عن العمل في أرامكو، زرته في بيته بأمريكا، بيت أنيق يقوم على تل في ضاحية من ضواحي مدينة بالتيمور، يطل على بحيرة وتحيط به غابة شاسعة، جنة من جنان الله في أرضه، ومع هذا وجدته هو وعائلته يحنون إلى الأيام الخوالي، أيام صحراء النفوذ والدهناء. ويتمنون لو عادوا إليها.

ناقشت مع الصديق د.زياد السديري فكرة تنظيم رحلة قصيرة إلى الصحراء، يشارك فيها بعض الزملاء من مجلس الشورى. وتحمس أخي زياد للفكرة، فهو عاشق للصحراء، ولا يوازي اهتمامه بتربية الخيول والهجن إلا اهتمامه بالصيد بالصقور. وسرعان ما نظم رحلة لبضعة أيام إلى البر، جمعت لفيفًا من الزملاء من أعضاء مجلس الشورى. ثم أصبح دأبه في كل عام أن ينظم هذه الرحلة القصيرة، قوامها المبيت لليلتين أو ثلاث في الصحراء والسير فيها لمسافة لا تقل عن 20 كيلو مترًا، والخيار لمن يرغب في قطعها سيرًا على الأقدام أو على ظهور الهجن أو بالسيارات.
على مدى عشر سنوات ظل د.زياد ينظم هذه الرحلة السنوية الصحراوية، يشارك فيها لفيف من أعضاء مجلس الشورى، ويتكفل هو مشكورًا بجميع متطلباتها، يعينه في تنظيمها الزميلان د.عبدالرحمن الشبيلي واللواء متقاعد عبدالقادر كمال.
في هذا العام في عصر يوم مشمس من شهر فبراير انطلقنا من الرياض في رتل من السيارات يقل 15 زميلاً من أعضاء مجلس الشورى من السابقين والحاليين، غربًا في اتجاه مدينة الغاط ومنها توغلنا في صحراء النفوذ، حيث انتهينا إلى «عريق البلدان» منطقة في قلب الصحراء اخضرت واعشوشبت بعد نزول المطر، وانتشرت فيها نباتات الخزامى والحسك والحوزان. وجدنا في انتظارنا خيامًا ضربت لنا للمبيت، وبيتًا من الشعر أوقدت في ساحته نار اصطفت عليها أباريق الشاي ودلال القهوة، التففنا حولها نتسامر. السماء صافية والسكون مخيم، وضوء القمر يلف الصحراء بغلالة من الرهبة والجلال.
دار الحديث، والحديث ذو شجون، حول قضايا الساعة والوضع الاقتصادي، ومستقبل التعليم والصحة, وهطول الأمطار, وانحسار البادية. كل أدلى بدلوه. ثم انتهى بنا السمر إلى حديث العواطف والقلوب، وراح أحد الزملاء ينشدنا مقولة بدوية طلقت من زوجها، غير أن الشوق والحنين يتجاذبانها إليه:

يا عين هلي صافي الدمع هليه
يا عين شوفي زرع خلك وراعيه
وإن مرني بالدرب ما أقدر أحاكيه
اللي يبينا عيت النفس تبيه
وإلي قضى صافيه هلي سريبه
هذي معاويده وهذي قليبه
مصيبة يا كبرها من مصيبة
واللي نبيه عيا البخت لا يجيبه



وتطرق الحديث، كما يتطرق عادة في مجالس الشيوخ إذا أمنوا إلى من حولهم، إلى تعدد الزوجات، فانقسم الشيوخ إلى ثلاثة أقسام: قسم مع.. وقسم ضد.. وقسم لا أدري. ولأن الأحاديث أمانات، فلست مخولاً بالتصريح بالأسماء، وإلا حدثت مصائب أكبر من مصيبة بدويتنا سالفة الذكر.
في الصباح الباكر بعد أن صلينا الفجر و«تقهوينا» انطلقنا مع شروق الشمس إلى محطتنا التالية على بعد 12 كيلومترًا للراحة وتناول طعام الإفطار. أبى علينا مضيفنا، على الرغم من كرمه البالغ، إلا أن يتقاضى منا ثمن الإفطار 12 كيلاً نمشيها في صحراء النفوذ. نصعد نجادًا ونهبط وهادًا، سماها مضيفنا رياضة الصباح، وسماها بعضنا ضريبة إفطار. بيد أن الشمس الدافئة، وجمال الطبيعة من حولنا، والصحراء المترامية الأطراف، وكثبان الرمل يأخذ بعضها برقاب بعض، والأحاديث الشجية، أنستنا عناء السير، أما العواجيز منا فقد راوحوا بين السير على الأقدام وركوب السيارات.

مثل هذه الرحلات لا تكتمل متعتها إلا بالمفاجآت، ومن هنا فقد أعد لنا مضيفنا مفاجأة. نحن أبناء الحضر، يا رعاك الله، لم ير بعضنا في حياته صقرًا أو نسرًا إلا في حدائق الحيوان، ولم نعلم ما صيد البر إلا من خلال الكتب أو الأفلام، فلِمَ لا ينظم لنا مضيفنا مشهدًا حيًا من مشاهد الصيد؟ بعث من أحضر أربعة من الصقور وكلبين سلوقين ومجموعة من الحباري والأرانب. بدأ المشهد بإطلاق بعض الحباري ومن ورائها أطلقت الصقور، راوغت الحباري ما شاءت لها المراوغة، طارت يمنة ويسرة في محاولة يائسة للنجاة، ولكن الصقور سرعان ما انقضت عليها واحدة بعد الأخرى، وأسرع «الصقار» فذكى الحباري تاركًا منها شيئًا للصقور. وجاء دور الكلبين السلوقين، انطلقا وراء أرنب فكت من إسارها فراحت تجري مذعورة هنا وهناك، راوغتهما برهة من الزمان، ولكن سرعان ما أطبقا عليها. مشاهد لم نألفها، فكنت تسمع همهمات الأسى منا على الفرائس، وكأني بنا نسينا أو تناسينا أن الإنسان لهو أشد قسوة على أخيه الإنسان، يمارس العدوان من أجل العدوان أو لمزيد من الثروة أو الجاه أو السيادة.

عشنا يومين في الصحراء بما فيها من رومانسية وحياة متقشفة، زميل ظل ليلته ساهدًا لأن مضجعه كان خشنًا صلبًا، وزميل آخر علقت سيارته في كثيب فلم نخرجها إلا بشق الأنفس، وغيرهما لم يمش في حياته كيلاً فمشى 10 أكيال. ستظل ذكرى الأيام الجميلة التي قضيناها في «البر» عالقة بأذهاننا، وسنحكيها لأبنائنا وأحفادنا، علها تستثير خيالهم فينطلقون إلى الصحراء يمضون فيها أيامًا من العمر.