الرحلات من أوسع أبواب المعرفة والثقافة الإنسانية، لكشف المجهول، والوصول إلى الغاية، ومعرفة الحقيقة والاستمتاع بالتاريخ، والآثار، والطبيعة، والحياة، ولقد فطر الله الإنسان على البحث المستمر عن الحقيقة ومعرفة ما تزخر به الحياة، وحب المعرفة والاستطلاع، والتعرف على هذه الدنيا ومظاهر الحياة فيها، وتردد الكثيرون على الأسفار وعشقوا الرحلات ولم يبالوا بالأهوال والأخطار. ويوجد آخرون لا يحبون الأسفار، وما يصاحبها من متاعب، وأهوال، وعنت، وإرهاق. وأورد على سبيل المثال قصيدتين حول ذلك.. |
ومن ذلك قول الإمام الشافعي: |
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد |
تغرب عن الأوطان في طلب العلا |
وعلم وآداب وصحبة ماج |
تفرج هم واكتساب معيشة |
وقطع فياف وارتكاب الشدائد |
فإن قيل في الأسفار ذل وغربة |
بدار هوان بين واش وحاسد |
فموت الفتى خير له من حياته |
ويقول أبو تمام: |
لديباجتيه فاغترب تتجدد |
وطول مقام المرء في الحي فحلق |
إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد |
فإني رأيت الشمس زيدت محبة |
ويقول الشاعر المبدع عبدالله بلخير: |
فيها من العلم والعرفان ألوان |
في الذكريات وفي الترحال أشجان |
كما أورد قصيدة أخرى يعارض صاحبها الأسفار وما يصحبها من المتاعب للطرطوشي، ومن ذلك قوله: |
نجاة ففي الأسفار سبع عوائق |
تخلف عن الأسفار إن كنت طالبا |
وتشتيت أموال وخيفة سارق |
تفكر إخوان وفقد أحبة |
وأعظمها يا صاح سكنى الفنادق |
وكثرة إيحاش وقلة مؤنس |
وعلم وآداب وصحبة فائق |
فإن قيل في الأسفار كسب معيشة |
وأعقبه دهر كثير العوائق |
فقل كان ذا دهرا تقادم عهده |
وجرب ففي التجريب علم الحقائق |
وهذا مقالي والسلام مؤبد |
وقد قال النابغة الذبياني في قصيدته التي يصف فيها المتجردة: |
ببقاء نفس المستهام إلى غد |
قالوا غدًا يوم الرحيل فمن لهم |
وعارضه البارودي ببيت مماثل من قصيدة مماثلة بقوله: |
رباه لا تدن إليّ ضحى غد |
قالوا الرحيل ضحى غد فأجبتهم |
وهذا كعب بن مالك يقول: |
فيها لغيرك مرتاد ومرتحل |
إن كنت تعلم أن الأرض واسعة |
إلا ليسلك منها السهل والجبل |
فارحل فإن بلاد الله ما خلقت |
وإن نأى منزل بي كل لي بلد |
إن ضاق بي بلد هيا له عوضا |
ويقول شاعر المهجر رشيد أيوب: |
فجاش لهيب الشوق في مطلع السر |
تذكرت أوطاني على شاطئ النهر |
ونختم القول بما قاله أبو عبدالله النحوي حيث كان في سفر من أسفاره وأثرت في قلبه الغربة وهاج في صدره الشوق والحنين فقال: |
على فنن إلا وأنت كئيب |
تقول سعاد ما تغرد طائر |
وكل غريب للغريب نسيب |
أجارتنا إنا غريبان هاهنا |
نوائب تقذي عينه فيشيب |
أجارتنا من يغترب يلق للأذى |
له بين أحناء الضلوع وجيب |
يحن إلى أوطانه وفؤاده |
وهكذا فلقد حفل الشعر العربي بالكثير من القصائد التي تحث على الأسفار والرحلات وما فيهما من فوائد وتجديد نشاط وما يزيد المعارف ويثري الثقافة، وعارض ذلك آخرون في قصائد لطيفة عبر مراحل التاريخ، يحنون فيها إلى أوطانهم وحفلت كتب التراث العربي بمساحات واسعة وموضوعات متنوعة في هذا المجال، كلها تستحق من المتتبع الوقوف والاستنتاج والدراسة والعبرة، والشواهد على ذلك كثيرة جدًا ومستفيضة. |