عيون الخرج..
ذكريات لا تنضب
نضبت عيون الخرج ولم تبقَ منها إلا عذوبة الذكريات وتاريخ كان في عيون الناس وقلوبهم أخضر نديًا.
هناك تضاريس رائعة تكتنفها الذكريات والحكايا الغابرة تحتاج منك أن تقطع المسافات لتصل إليها، وتلقي نظرة في الهوة السحيقة، مسترجعًا بذلك عذوبة تلك الصباحات البهية، كذلك هي العيون المائية التي تروي سطح الأرض بمياهها العذبة.
كتبت: عبير الفوزان
تصوير: جورج بونتينو
ثروة مائية وأثرية
لا تُذكر محافظة الخرج التي تبعد عن مدينة الرياض بنحو 80 كم باتجاه الجنوب الشرقي إلا وتذكر عيونها التي كانت تفيض وتسح الماء بكميات كبيرة، مخترقة بذلك مدينة السيح كبرى مدن المحافظة، عبر قناة تمتد إلى مشروع الخرج الزراعي.
عيون الخرج بقدر ما هي ثروة مائية، إلا أنها الآن باتت من الأماكن الأثرية التي يرتادها السياح والزاور، ليشاهدوا عمق عيون كانت، فيما مضى، تسح الماء من بين جنباتها عذبًا، فلم يبقَ منها إلا التراب وبقايا مكائن «البلاك ستون» القديمة البريطانية الصنع، والتي مضى عليها نصف قرن من الزمان. ما زال صدى صوتها الشبيه بضربات القلب يتردد في ذاكرة المكان، وذاكرة من عاش زمن التدفق لا الجفاف.
هو الحنين الذي يدفعنا إلى استرجاع زمن العيون، زمن جريان المياه العذبة في السواقي، وصوت المكائن الذي يشي بالماء، والزرع، وأسراب الطيور الجافلة، من أول صوت لضربة مكائن تستجلب الماء من العين، وتستجلب مع التذكر ماء المآقي في العيون.
عيون وبقايا من ذكرى
تعرف العيون بأنها تجويفات داخل الأرض، وتتميز عيون الخرج بميزة قل نظيرها، وهي أنها باردة صيفًا دافئة شتاءً، وتوفر بذلك أجواءً جميلة يعشقها الزوار، إذ كانت الخرج، فيما مضى، مكانًا مثاليًا لنزهات أهالي الرياض الذين ينطلقون باتجاه عيونها، ويتفيؤون تحت ظلال زروع أروتها تلك العيون مثل عين الضلع التي تقع في الجنوب الغربي من السيح، وتعد من أكبر عيون الخرج، وعين سمحة التي اشتهرت بهذا المسمى لسماحة تدفق مياهها، ولها مكانة مهمة منذ القدم فهي أشهر العيون وأقدمها، وأيضًا عين أم خيسة.
هذه العيون التي كانت تعد مصدرًا رئيسًا لإمدادات المياه للاستخدامات كافة من سقى المزروعات وغيرها، بدأت مناسيبها خلال العقدين الماضيين في الانخفاض التدريجي، نتيجة سحب الماء من الطبقة المغذية لها، بعد التوسع في حفر الآبار الارتوازية لسقي المشروعات الزراعية الكبرى، لذا توقف التدفق الطبيعي في جميع العيون، ولم تعد مكائن «البلاك ستون» قادرة على استجلاب الماء من أعمق الأعماق بعد أن كان سهلاً وسمحًا، بل أصبح النضوب تدريجيًا مع العيون الأقل عمقًا، والتي يراوح عمقها بين 5 أمتار و15 مترًا، بعدها جفت العيون الأكثر عمقًا، لتبقى هوة سحيقة مليئة بالتراب والأحجار والذكريات.
بعد الجفاف
بعد أن كانت العيون، فيما مضى، مرتعًا ومكانًا للسباحة واللهو، وبعد أن كانت السواقي تنساب وبينها جداول من زرع، أصبحت منطقة العيون السبع الشهيرة في الخرج، والتي تقع على طريق الخرج الدلم جنوبًا مكانًا خطرًا ومسيجًا، وترتفع على بعض جنباته لافتة خضراء مكتوب عليها «تحذير.. ممنوع الاقتراب..مواقع انهيارات».
عند اقترابنا كانت الهوة سحيقة، وكان الجفاف قاسيًا بعد الندى، وتصدعات جدران العين الداخلية تنذر في أي لحظة بانهيارات لا حد لها. لا شيء يقطع السكون سوى صرخات مجموعة من السياح جاؤوا إلى هذا المكان لالتقاط بعض الصور، واثنين من أبناء المنطقة، ومجموعة من عمالة آسيوية لا يلحظ عليهم أنهم قاصدون هذا المكان قصدًا، ربما هي المصادفة التي ساقتهم إليه، فلم يثرهم المكان وإن كانت تفاصيله قد أثارتهم بتفحصهم خردة البلاكستون الرابضة على حافة العين الجافة.
قبل أن نلتقط أنفاسنا وذكرياتنا لنغادر المكان، حانت منا التفاتة نحو البيوت الطينية المتهدمة التي تعود إلى قرن من الزمن، كانت فيه تحفة تجري من تحتها العيون، ولا شك أن الزروع كانت تحيط بها أيضًا.انتهت هي وغادرها ساكنوها مع الجفاف والحضارة، ولم تبقَ إلا جدران متهالكة تشهد على ذلك الزمن الجميل، زمن الماء والعيون، فالبيوت تموت برحيل أصحابها، والعيون تموت بجفاف مائها.