June2010Banner


لا إكراه في الدين

يؤسس الإسلام لعلاقة بين الناس عمادها أصلهم الإنساني وكرامتهم الإنسانية بغض النظر عن معتقداتهم.

بقلم: أ.د.عبدالكريم بن صنيتان العمري،
الجامعة الإسلامية

عُني الإسلام بإبراز النزعة الإنسانية التي تميز بها، حيث نقل الإسلام الإنسان من أجواء الحقد والكراهية، والتفرقة العصبية، إلى أجواء المحبة والتسامح والقيم الكريمة النقية.

فأعلن أن الناس جميعًا من نفس واحدة، قال تعالى: }يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء{ (النساء: 1). فمهما تفرق الناس، فالبشرية قاطبة من أصل واحد، وإن تباعدت بلداتهم، أو تباينت ألوانهم وأجناسهم، وليس من شأن الإسلام أن يميز من ارتفع على من اتضع، ولا من اغتنى على من افتقر، ولا ذا اللون الأبيض على ذي اللون الأسود، بل الجميع سواءٌ عند الله في آدميتهم وإنسانيتهم. فالمميز الوحيد، الذي يتفاضلون به عند خالقهم جل وعز، هو تقواههم لله، وخوفهم ومراقبتهم له، وخشيتهم منه. }يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم{ (الحجرات: 13).

والمتأمل للنداء الإلهي للخلق، يلحظ كثرة خطاب القرآن للناس بالألفاظ التي تشعرهم بأس خلقتهم، ووحدة أصلهم الإنساني، كقوله تعالى: }يا أيها الناس{، وقوله تعالى: }يا بني آدم..{، ويسمو التشريع الإسلامي حين يثبت الكرامة الإنسانية للخلق جميعهم، بصرف النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، قال تعالى: }ولقد كرمنا بني آدم{ (الإسراء: 70) هذه الكرامة، التي تضمن للناس جميعًا حقهم في العلم والعقيدة، والعيش والحياة. والإسلام وإن كان يدعو إلى تصحيح هذه المفاهيم، والعناية بها، إلا أنه في المجال الواقعي يُقر ما عليه الآخرون، مفوضًا أمرهم في الحساب إلى خالقهم، فلا ينكر التعايش مع أصحاب الديانات الأخرى، سواء أكان ذلك داخل الدولة الإسلامية أم خارجها، تجنبًا للصراع والشقاق، والنزاع والافتراق، والتصادم والتعصب، وتدمير مقومات الحياة الآمنة، فهو يسعى إلى تثبيت الجسور المشتركة، والروابط المتعددة بين الناس، وإشاعة المحبة والتآلف، واحترام حقوق الإنسان، والحرص على التقارب والتعارف، ويظهر ذلك واضحًا من خلال تأمل كثير من النصوص الشرعية، التي تبرز أن المسلمين أمناء على تبليغ الدعوة إلى العقيدة والعبادة،

والأخلاق والآداب التي جاءت بها الشريعة الإسلامية.
إلا أنهم ليسوا بأوصياء على الأمم والشعوب بإجبارهم على تلبية رغباتنا، وتحقيق مرادنا، وقسر الآخرين على الدخول في ديننا، وتلك أسس واضحة المعالم في القرآن الكريم، حيث خاطب الباري، جل وعز، نبيه، صلى الله عليه وسلم، بقوله:
}لست عليهم بمصيطر{(الغاشية: 22)، وقال تعالى: }قل لست عليكم بوكيل{ (الأنعام: 107). فهذه الآيات تدل على أن الرسول الداعية، صلى الله عليه وسلم، لا سلطان له على أحد من الناس بالإجبار والإكراه، وكذا أتباعه المقتدون به، المبلغون شريعة الله تعالى وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، إلى البشر، فإن دورهم هو الدعوة إلى هذا الدين، وتبليغه، ونشره، وبيان محاسنه، وإظهار خصائصه وفرائضه، قال تعالى: }وما على الرسول إلا البلاغ المبين{ (النور: 54)، وقال جل في علاه: }فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين{ (النحل: 82).
إن التصور المتأصل في قلوب بعض المسلمين من ضرورة حمل الناس على اعتناق الإسلام بالقوة لا يتفق مع المبدأ الصريح الذي رسمه القرآن الكريم، وأرسته نصوص الشريعة الغراء، من حرية الاعتقاد، وعدم الإكراه على الدين، قال جل وعز:
}لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي{ (البقرة: 256)، فهذه الآية تنفي جنس الإكراه، وتستبعد وقوعه.
وأوضحت أية أخرى أن الإيمان يصدر من قلب عن رضًا كامل، وقناعة تامة، واختيار صريح، وإلا فإن الخالق، جل وعز، قادر على جعل جميع الناس مؤمنين، قال جل في علاه: }ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين{ (يونس: 99). وقال تعالى: }لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون{ (المائدة: 48).
إذًا، فالله تعالى قد وجه نبيه محمدًا، صلى الله عليه وسلم، وأمته بعدم ممارسة أي لون من ألوان الإكراه، أو الضغوطات على الآخرين لتغيير عقائدهم، لأن الاختلاف من سنن الله تعالى في الكون، وهو أحد مظاهر التكامل والتنوع، ومعرفة الأضداد، لتمييز الحق من الباطل، والخير من الشر، فلا يبيح الإسلام قتل المخالف للدين لمجرد ذلك.
وقد سطر الحافظ ابن الصلاح، رحمه الله، وهو من كبار المحدثين والفقهاء في القرن السابع الهجري، كلمة رائعة عبر فيها عن وجهة أكثر العلماء، يقول:
إن الأصل هو إبقاء الكفار وتقريرهم، لأن الله تعالى ما أراد إفناء الخلق، ولا خلقهم ليقتلوا، وإنما أبيح قتلهم لعارض ضرر وجد منهم، لا أن ذلك جزاء على كفرهم، فإن دار الدنيا ليست دار جزاء، بل الجزاء في الآخرة، فإذا دخلوا في الذمة، والتزموا أحكامنا، وانتفعنا بهم في المعاش في الدنيا وعمارتها، فلم يبق لنا حاجة في قتلهم، وحسابهم على الله تعالى، ولأنهم إذا مكنوا من الإقامة في دار الإسلام، ربما شاهدوا بدائع صنع الله في فطرته، وروائع حكمته في خلقه، وإذا كان الأمر بهذه المثابة، فلم يجز أن يقال: إن القتل أصلهم. انتهى كلامه، رحمه الله.
إذًا، فسمة المجتمع الإسلامي هي تلك التي لا تعني أن المسلم يحكم بالفناء على جميع العناصر التي تعيش في داخل وطنه الإسلامي، وتدين بدين مختلف عنه، ولا أن يعمد المسلم إلى حرمان هؤلاء من العيش، وسلب حقهم في الحياة الذي قرره الإسلام لهم، كلا، بل إن العلاقة بين المسلمين وغيرهم في البلد الواحد، تقوم على أسس وطيدة من التسامح والعدل، والبر والرحمة.. نعم، الإسلام يدعو الآخرين إلى الدخول فيه، ويقرر أنه الدين الذي ارتضاه الله تعالى للبشرية كلها، وأنه المنقذ للبشرية من الحيرة والضياع، والقلق واليأس، لكن الإسلام لا يقيم العلاقة مع الغير على الكراهة، ولا يؤسس الرابط مع الآخرين على النفرة والحقد والاستئصال.
إن منهج الإسلام صريح وواضح، فهو قائم على السماحة في التعامل مع المخالفين، والمسالمة مع المسالمين، والدفاع عن الحقوق ضد المعتدين، قال تعالى: }لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين{ (الممتحنة: 7).