متحف السلط
علم الآثار في البيئة الطبيعية
يعرض قطعًا أثرية لعصور تمتد من العصر الحجري النحاسي إلى الفترات الإسلامية المتأخرة.
• عَمّان: اهلاً وسهلاً
أقيم متحف السلط ليكون متحفًا إقليميًا شاملاً لمنطقة البلقاء، لما تحتويه هذه المنطقة من بيئة جغرافية متنوعة، تم تكييفها واستعمالها من قبل الناس على مختلف العصور، ولذلك فإن معروضات المتحف مرتبة زمنيًا طبقًا للمحور العام «علم الآثار في البيئة الطبيعية».
|
|
|
|
تمت إقامة المتحف في بيت طوقان الذي يعد من أبرز البيوت التراثية المتميزة في السلط، فقد بني البيت في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي منذ حوالي 100 سنة لعائلة طوقان، كما استخدم في الماضي مدرسة، وبعد أن قامت بلدية السلط بترميمه تم تحويله إلى متحف للآثار. تم تأسيس المتحف عام 1983 ويضم مجاميع القطع الأثرية الواردة للمتحف من الحفريات الأثرية التي أجريت في مختلف مناطق محافظة البلقاء.
وبحسب سعد الحديد، مدير آثار السلط، فالمتحف يضم عددًا من القطع الأثرية الفخارية، والزجاجية، والمعدنية تمتد من العصر الحجري النحاسي حتى الفترات الإسلامية المتأخرة. ويتكون المتحف من أربع قاعات عرض، كل قاعة تمثل بيئة معينة هي: أولاً بيئة الدولمن، وثانيًا المعابد والمدن، وثالثًا من الحصون إلى القرى، ورابعًا البيئة الريفية.
وقد تنوعت طرق العرض في المتحف لتشمل لوحات معلوماتية مُصورة تتحدث عن حقب ومواقع ومواضيع أثرية مختلفة، وصورًا تعود للقرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عن المستكشفين الأوائل، وخزائن عرض تحتوي قطعًا من مواقع التنقيب ضمن منطقة البلقاء. كما يحتوي على خريطة تبين المواقع الأثرية المعروفة في منطقة البلقاء, ولوحة تعرض بشكل مفصل التسلسل التاريخي الذي عاشته المنطقة، وتبين أبرز الأحداث التي حصلت في هذه الفترات. وتم تخصيص أماكن لعرض تطورات أعمال الحفريات الأثرية ومتغيراتها.
الفخار.. والزجاج
ويبين الحديد أن القطع المعروضة في المتحف صنعت من مواد خام متوفرة في البيئة المحيطة, حيث إن معظمها ارتبط بالحياة اليومية، وبالنسبة للقطع الأخرى الغريبة التي عثر عليها في المنطقة يرجح أنها كانت بمنزلة مواد ثمينة مرتبطة بالطقوس والمعتقدات التي كانت سائدة في تلك الفترات، أو بمنزلة زينة شخصية أو أسلحة.
ومن خلال دراسة هذه القطع يلاحظ التطور في استخدام الخامات الطبيعية، حيث استخدم الطين في صناعة الفخار، وكان يشكل إما باليدين أو بوساطة الدولاب، ثم يحرق بالفرن ليصبح أكثر صلابة، وكانت الأواني الفخارية تستخدم لإعداد الطعام، أو أكله، أو خزنه.
كما يحتوي المتحف على قطع من الفخار المزجج «الفاينس»، وهي عبارة عن مادة مكونة من حبيبات بلورية، وسطحها مغطى بطبقة مصقولة. وقد استخدم «الفاينس» في مصر منذ 500 عام تقريبًا لعمل الخرز وزينة الأعناق، ثم استخدم في فترة لاحقة لعمل الأباريق والأواني الصغيرة. أما الأواني الزجاجية فكانت تصنع بإذابة مزيج من الحبيبات الرملية «سيليكا»، والبوتاس، والصودا، والجير.. وكل هذه المواد كانت متوفرة محليًا.
المعادن.. والحجارة
وبحسب الحديد، فقد بدأ استعمال النحاس بكثافة منذ ما يقارب من 6000 عام، فعملت منه الأدوات المختلفة والحلي. وكان يجلب النحاس من أقرب مناجم النحاس في وادي فينان جنوب الأردن، كما استخدم البروز والذي كان يصنع من مزج النحاس بالقصدير، الذي يرجح أن مصدره تركيا، ويتميز البرونز بأنه أكثر صلابة من النحاس، لذلك كان يستخدم في نصول الخناجر ورؤوس السهام.
وكان الاكتشاف الصناعي المهم التالي هو إنتاج الحديد الذي ما لبث أن صهر مع الكربون لعمل الفولاذ الأكثر صلابة وحِدَّة, ومنذ سنة 1200 ق. م تقريبًا صارت الأدوات ومعدات الزراعة والأسلحة تصنع من الفولاذ. واستخرج الحديد في هذه المنطقة من مغارة الوردة القريبة من منطقة عجلون. هذا ويعد «تل الحمقة» في غور الأردن من أقدم المراكز المعروفة في الشرق الأوسط لتصنيع الحديد، أما الذهب والفضة اللذان استعملا في صياغة المجوهرات فكانا يجلبان في الغالب من مصر، وتركيا.
كما استعملت أنواع مختلفة من الحجارة لعمل بعض الأدوات, اعتمادًا على مكوناتها، حيث تتوفر في المنطقة الحجارة البازلتية, وكانت تنقش من هذه الحجارة أواني الزبادي والمباخر، كذلك توفرت الحجارة الصوانية والتي استخدمت في عمل العديد من الأدوات، ويلاحظ على بعض قطع «الألابستر» المعروضة أنها مصنوعة من الجبس الذي يتوفر حول منطقة البحر الميت، أما «الألابستر» الحقيقي فكان يستورد من مصر, وفي عصور لاحقة تم استيراد الرخام من اليونان، وتركيا، وإيطاليا، بينما جلب الحجر الصابوني (Steatite) من اليمن.
بيئة الدولمن
وبحسب الحديد فإن المتحف يوثق لحقبة تاريخية عاشت في المنطقة اشتهرت باسم «الدولمن»، وهي كلمة تعني طاولة حجرية، وهي عبارة عن نصب حجري يتألف من أربع كتل حجرية منصوبة بشكل عامودي تعلوها كتل أفقية ضخمة، وأحيانًا توجد فتحة ضيقة عند أحد طرفيه للولوج إلى الداخل، ومن هنا يمكن تخيل مدى صعوبة حمل هذه الكتل الثقيلة ونقلها إلى أماكنها، حيث يزيد وزن كل واحدة منها على عدة أطنان.
وكان يعرف بيت الدولمن بـ«بيت الغول»، حيث كان يعتقد بأن العمالة فقط هم القادرون على بنائه, وتشير الدلائل الأثرية إلى أن الدولمن استعمل غرفة للدفن، إذ احتوت بعض النماذج على غرف حفرت تحت مستوى الأرضية وخصصت للدفن، وفي نماذج أخرى عثر على بقايا جثث محروقة، هذا وكانت تدفن مع الميت بعض أغراضه الشخصية.
وتوجد في الأردن المئات من حقول الدولمن، هذا وتتركز أهم الأمثلة عليها في إقليم البلقاء في مناطق دامية، والروضة، والديمة. وتتألف هذه الحقول في العادة من مجموعات يزيد عدد كل واحدة منها على مئة نصب. ومن الصعب تحديد تاريخ معين لهذه المعالم، لأنه أعيد استعمالها عبر القرون، ولكن يحتمل بأن عمرها يبلغ حوالي 5000 سنة.
من الحصون إلى القرى
وبحسب الحديد فإن منطقة البلقاء وقعت قبل ما يزيد على 2000 سنة بين حدود دولتين متنافستين هما مملكة الطالمة التي كان مركزها في مصر، والإمبراطورية السلوقية التي امتدت حدودها من ساحل تركيا إلى الهند وضمت المناطق الشمالية من سوريا، فتبعت البلقاء أولاً البطالمة, ثم لاحقًا السلوقيين. وفي هذه الفترة شكلت البلقاء جزءًا من المقاطعة التي عرفت باسم بيريا (Peraea). وبعد سقوط الدولة السلوقية أخذت قوى أخرى في الظهور النشط لتعبئة الفراغ.
تتكون معظم الأبنية المعروفة في هذه الفترة من الحصون، وقد عثر بالقرب من شواطئ البحر الميت على أبنية فخمة وحمامات بالإضافة إلى ميناء، كما عثر في منطقة تلول الذهب الغربي على بناء مستطيل محاط بأعمدة أسطوانية، ولا يعرف على وجه التحديد هل كان يستخدم معبدًا أو جزءًا من تحصينات.
وفي العصور الرومانية والبيزنطية عرفت السلط باسم «جادورا». وقد تم الكشف عن حمام يعود لهذه الفترة تحت مركز السلط الثقافي، كما عثر في موقع الكنيسة الأنجليكانية على مجموعة من الحمامات. هذا ولا تزال بقايا الشوارع المبلطة والأبنية العامة والمعابد مدفونة تحت الطرق والمباني الحديثة.
امتلاك ناصية الطاقة المائية
ويؤكد الحديد أنه منذ ما يقارب 1000سنة أو ما يزيد قليلاً طرأ تطور مهم على طريقة طحن الحبوب لإنتاج الطحين، حيث استعملت قبل ذلك الرحى اليدوية والطواحين التي تديرها الدابة، لكن ما لبث أن تم التوصل إلى اكتشاف شبيه بذلك الذي استخدم في جرْش السكر، والذي كان أكثر فعالية من الأساليب السابقة، وأكثر ملاءمة للبيئة، حيث زاد من الطاقة الإنتاجية المتوفرة من كميات محدودة من المياه الجارية. هذا وكانت المياه تجلب من وادي يقع على بعد مئات الأمتار عن المطحنة، حيث كانت تسيل عبر قنوات ضيقة حفرت في سفوح الوادي، ورتبت الطواحين على شكل سلسلة بحيث يمكن إعادة استعمال المياه المتدفقة من طاحونة إلى أخرى تقع أسفلها في السلسلة، وكان لكل مطحنة «غرفة الطحن» التي توضع فيها حجارة الطحن، هذا ولم يبقَ حاليًا من هذه المطاحن سوى الأبراج وحجارة الطحن.
طرق المواصلات
ووفق الحديد، فيعرض المتحف كيف ساهمت طرق المواصلات في تغيير الريف في منطقة البلقاء قبل ما يقارب من 200 عام، حيث أقيمت شبكة من الطرق الدائمة أشرف مساحون مدربون على اختيار مساراتها، الذي كان يحبذ أن يكون في الغالب مستقيمًا بقدر الإمكان، وكان سطح الطريق يرصف بالحجارة بين حاجزين جانبيين، وبإقامة هذا الطريق ارتبطت المدن بالقرى وصار بإمكان الجيوش والتجار والمسافرين التنقل بسهولة مهما كانت الظروف الجوية. وكان معظم السكان يتنقلون مشيًا على الأقدام، أو يركبون عربات بعجلتين، أو أربع عجلات تجرها الخيول، أو الثيران، أو الجمال.
ورافق إنشاء الطريق إقامة محطات استراحة على مسافات منتظمة لتزويد المسافرين ودوابهم بالغذاء، كذلك نصبت حجارة الأميال لبيان المسافات التي كانت تقاس بالخطوات، بحيث تبلغ المسافة بين حجر ميلي وآخر 1000خطوة، ونقش على هذه الحجارة بكتابة لاتينية اسم الإمبراطور الذي أمر بتعبيد الطريق أو إصلاحه، بالإضافة إلى التاريخ والمسافة من وإلى أقرب مدينة.
وكان يمتد من الشمال إلى الجنوب بمحاذاة غور الأردن طريق يقع على مسافة بضعة كيلومترات من الطريق الحالي، بينما امتد طريق آخر من الشرق إلى الغرب من حسبان عبر الرامة «ليفياس» إلى القدس، ويغلب على الاحتمال بأن طريقًا ثالثًا كان يمتد من الشرق إلى الغرب من وادي الزرقاء مرورًا بـ«جادورا، جادور» السلط وضرار «القريب من تل ديرعلا» وانتهاءً بنابلس غربًا.
هذا ويعرض المتحف العديد من جوانب الحياة المختلفة التي عاصرتها محافظة البلقاء على مر العصور بمختلف وسائل العرض، ليكون سجلاً لتاريخ هذه المنطقة، فهو غني بالمعروضات والصور للمواقع الأثرية التي تمثل التراث الحضاري لمحافظة البلقاء بشكل خاص والأردن بشكل عام.