الفنان التركي يالشن جوكشباغ
سحر الهدوء الفاتن
تحلق بك لوحاته نحو عالم آخر ما زال حيًا في ذاكرته منذ أن كان طفلاً، إذ لا يزال الفنان التشكيلي التركي المعاصر يالشي جوكشباغ أسيرًا لسحر الماضي، وهو ما دفعه إلى رسم لوحات تأخذنا معه إلى ذلك الزمن. من النظرة الأولى إلى لوحاته يظن بعض الناس أنه يرسم تركيا، لكن الحقيقة مختلفة. يرسم جوكشباغ الماضي حين كانت الحياة بسيطة والناس أكثر سعادة، كما يقول: «أريد أن أجعل رسمي عالميًا حتى يرتبط كل الناس بفني».
ولد جوكشباغ عام 1944 في قرية بالجزء الغربي من منطقة الأناضول، وأطلق عليه السكان لقب «فنان القرية». بدأت القصة في صغره عندما أسرته صورة لمحها على جانب حافلة القرية الزرقاء التي كانت وسيلة نقل القرويين. كانت الصورة عبارة عن أسد يقاتل أفعى، وقد أثرت فيه الصورة حتى إن العديد من لوحاته تتحدث عن المشهد نفسه.
كان عمره، آنذاك، ثمانية أعوام، لكن تلك الصورة استمرت بالتأثير فيه دائمًا. أظهرت المدرسة الثانوية التي ارتادها «اسبرطة تيتشرز» تقديرًا لموهبته وشجعته. وقد أرسل، فيما بعد، إلى اسطنبول ليتم تدريبه كفنان في معهد «كابا» للرسم. وكان لموهبته الثابتة الفضل في دخوله معهد «أنقرة غازي» الذي أصبح أكثر من 19 بالمئة من طلابه الآن فنانين مشهورين في تركيا.
يعد جوكشباغ اليوم أحد أشهر الفنانين في تركيا، ويملك تاريخًا حافلاً حققه خلال أربعة عقود. وهو مشهور بأسلوبه البسيط الذي يستخدمه ليرسم صورًا من حياة الريف في الأناضول. تعكس أعماله الأولى مدى افتنانه بالصمت الرهيب لحياة القرية، ويقول عن ذلك «في كل مرة أفكر فيها بالماضي أتذكر القرية. أتذكر عربات الخيل وكروم العنب والبيوت بكل تفاصيلها».
وبالرغم من أنه يعيش اليوم متنقلاً بين اسطنبول وأنقرة، إلا إن لوحاته تظهر قوة ذكرياته عن حياة الريف، فهي إلهامه وترى انعكاسها في خطوط لوحاته، بالأسقف المسطحة والقرويين الذين يحصدون المحاصيل بالمنجل وجمع البرتقال والشاي وهز شجر الزيتون، وفي لوحات أخرى تصور أطفالاً يلعبون في الشارع، ومجموعات من النساء يغسلن الملابس في الماء الجاري، وحمير تنقل جِرار الماء من بعيد، ونساء ورجالاً مهاجرين، ومناظر للساحل، وباعة، وقوارب، وغيرها الكثير. يعلق ناقد فني قائلاً: «تباع لوحاته قبل أن يقوم حتى برسمها. إنها تذكر سكان الحضر الذين تركوا قراهم واحتفظوا بذكرياتهم عنها حية بجمال الحياة الريفية».
فقد جوكشباغ إحدى ساقيه، وقد كان لهذه الحادثة أثر في تعزيز أسلوبه في الرسم. ويشير إلى إنه بعد تلك الحادثة قرر أن يرسم الحياة بعمق، حيث يرى أنها تستحق العيش. يقول: «هنالك الكثير من الأشياء في الحياة تستحق الرسم». وبرأيه يفكر الفنانون بطريقة عالمية لكن عندما يشرعون في الرسم تتحول أفكارهم إلى أفكار شخصية، حيث تعكس عالمهم الداخلي وأنفسهم».
يعد معلمًا في استخدامه الضوء الذي يخلق صورًا وأشكالاً ومساحات مجردة. وقد طور أسلوبه الخاص بتكوين ألوانه الخاصة وفرشه التي يقوم بقصها بطريقة تناسب الهدف الذي يرنو إلى تحقيقه. والرسم بالنسبة له يشبه اللعبة والمغامرة التي يضع قواعدها بنفسه.
عمل جوكشباغ مصورًا طوال اثنين وعشرين عامًا في التلفاز والإذاعة التركية، الأمر الذي وفر له الفرصة للاحتفاظ بأكبر كمية من الصور لمناطق في الأناضول في ذاكرته. وبالرغم من أنه عاش السنوات الأخيرة في مدن كبيرة لا يوجد إشارة للمدينة في أي من لوحاته. إلا أنه يملك، أيضًا، موهبة في الموسيقا والعزف على «البغلمة»، وهي آلة موسيقية وترية تركية.
أقام معارض عدة في تركيا ومدن أوروبية مثل: باريس، ولندن، والعاصمة الأمريكية واشنطن، ونيويورك أيضًا. وبالتعاون مع السفارة التركية نُظم له معرض مؤخرًا في عمان ،وضم المعرض مجموعة واسعة من لوحاته الزيتية.
يرى جوكشباغ تشابهًا بين الفنين العربي والتركي، ويعزو ذلك إلى التشابه في أسلوب الحياة بينهما، وفي لباس المرأة، والبيوت، والمساجد. «إنه الأسلوب الشرقي الذي يلهم الفنانين وينبع من الشرق».
يعتقد الفنان التركي أنه يجب أن يحظى الفنان العربي بدعم أكبر، ويجب أن يبدأ ذلك من الناس، إذ عليهم أن يشجعوا الفنانين بشراء لوحاتهم وتعليقها على جدران منازلهم. ويضيف أن على قادة الدولة والوزراء والطبقة الغنية في المجتمع أن تدعم الفنانين المحليين وتعرف العالم بهم.
الرسالة التي يرغب جوكشباغ في إيصالها من خلال أعماله الفنية هي أنه يتمنى من أي شخص اشترى لوحاته وعلقها في بيته أن يتذكر أوقاتًا جميلة ويبتسم.