مازغان
عروس شواطئ المغرب
الحي البرتغالي ضمن لائحة التراث العالمي.
• المغرب: خديجة الفتحي
تصوير: عبدالكبير متطوع
في جدلية السهل الممتنع، وأنت تقترب من نهاية عناء سفر ماتع، بين مدينتي الدار البيضاء والجديدة، وتقطع نهر أم الربيع، حيث تنتصب أزمور، بناية شامخة في بهاء قل نظيره، تستوقفك عن يمينك «محطة مازغان» السياحية، الموغلة في المستقبل العمراني والسياحي، والواعدة بمغرب جديد يرتسم في الأفق.
|
|
|
|
في الأفق هناك عند نهاية شاطئ بديع، شاطئ الدوفيل (Deauville) بتسمية من الجنرال الفرنسي ليوطي، تتراءى لك صومعة مسجد وواجهة بناية بيضاء، داخل أسوار آجورية ورملية اللون، لقلعة لا تخطئها العين، ولا تجف الأقلام الصحافية والأكاديمية كتابة حول تاريخها ومكوناتها وجماليتها الأخاذة، إنها بكل بساطة «مازغان».
قلعة مازغان
تقع قلعة مازغان «أو Mazag?o بالبرتغالية» في مدينة الجديدة، التي تبعد عن الدار البيضاء 99 كلم، عاصمة منطقة دكالة، ومفخرة عروس شواطئ المغرب، والمصنفة تراثًا للإنسانية منذ سنة 2004.
عن هذه المعلمة التاريخية يقول أبوالقــاسم الشـــبري، رئيس جمعية خريجي المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث بالمغرب، والمختص في التراث البرتغالي: إن أعمدتها رفعها بحارة برتغاليون، بأمر من ملكهم عمانويل «مانويل المحظوظ»، بين 1510 إلى 1514. وقيل إن مغامرًا برتغاليًا كان قد حل بها جراء عاصفة بحرية عام 1502. واضطر الملك جون الثالث إلى تحويل هذا الحصن الأول إلى قلعة كبيرة بتوسيعه بين 1541 و1548، بعد أن أجلاه الأشراف السعديون عن مواقع أزمور وآسفي وسانتا كروز «أكادير» سنة 1541.
وقد دفعت الظروف السياسية والاقتصادية المحلية والعالمية التي أعقبت سقوط الأندلس في عام 1492، بشعب البرتغال وشعوب إمارات مرسيليا وجنوة والأراضي المنخفضة وغيرهم إلى الانطلاق في «الاكتشافات الجغرافية»، وكان البرتغاليون رواد هذه الحملات بامتياز.
اسم أمازيغي
والحقيقة، حسب أبو القاسم، أن البحث عن موارد أولية وعن يد عاملة رخيصة، وكذا البحث عن أسواق لترويج المنتوج المحلي، هي التي دفعت البرتغاليين وباقي الأوروبيين إلى الخوض في عرض البحار والمحيطات لمدى قرون، وسوف يجدون الفرصة مواتية عقب اندحار العالم الإسلامي، وتراجع طرق القوافل التجارية التي كانت القوة الضاربة في قوة هذا الأخير، وقوة دول أفريقيا على امتداد القرون الوسطى «القرن 8 إلى القرن 15 الميلادي».
في هذه الظروف الدولية، قامت البرتغال باحتلال مدينة سبتة المغربية، كأول مدينة تحتلها دولة أوروبية خارج قواعدها، وكان ذلك في عام 1415، بعد مقاومة شرسة بتعبير المؤرخ الفرنسي بيير دو سنيفال (Pierre De CENIVAL) جامع الدراسات والمستندات البرتغالية وناشرها، خلال فترة الحماية. وبعد ذلك انطلق البرتغال في احتلال مدن شواطئ المغرب وأفريقيا، وفي هذا الإطار جاء احتلال موقع مازغان سنة 1502 عنوة، وليس بمحض صدفة عاصفة بحرية، قيل إنها دفعت سفن القائد جورج دي ميلو (Jorge de Melo) من بوغاز المتوسط إلى خليج مازغان، والحقيقة أن الوثائق التاريخية المغربية والأوروبية تتحدث عن مبادلات تجارية بين البرتغاليين وسكان «مازيغن» وهو الاسم الذي يرد في خريطة الشريف الإدريسي. وهذا الأمر يؤكد أن اسم مازغان ليس برتغالي الأصل، وإنما أمازيغي محلي، عكس ما روَّج لذلك باحثون غربيون، وتبعهم باحثون وجامعيون مغاربة.
غير أن قلعة مازغان، كما وصلتنا اليوم، لا أحد يشك في أنها بناء برتغالي صرف. وقد بني الحصن الأول «المسقاة البرتغالية حاليًا» بإشراف من الأخوين دي أرودا (De Arruda) المهندسين الشهيرين، بينما قاد توسيعها إلى القلعة بشكلها الحالي بين 1541 إلى 1548 مهندسون برتغاليون وإسبان، اعتمادًا على تصميم غير مألوف وضعه المهندس الإيطالي بنديتو دي رافينا (Benedetto di Ravenna)، كما أورد ذلك السيد الشبري في غير موضع من كتاباته ومحاضراته، آخرها ما نشره بمجلة برتغالية.
أروقة ثقافية وتجارية
تصميم بديع لقلعة عسكرية كانت تحيط بها مياه البحر من كل الجنبات، بوساطة خندق، وأسوارها ضخمة، تتجاوز العشرة أمتار سمكًا، وكذلك ارتفاعًا، وهي أسوار معقوفة إلى الداخل في منتصف كل سور، ما يعطي للقلعة شكل نجمة بأربع زوايا تأسر الناظر، وهي الزوايا التي تنتصب بها أبراج ضخمة وشاسعة تسمى البستيون (bastion)، تحمل المدفعية الثقيلة وتجوبها العربات التي كانت تجوب أسوار المراقبة كذلك. غير أن ضخامة الأبراج لا تنزع عنها صفة الحسن والجاذبية لعين الناظر. وكل برج يشكل لوحده معلمة معمارية تصلح لأن تستغل اليوم كأروقة وفضاءات ثقافية، بل وحتى كوحدات تجارية مدرة للدخل، تستثمر عائدات استغلالها في ترميم القلعة البرتغالية وصيانتها. وهذا ما عبَّر عنه غير واحد من ساكني الجديدة.
تفاهم في ظل العداوة
وبحسب بعض وثائق التاريخ، بفعل طابع قلعة مازغان العسكري، لم يكن لها سوى باب واحد رئيس من جهة البر، وهو الباب الذي تعلوه اليوم نقيشة (inscription) توسيع القلعة. وأمام هذا الباب كانت قنطرة متحركة «ترفع وتنزل» تسمح بقطع الخندق الذي يحيط بالقلعة. وفوق سوره كانت تقف الحراسة الدائمة ببرج الحاكم (Bastion du Gouverneur). وأما باب البحر فقد كان كما يدل عليه اسمه هو الباب الذي يربط الحامية العسكرية وقلعتها بالعالم الخارجي، وبه كانت ترسو، ومنه تقلع السفن والبواخر من لشبونة وإليها، أو التي تجوب العالم من لشبونة إلى ماكاو وسومطرة وتيمور، بعد عبور شواطئ أنغولا وموزامبيق وساحل العاج ورأس الرجاء الصالح والصومال وموانئ الخليج العربي.
ولم تكن مازغان قلعة عسكرية جافة الحياة، لقد تعددت بها الأسواق، كما الأفراح والأعراس والعقيقة، وما إلى ذلك من سنن الحياة. ولم يكن كل عيش البرتغاليين والمغاربة حروبًا ومناوشات، وإنما كانت هناك فترات تعاون وتفاهم في ظل العداوة، ومهما وصف الواصفون في جمالية معمار «مازغان» فإن تحفة التحف في «مازغان» تبقى، ما شكل للمخرج العالمي أورسن ويلس، مسرح فيلم عطيل، الذي نال به سعفة مهرجان كان لعام 1952. إنها المسقاة البرتغالية بوسط هذه القلعة، والتي كانت في الأصل هي نواتها الأولى. بناء غوطي (gothique) بلمسة الملك إيمانويل «فقيل عنه نمط غوطي مانويلي»، قرابة نصفه تحت الأرض. ويحمل سقفه المحدودب (toit voûté) 25 عمودًا، بين مربع ودائري من حجر مصقول مع خشونة طبيعة القلع والحياة العسكريتين. هذا الحصن كان مخزن الأسلحة وفوق سطحه إقامة قائد الحامية ومستوصف للإسعافات. وبعد 1548 تحوَّل الحصن إلى مسقاة لتجميع المياه، تحسبًا للضربات المغربية المتتالية، التي كانت وراء إخراج البرتغاليين من أكادير وآسفي وأزمور. وقد تعددت الحصارات ولم تفلح في اقتلاع مازغان من يد البرتغاليين، مثلما لم يفلح تفوق المغرب عقب معركة وادي المخازن «1578» لاستغلاله في تحرير مازغان وسبتة على الخصوص.
فك الحصار
وبما أن لكل بداية نهاية، فقد تمكن محمد بن عبدالله، سلطان المغرب، يوم 11 مارس 1769، بعد جهد جهيد من تحرير مازغان من قبضة البرتغاليين، عقب حصار دام شهرين، توقفت معه سبل الحياة داخل قلعة مغلقة، ظلت دومًا شوكة في حلق المغاربة. وبفعل هذا الحصار القوي عسكريًا والمدروس تقنيًا، اضطر ملك البرتغال إلى طلب هدنة من سلطان مغربي سيكون أول زعيم عالمي يعترف باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية. هكذا غادر البرتغاليون خليج مازغان في أمان وعد غريمهم، لكنهم خانوا ثقته وإيمانه بوعدهم، لأنه ما أن غاب سرب السفن المنهزمة حتى انفجر السور الأمامي لقلعة مازغان.
وإذا كان المغاربة تطيروا من هذا الأمر، ولم يرمموا قلعتهم المحررة إلا مع عشرينيات القرن الثامن عشر، وأعطوها اسمها الحالي «الجديدة»، فإن البرتغاليين المرحلين من مازغان المغرب، أرسلهم ملكهم مباشرة إلى البرازيل، حيث أحدث خصيصًا لهم مدينة صغيرة سماها «مازغان الجديدة» (Villa Nova de Mazag?o) لأن ذكرى عيشهم بتحفتهم التاريخية والفنية بدكالة، لم يكن للسكان ولا للملك وحكومته أن ينسوها أو يتناسوها. ولابد أن نسجل هنا أن مكر الأقدار جعلت البرتغاليين يدخلون «مازغان» دكالة متخفين أول مرة، فخرجوا منها متخفين منهزمين آخر مرة. ودليل تعلق البرتغاليين اليوم بالصفحة الدكالية من تاريخهم الطويل، هو أنهم يحملون في قلبهم وفكرهم لمدينة الجديدة وقلعتها موقعًا متميزًا من بين كل المدن والموانئ التي احتلها أسلافهم.
وفي المقابل فإنك تحس في أول زيارة للجديدة، كما في كل الزيارات المتوالية، بأن الدكاليين يتحدثون عن الفترة البرتغالية من حياة مدينتهم بعزة وأنفة وتمجيد، لا يمكن لأي متعصب للتاريخ أن يفهم كنهها. يتحدث الدكالي عن مآثر البرتغال كما لو أن أحد أجداده من بناها، ثم يتحسر بنبرة أليمة على كل جزء صغير أو كبير ترك للضياع والتآكل من هذه المعلمة البرتغالية الفريدة.
في 30 يونيو 2004، تم إدراج الحي البرتغالي ضمن لائحة التراث العالمي، وظل يخضع بشكل منتظم لعمليات الترميم سنويًا، منذ 1994، وهي السنة التي اختار فيها الملك الراحل الحسن الثاني، مدينة الجديدة للاحتفال بعيد الشباب.
في هذه السنة نفسها، تم تأسيس مركز دراسات وأبحاث التراث المغربي البرتغالي، للعناية بالتراث البرتغالي على الصعيد الوطني، بجرده ودراسته وترميمه، وتم اختيار مدينة الجديدة لتحتضن مقره الرئيس.