الغذاء في القرآن الكريم
آيات للمؤمنين
من أعظم المسائل التي أوردها القرآن، أن من كمال الله، تعالى، أنه، سبحانه، المطعم لعباده.
• د.محمد بن عثمان الركبان
أستاذ مشارك واستشاري طب الأسرة
كلية الطب، جامعة الملك سعود
لم يكن ذكر الغذاء وبعض أنواع الطعام في القرآن أمرًا عابرًا بلا مقاصد أو أسباب، بل هو من القضايا التي لا بد للمسلم من الوقوف عندها، وتدبر معانيها، وفهم مراميها، فالله، جل وعلا، لم يذكر شيئًا في كتابه عبثًا، وإنما أورده لحكم ومقاصد قد يفهمها الناس، وقد يستعصي على بعضهم ذلك، قال تعالى: }ما فرطنا في الكتاب من شيء{، الأنعام: 38.
|
|
|
|
لقد جاء في القرآن العظيم ذكر أنواع المأكولات والمشروبات، وذكر بعض فوائدها وقواعد تناولها. كما جاءت نصوص كثيرة للدلالة على الإعجاز في تركيبها، وإن من أعظم المسائل ذات العلاقة بالطعام، والتي أوردها القرآن، الإشارة إلى أن من كمال الله، تعالى، أنه، سبحانه، المطعم لعباده، وهو غني عن ذلك، قال تعالى: }قل أغير الله أتخذ وليًا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم{. الأنعام: 14.
كما ورد في القرآن والحديث عن أصل حدوث النبات وكيفية تكونه وبداية نشأته، قال تعالى: }وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرًا نخرج منه حبًا متراكبًا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان متشابهًا وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون{ الأنعام: 99، فأبان، سبحانه، أن أصل حدوث النبات «الخضر» أو ما يُعرف بالـ«يخضور» الذي يقوم بعملية التمثيل الضوئي الغذائي، وينتج عنه الزرع والثمر المتراكب، والنخل ذات العذوق الدانية القريبة من متناول اليد، ويخرج لنا منها، كذلك، العنب، والزيتون، والرمان، وأما معنى أنها متشابهة وغير متشابهة، فهذه الثمار متشابهة في الشكل والورق، وقريبة من بعضها بعضًا، لكنها مختلفة في الثمار طعمًا وشكلاً كما قال قتادة، فأين الناظر إلى تلك الثمار اليانعة الناضجة والمتدبر في روعتها؟
وبين تعالى بعض آياته في النبات والثمار قائلاً: }وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون{، الرعد: 4.
فإن من النباتات ما هو صنوان أي ذات الأصول الواحدة المجتمعة في منبت واحد كالرمان والتين وبعض النخل، ومنها ما هو غير صنوان أي متفرقة وليست على أصل واحد كسائر الأشجار، وهي مع ذلك تغذى بماء واحد، والحاصل اختلاف الشكل والطعم، فمنها، كما قال، صلى الله عليه وسلم: «الدقل، والفارسي، والحلو، والحامض». رواه الترمذي.
قال ابن كثير - رحمه الله: هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع، في أشكالها، وألوانها، ومذاقاتها، وروائحها، وأوراقها وأزهارها، مع أنها كلها تستمد من طبيعة واحدة وهو الماء، مع الاختلاف الكثير الذي لا ينحصر ولا ينضبط، ففي ذلك آيات لمن كان واعيًا، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد، ولهذا قال تعالى: }إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون{.
من الصور التي أوردها القرآن في الحديث عن الغذاء، الحديث عن بعض أنواعه، من باب تكرم الله، سبحانه، على عباده بهذه النعمة، قال تعالى: }يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون، الذي جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون{، البقرة: 21-22.
أي إذا علمتم ذلك، وشعرتم به، ورأيتموه، لا يستساغ أن تشركوا مع الذي أنشا ذلك أحدًا، فهو المستحق للعبادة وحده دون سواه.
وشكر الله، تعالى، على نعمه من أسباب حفظها وانتشارها، وجحودها ونسبتها إلى غير منعمها من أسباب زوالها وتحولها، قال تعالى: }أفريتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطامًا فظلتم تفكهون، إنا لمغرمون، بل نحن محرومون{، الواقعة: 63-67. فلو شاء الله لجعل زروعنا، حطامًا فلا تثمر ولا تنفع.
وذكر، تعالى، في كتابه صنوفًا من الغذاء، منها ما هو من أصل النبات كالتين، والزيتون، والرمان، والنخل، والفوم، والعدس، والبقل، والبصل، واليقطين... وغيرها، ومنها ما أصله من الحيوان كاللحم، والعسل، واللبن... وغيرها. فالحيوانات من النعم التي يسرها الله، تعالى، للإنسان لفوائد جمة ومنافع كثيرة، فمنها الأكل والحمل والتدفئة... وغيرها، قال تعالى: }والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم{، النحل: 5-7.
والأسماك في البحر مما سخر للإنسان يتمتع به ويتغذى عليه، قال تعالى: }وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحمًا طريًا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها{، النحل: 14. وقال، صلى الله عليه وسلم، عن البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته». رواه النسائي، وأبوداود، وابن ماجة، وأحمد، وفي ملوحة البحر حفظ له، ودفع لتلوثه ونتنه، وفيه من المخلوقات ما لا يستطيع العيش في خلافه وإن كان ماءً، وفي هذا حكمة عظيمة، ولو كان الله يريده عذبًا لأصلح الله به ولم يضر، فسبحان من هيأ لعباده مصالحهم.
وفي خروج اللبن ونشأته بين اللحم والدم آية عظيمة ودلالة كبيرة على الخلق والإعجاز، قال سبحانه: }وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين{، النحل: 66. وهذا العسل الذي أخرجه الله تعالى من بطون النحل بآلية عجيبة، وبألوان متعددة، آية من آيات الله في القدرة والإبداع، قال تعالى: }وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون{ النحل: 68-69. فالمتفكر والمتدبر يعلم أن اختلاف ألوان العسل من اختلاف غذائها، وأن الشفاء الحاصل من العسل ربما عاد إلى اختلاف مطعمها، وكونها تسلك السبل لجمع النافع من المواد وتهيئته وإنتاجه بطريقة لذيذة مستساغة.
أما الشجرة المباركة ذات الدهن المفيد، فقد سبق القرآن العلم الحديث إلى الإشارة إليها، والدلالة على الانتفاع بها، ألا وهي شجرة الزيتون وزيتها النافع، وفي ذلك يقول، المولى جل، ذكره: }وأنزلنا من السماء ماءً بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون، فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون، وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين{. المؤمنون: 18-20. والصبغ هو الأدم، لذا قال، صلى الله عليه وسلم: «ائتدموا بالزيت وادهنوا به، فإنه يخرج من شجرة مباركة»، رواه الترمذي، وابن ماجه، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
وما أرشد المولى إليه في جانب الطعام، الدعوة إلى التوازن وعدم الإسراف، وهو محل اتفاق بين علماء الاختصاص، على أن ذلك من أسباب الكمال في الصحة، قال تعالى: }وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين{. الأعراف:31. فسبحان من هيأ لعباده هذه المطاعم والمشارب، وأسبغ عليهم من فضله، وزادهم من نعمه، ونوع لهم من رزقه.