المدرسة الإسبانية للفروسية
حيث ترقص الخيل طربًا
حيث فحول ليبيزان تخلب الألباب بمهاراتها الاستعراضية
معْلم تراثي يخلِّد أصول الفروسية الكلاسيكية لعصر النهضة.
أمام الأعين الشاخصة لجمهور احتشد في قاعة مهيبة شُيِّدت على الطراز الباروكي ضمن أحد الأبنية التي يحتضنها قصر هوفبورغ النمساوي، يتقدم على وقع أنغام موزارت موكب أحصنة بيضاء تدق بحوافرها الأرض، فيما تجوب أنحاء القاعة، تارة تمشي الهوينى، وطورًا تهرول أو تخب، وبين هذه الحركة وتلك، تتنقل برشاقة وعذوبة، كما تفعل راقصات الباليه.
هذه الجياد التي تمتع الحاضرين بعرض «الباليه الأبيض» على مرّ ثمانين دقيقة فتبهر الأنظار وتخلب الألباب بحركات متقنة تؤدِّيها بإيعاز خفي من الخيّالة المتمرِّسين الذين يمتطونها، هي في الواقع فحول «ليبيزان» Lipizzaner الأصيلة التابعة للمدرسة الإسبانية للفروسية، التي باتت تشكِّل جزءًا لا يتجزأ من تراث النمسا الثقافي، ولا سيما أنها تعد المدرسة الأقدم التي لا تزال تحافظ، منذ القرن السادس عشر، على تقليد تدريب خيول ليبيزان وخيّالتها، وفقًا للأصول الكلاسيكية التي ميَّزت فن ركوب الخيل في عصر النهضة. أكثر من ذلك، لا يزال تناقل الخبرات والمعلومات بين الخيّالة من جيل إلى آخر يتم في المدرسة الإسبانية بطريقة شفهية منذ ما يزيد على 430 عامًا.
وعلى الرغم من أن المدرسة نمساوية بامتياز، إلا أنها تُعرف بالإسبانية، تيمنًا بفحولها التي ترجع أصولها إلى القرن السادس عشر، وتتحدر من سلالة إسبانية أصيلة، هي ثمرة تهجين خيول إسبانية وعربية وبربرية، بل إن هذه الفحول ظلت تُعرف باسم «جياد كارسترز الإسبانية» Spanish Karsters حتى القرن التاسع عشر عندما اعتُمد الاسم «ليبيزان» نسبة إلى قرية ليبيزا السلوفينية. فعند حدود هذه القرية كان دوق هابسبورغ تشارلز الثاني قد أقام في عام 1580 مزرعة لاستيلاد خيول نبيلة تليق بالمظهر الباروكي الملكي، شكَّل أفضلها جزءًا لا يتجزأ من حياة البلاط الإمبراطوري في فيينا على مرِّ مئات السنين. وفي عام 1920 نُقل ما بقي في النمسا من القطيع الأصيل إلى مزرعة بايبر Piber الواقعة في مقاطعة ستيريا، حيث تُستولد اليوم الجياد وتُربّى بما يضمن الحفاظ على سلالة ليبيزان الباروكية الكلاسيكية، وحيث يمكن للمولعين بالفروسية والخيول الأصيلة أن يتبنوا أيًّا من الجياد أو المهرات المهددة بالانقراض.
وإذ يبلغ فحل ليبيزان عامه الرابع في بايبر، يُرحَّل منها مسافرًا إلى مستقرّه الجديد وسط مدينة فيينا، وتحديدًا في مدرسة الفروسية الإسبانية، حيث تنتظره، كما الفارس، تدريبات تستغرق سنوات عدة، قبل أن يصبح على أتم الاستعداد لأداء الحركات المبهرة التي تنطوي عليها عروض «الباليه الأبيض»، بدءًا من حركة Piaffe، وفيها يخب الفحل، فيما يرفع إحدى قائمتيه الخلفيتين تزامنًا مع رفع القائمة الأمامية المعاكسة لها، ووصولاً إلى حركة Canter Pirouette التي يظهر فيها الحصان الأبيض رشاقته وقوة بنيته، فيما يثب بشكل دائري نحو ست وثبات إلى ثماني وثبات، مستخدمًا قائمتيه الخلفيتين. وكما يحتاج الفارس إلى ما بين 8 سنوات و12 سنة لكي يصبح خيّالاً متمرِّسًا ومجازًا في المدرسة الإسبانية، يستغرق تدريب فحل ليبيزان نحو 6 أعوام قبل أن يصبح جاهزًا لإمتاع العامة بالرقصة الرباعية Quadrille التي تشاركه فيها ثلاثة فحول أخرى، أو ربما بلوحات استعراضية من فن «الوثب في الهواء» الذي لا تجيده سوى قلة قليلة من فحول ليبيزان التي تعد الأكثر تفوقًا وموهبة.
أما مسرح هذه العروض البديعة التي تملؤكم بمزيج من الرهبة والبهجة وأنتم تتأملون مشدوهين التناسق الاستثنائي لخطوات الجياد المستوحاة من حركات قديمة أرهبت، أيام الحروب، قلوب أعداء الإمبراطورية، فهو تلك القاعة الباروكية المعروفة باسم «القاعة الشتوية للفروسية» Winterreitschule والتي تعد اليوم التحفة المعمارية الأبهى من نوعها في العالم أجمع. فحتى عندما تخلو هذه القاعة من الجياد، تبهركم بتصميمها الأخاذ وقد أفرغ وسطها من كل أثاث، باستثناء الثريات التي ينعكس توهُّج بلوراتها الكريستالية على الواجهات الزجاجية المحيطة بكامل القاعة المكللة ببياض الأعمدة والزخارف التي تملأ السقف، فيما تفترش أرضها طبقات سميكة من رمال صدئة اللون، يخالها الناظر أرضية من خشب الباركيه المزخرف. هنا قد يحلو لكم في أوقات الصباح أن تشاهدوا التدريبات المميزة التي تجمع بين الخيّالة وفحول ليبيزان، بانتظار أن تتسنى لكم فرصة مشاهدة واحد من عروض «الباليه الأبيض» السبعين التي تُقام سنويًا داخل قاعة بديعة التصميم، يعود الفضل في بنائها إلى الإمبراطور شارل السادس الذي أوكل مهمة تشييدها في عام 1729 إلى المعماري جوزيف إيمانويل فيشر فون إيرلاتش. وإلى يومنا هذا، لا يزال الخيّالة يتوقفون بعد كل عرض أمام رسم الإمبراطور، ويرفعون قبعاتهم بطريقة احتفالية إكرامًا لذكراه.
في هذه القاعة الباروكية التي احتضنت خلال الأزمنة الغابرة، خصوصًا في عهد الإمبراطورة ماريا تيريزا، حفلات ملكية مهيبة، واستعراضات فروسية مميزة، بل وحفلاً موسيقيًا ضخمًا بقيادة بيتهوفن. سيكون هواة الفروسية ومحبو الخيل منكم على موعد في العاشر من شهر يوليو المقبل مع حفل أسطوري يعيد إحياء زمن الأباطرة الجميل، ويقدِّم لكم فرصة قد لا تتكرر لاستعراض مهاراتكم على ظهور الجياد.
ولن تقتصر المظاهر الاحتفالية التي ستميِّز هذه المناسبة الصيفية على القاعة الشتوية للفروسية، بل ستمتد أيضًا لتشمل إسطبلات ستالبورغ الملكية الملحقة بالمدرسة الإسبانية، والتي تحتضن اليوم 72 فحلاً من سلالة ليبيزان النبيلة، علمًا بأن هذه الإسطبلات التاريخية أصبحت متوافرة منذ صيف عام 2008 لإقامة الاحتفالات الخاصة، خصوصًا في الباحة الخارجية التي تعد أقدم باحة في فيينا من بقايا عصر النهضة، أو في أحد أجنحة الاستقبال الثلاثة التي تشتمل عليها أبنية المدرسة الإسبانية، والتي تتميَّز جميعها بإطلالة ساحرة على ساحة ميخائيل Michaelerplatz، إحدى أجمل ساحات فيينا وأشدها روعة.