سلطانة المدائن.. إسطنبول
مدينة الماء والشمس والمآذن
قصور، وقلاع، وحصون، وزخارف تحكي تاريخ أرض لا حدود واضحة
فيها بين الحقيقة والخيال.
إسطنبول الفاتنة، المدينة المتفردة، لم يزدها مرور الزمن إلا جمالاً على جمالها، وسحرًا على سحرها، وأناقة لا تخلو من طيبة وتواضع تبثهما وجوه أهلها السمحة، وأحاديثهم التي لا تتوقف طوال عبورهم في الدروب والطرقات، ومكبرات صوت مآذنها العريقة الشاهقة التي تشكل، حين تعانق ناطحات السحاب السامقة في كبد سماء صافية مشمسة لطيفة الهواء، فسيفساء نادرة الوجود. تتمدد على خطوطها الناعمة المكتنزة فخامة وروعة قصور، وقلاع، وحصون تاريخية، وقباب من الزخرف البديع، أنفق فيها المعماريون المسلمون الذين قدموا إلى تركيا من شتى أصقاع الأرض دهورًا من الفن الآسر الذي تسكنك تفاصيله منذ الوهلة الأولى، كأنها خشوع فنان تجسد على جدران فتية تجاوز عنها الدهر، فبقيت شابة عمرها قرون من الزمن.
الفخامة ستكون حتمًا عنوان رحلتك إن كنت قاصدًا إسطنبول العريقة، وينتابك شعور وأنت تتجول بين شوارعها أن قدميك تغوصان في بساط أحمر مده التاريخ أمامك، تتجول بين صفحاته، وترى مشاهده حولك تنبض حياة تلونها لمسة حداثة وضعها التركي المعاصر بفن وحذر، فاشترك الماضي والحاضر في رسم لوحة واحدة متناسقة الخطوط، منسجمة الألوان، تترقرق في صفحة مياه زرقاء عملاقة تمتد بطول المدينة التي تبدو زرقة مياهها الصافية قاسمًا مشتركًا بين تنويعات الإبداع المتداخلة في تفاصيل هندستها المعمارية، وتكويناتها الجغرافية الفريدة نادرة الحدوث. فمن الجنوب يلفها بحر مرمرة الذي يرتبط بمضيق البسفور الشهير مع البحر الأسود شمالاً، ثم خليج القرن الذهبي الذي يشطر المدينة إلى شطرين مفسحًا الأرض أمام مسطحات شاسعة إضافية من المياه الصافية الزرقاء.
كثيرون يظنون أن هذا الشعور بالدهشة المفرطة أمام بهاء إسطنبول وفخامتها وسحرها يعتري المرء فقط في لقائه الأول مع مدينة التاريخ، لكن ظنون هؤلاء سرعان ما تتبدد حين يترددون على إسطنبول للمرة الثانية والثالثة.. والعاشرة، ثم يجدون الدهشة نفسها تسكنهم مضافًا إليها شوقهم المتقد إليها قبيل خروجهم من بوابات مطار مصطفى كمال أتاتورك الدولي، الذي صنف واحدًا من أفضل أربعين مطارًا على مستوى العالم، ثم حزنهم وعجلات طائرات عودتهم ترتفع فوق أرض سلطانة المدائن، وكأن الدهشة سنة الحياة في إسطنبول المدهشة.
بدأتُ رحلة الفخامة في مدينة الخيال من مقعدي على درجة رجال الأعمال، بيد أني لم أكن المريد الوحيد، حيث جلس إلى جانبي رجل أعمال قدم من الكويت قاصدًا إسطنبول لاختلاس لحظات بين سحر طبيعة إسطنبول وتأمل إبداع إنسانها. فقدت رفيق رحلتي في زحام مطار كمال أتاتورك. في استقبال فندق مرمرة، وجدت اسمي بين قائمة من أسماء أهم السياسيين وصانعي القرار التركيين الذين اعتادوا التردد على المكان، كان فندقًا جميلاً فاخرًا ونظيفًا جدًا، بيد أنني فضلت الانتقال إلى الإنتركونتيننتال، طلبًا لإقامة أخف رسمية، وأدعى إلى التأمل والاستجمام.
فوق مقعدي الوثير في شرفة الإنتركونتيننتال المطلة على مضيق البسفور بأمواجه الزرقاء المتألقة تحت أشعة الشمس، جلست أستمتع بحضوري وسط إحدى أجمل لوحات إسطنبول وأسطعها بهاءً، حيث يلوح في الزاوية البعيدة من المدينة مسجد السلطان أحمد بمآذنه الست. لم أدر متى غبت عن كل ما حولي شاردًا في رحلة تجاوزت حدود الزمان والمكان حتى أفقت من تأثير مشهدي الأول في إسطنبول.
في ساحة تقسيم الشهيرة صبيحة اليوم التالي كنت على موعد مع مشهدي الثاني، حيث يتدفق خلفها شارع الاستقلال المعروف بأمواج من البشر تنداح على امتداد الأفق، وعلى ضفتيه تتراص محال الملابس، والحلوى الراقية، والمقاهي، والمطاعم التقليدية، ما يجعل من الشارع قبلة لزائري إسطنبول الذين لا يتوقف دبيب أقدامهم على أرصفته ليل نهار، ولعل هذا الحضور الهائل للموج البشري الذي يهدر به الشارع أحد أسباب المكانة العظيمة التي يحتلها في وجدان مريدي السحر الإسطنبولي.
تركت قدمَيَّ تنزلقان مع موج البشر في شارع الاستقلال. بعد صف طويل فخم من المحال الأنيقة المطلة على الشارع بدأت تختفي واجهات تلك المحال شيئًا فشيئًا، وجدت قدميَّ تهبطان بي نفقًا طويلاً، وبدأ يحتل المشهد واجهات لمكتبات صغيرة مكتنزة بكتب قديمة لها عبق خاص جذاب تشعر أمامه وكأنك تتحرر من استلاب ما، أو تُستَلب من واقعك إلى عالم ما، وجدتني أتقدم إليها على غير إرادة مني، كانت معظمها بالتركية، لكن بصري وقع بينها على سلسلة من الكلاسيكيات القديمة كتبت بالإنجليزية، بعد لحظات ألفيتني مصطفًا إلى جوار مئات الواقفين على الرصيف أمام المكتبات مستغرقين في تصفح كتبها القديمة بشغف واستمتاع.
في المساء عدت إلى الإنتركونتيننتال حيث لوحة البسفور التي بدت أكثر روعة تحت أضواء المدينة الليلية التي تحرر الخيال في حضرة تاريخ استدعاه مسجد السلطان أحمد، وآيا صوفيا وقصر توبكابي، حيث يكتنز الأخيران، بعدما تحولا إلى متحفين، بروائع العهدين الإسلامي والعثماني.
في الصباح التالي كانت وجهتنا إلى مسجد السلطان أحمد الذي شُيّد ما بين عامي 1609 و1616 بطراز معماري يعود إلى القرن السابع عشر، صرح فخم عملاق مدهش يفد إليه عدد ضخم من الزوار كل يوم لمشاهدة روعته وسحره.
سلكت سيارتنا طريقها برفق على طريق ضيق مليء بالسيارات في محاولة الاقتراب من الصرح، توقفنا في الجهة المقابلة للساحات التي تحتضن المسجد، أمواج أخرى من البشر مثل التي تركتها بالأمس في شارع الاستقلال وجدتها تتدفق هناك في الساحة الخارجية المؤدية إلى المسجد. خيالٌ آخر وجدتني في مواجهته في باحات مسجد السلطان أحمد، آلاف من أصقاع المعمورة كافة يفدون إلى هذه التحفة المعمارية التاريخية الدينية للتعرض لإشعاع فخامتها، وبهائها، وعراقتها، كانوا في كل مكان.. في ساحاته، وعلى درج سلالمه وداخله، حركات لا إرادية كثيرة وقفت أراقبها على زوار المسجد، كلها تعبر عن حالة من الدهشة التي اعترت هؤلاء، فمنهم من يضع سبابته بين قواطعه، ومنهم من يتكئ بذقنه على راحته، ومنهم من يعقد راحتيه خلف رأسه.
توضأنا ثم سلكنا طريقنا إلى داخل المسجد، حيث اندمجنا وسط الأمواج البشرية المنزاحة بلطف إلى داخل هذه الصفحة من تاريخنا الإسلامي. أدينا الصلاة ثم شرعنا نوجه كاميراتنا في كل اتجاه كالآخرين.
الجامع مغطى ببلاط إيزنيك الأزرق المزخرف الذي يعكس أشعة الشمس الخلابة التي تهيج مشاعرك. حالة من الخشوع تتلبسك وأنت تتأمل زخارف الجدران الداخلية الغنية بالأحمر والأبيض الممتد على طول المسجد، وفي أقواسه، وجدرانه، ومصابيحه، ونوافذه المبقعة، وقبته الكبيرة وقبابه الصغيرة. في حين تلعب ريشة الخطاط المسلم الذي وضع لمساته الأسطورية على كل ركن في الأسقف والجدران دور البطولة في عرض الجَمال الذي وقف الجميع مشدوهين أمامه داخل المسجد.
في الجهة المقابلة لمسجد السلطان أحمد «الجامع الأزرق» وقف آيا صوفيا، ذلك الصرح الهائل ذو الماضي العريق. في عام 1935 تم تحويله إلى متحف، بعدما بقي مكانًا يتعبد فيه المسلمون منذ منتصف القرن الخامس عشر، وكان من قبل الكنيسة البيزنطية الأكبر في العالم.
إن ظاهر آيا صوفيا وباطنه وجهان لعملة فنية واحدة تتكرر نقوشها. فقد حافظ الأتراك على أماكن العبادة الواسعة في الداخل كما هي لم تطلها يد المحو، فبقيت دليلاً حيًا على التعايش الديني والحوار بين الأديان، حيث يتجاور فن الخط الإسلامي جنبًا إلى جنب مع الرموز المسيحية، في تعايش فني رائع يحظى بإعجاب يمكنك مراقبته بجلاء في أعين زوار آيا صوفيا الذين لا يقلون دهشة عن زوار جامع السلطان أحمد.
على الواجهة البحرية، جلسنا تحت مظلة أحد مطاعم إسطنبول الفخمة حول طبق كبير من سمك السردين، في انتظار انتهاء عمال المطعم من شوائها. أشار علينا صديقنا التركي «هناك جزر الأميرات، بوسعنا الوصول إليها بالقوارب». تسع جزر صغيرة، خمس منها مأهولة بالسكان، بعض أهالي إسطنبول الأثرياء يمتلكون منازل صيفية هناك، حيث الاستمتاع بالهواء، والشمس، والماء بمعزل عن صخب شوارع المدينة التي لا تتوقف عن استقبال زائريها طوال الوقت.
عند جسر غلاطة، بعد أدائنا للصلاة في مسجد يني الذي يتجسد على جدرانه مشهد آخر للتجاور الحضاري الإسلامي البيزنطي، آثرنا الركوب على متن عبّارة في جولة قصيرة عادية بالأسعار الشعبية في مضيق البسفور على اتخاذ عبّارة خاصة تُقَدِّم وجبة عشاء برفقة دليل كما يفعل بعضهم، خشينا حينها أن تحرمنا الفخامة الاستئناس بالحضور البشري من حولنا، وكما توقعنا، كانت رحلة ماتعة.
على الرغم من كونها جولة قصيرة، إلا أنها كانت أشبه بجرعة ثقافية جمالية مكثفة. فقد مررنا بقصر دولما باشا ضمن قائمة من القصور الشهيرة، والقلاع، والحصون، والمساجد، وجسرين معلقين كبيرين، وأبراج، وشرفات وسط منازل، وفيلات بمختلف ألوانها. كانت بحق رحلة استكشافية لا تمل، لم تثننا برودة نسيم البحر عن مواصلتها حتى النهاية والاستمتاع بتفاصيلها.
خلال جولتنا مررنا بقصر توبكابي، أو توبكابي سراي، الواقع خلف مسجد السلطان أحمد. شُيّد القصر ما بين عامي 1460 و1479، ليكون مركزًا إداريًا للإمبراطورية العثمانية، ومقرًا لإقامة سلاطينها. يمتاز القصر بتفرد فنه المعماري وزخارفه، وتغص أرضه بمختلف المباني، والحدائق، والساحات، والشرفات، والأبراج الرائعة، علاوة على مكتبة شُيّدت خصيصًا في عام 1719. واليوم يوفر توبكابي سراي صورة تفصيلية لنمط حياة السلاطين وحاشيتهم.
يمتد القصر على مسافة عدة كيلومترات، ويحتاج إلى أكثر من ساعة أو اثنتين لزيارة مبانيه المتنوعة ومعرفة استخداماتها. شعرنا بالتعب والإرهاق، وكنا في حاجة إلى قسط من الراحة، حصلنا عليه حال هبوطنا المبنى المواجه لمياه بحر مرمرة، في مقهى لطيف يوفر محيطه الجميل فرصة لالتقاط الأنفاس وسط حلقات من السياح بوسعك قراءة جميع الأجناس والأعراق في وجوههم.
كان ختامًا هادئًا، ووداعًا حالمًا لمدينة الخيال قبل بدء رحلة العودة إلى الوطن التي كان موعدها في الصباح. كنت مسكونًا بكل ما وقعت عليه عيناي في هذه البقعة المتفردة من العالم، وكنت مسكونًا، أيضًا، بشغف عجيب بذلك الذي لم أره في إسطنبول التي لم يساورني أدنى شك في أنها تحتاج إلى أضعاف ما أمضيته فيها من وقت حتى أمتاح من تفاصيل سحر سلطانة المدائن، وجمال أرواح خلقها الرائعين.