June2010Banner

 


الهجرة النبوية
والمنعطف التاريخي

إن الهجرة من مكة إلى المدينة تمثل أكبر التضحيات في سبيل العقيدة والدين،
فلا قيمة للوطن وما فيه إذا كان الدين يهدده الأعداء ويحاربونه بالوسائل كافة.

د.رفيق السامرائي
جامعة الأمير محمد بن فهد

تضم سيرة الرسول الأعظم, صلى الله عليه وسلم, منذ ولادته إلى وفاته حشدًا من الروايات المسندة وغير المسندة، والتي شرحت لنا الدور الذي قام به النبي, عليه السلام, في تاريخ البشرية، وذلك من أجل إعادة صياغة الحياة الإنسانية بما ينسجم ويتلاءم مع رسالة الإسلام.
فمن ذلك هجرته، صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المدينة، والتي أدت بالبشرية إلى النجاح الكامل في إقامة دولة الإسلام.
فالهجرة لها معانٍ كثيرة، فهي هنا تعني: ترك الوطن والتحول عنه إلى وطن آخر، وذلك لإعلاء كلمة الله، تعالى، ونصرة دينه، رغم ما يكتنف الإنسان من حب وشوق للمكان الذي نشأ وترعرع فيه، وتعلق به.
لقد أظهر المهاجرون لوعتهم وحنينهم إلى مكة في أول أمرهم، حيث يشتد الشوق والحنين، قالت السيدة عائشة، رضي الله عنها: لما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعِك أبوبكر وبلال، رضي الله عنهما، قالت: فدخلت عليهما وقلت: يا أبتِ كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان أبوبكر، رضي الله عنه، إذا أخذته الحمى يقول:«كل امرئٍ مصبح في أهله، والموت أدنى من شِراك نعله».
وكان بلال، رضي الله عنه، إذا أقلع عن الحمى يرفع عقيرته «أي صوته» ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادٍ وحولي أذخر وجليل
وهل أردن يومًا مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل «1».
وسمعته يقول: «اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء...» «2».
ومن هنا أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، عندما أخبرته السيدة عائشة، رضي الله عنها، من شدة لوعتهم وحنينهم، دعا، عليه السلام، ربه بأن يزيل عن أصحابه شدة المرض، وشدة اللوعة، فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها لنا، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حُمَّاها فاجعلها بالجُحفة» «3».
وفي الوقت نفسه كان، عليه الصلاة والسلام، يُعلم أصحابه ويعودهم على إلف المكان، وعلى الصبر، وتحمل الشدائد، والتضحية لنصرة الدين، فيقول: «لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي، إلا كنت له شفيعًا وشهيدًا يوم القيامة، ولا يدعها رغبة عنها، إلا أبدل الله فيها من هو خير منه» «4».
الجدير بالذكر أن قول الرسول، عليه السلام، هذا، فيه ضرب من الترغيب والترهيب، والذي تتحقق به المهمة المرجوة، ويزداد الإقبال، وترتفع الروح المعنوية لتشييد البناء.
ولما أراد الرسول، عليه السلام، ترك مكة علمه الوحي الأمين أن يقول: ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا» «5».
وفي مكة أدرك الرسول، عليه السلام، أن مكة لم تتهيأ بعد لقيام الدولة ونظامها السياسي، فبدأ يُفكر في إيجاد المكان البديل الذي ينطلق من خلاله في بناء الدولة والحضارة، فبعد سعيه المتكرر، اختار، صلى الله عليه وسلم، المدينة لتكون مُهاجرَه، فقد صح أنه قال: «رأيت في المنام أني مهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب» «6».
وقد صح، أيضًا، أنه قال: «إني رأيت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين» «7».
دلت النصوص، آنفة الذكر، على أن الهجرة بأمر الله، عز وجل.
وكان معه في هذه الهجرة العظيمة رفيقه وأقرب أصحابه إليه أبوبكر الصديق، رضي الله عنه، حيث أكرمه الله، تعالى، بهذه الرحلة الإيمانية، وله مواقفه العظيمة مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في هذه الرحلة بالذات، جاء، رضي الله عنه، يستأذن الرسول، عليه السلام، بالهجرة، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبوبكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ فقال: نعم «8».
إن الهجرة إلى المدينة كانت تستهدف بناء الكيان الإسلامي وحضارتها العظمى التي بدأ العمل لها منذ أول يوم في دعوته، صلى الله عليه وسلم، إلى دين الله، تعالى، فقد كان في مكة يهدف إلى بناء الإنسان عقديًا وفكريًا، ونقله من براثن الشرك والهمجية إلى الإيمان بالله والدعوة إليه، وعندما تهيأت الأسباب جاءت الهجرة تُشكل منعطفًا حاسمًا في تاريخ البشرية.
إن تربية الرسول، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه جعلتهم مؤهلين لتحمل المسؤولية، والقيام بأوامر هذا الدين، والجهاد من أجله، فهم في مكة لم يكونوا كذلك، لضعفهم وقلة حيلتهم، فلما صاروا في المدينة، كان بوسعهم القيام والمشاركة الفعلية في بناء كيان الدولة، وبناء الحضارة الإنسانية.
جدير بالذكر أن الهجرة إلى المدينة سبقتها هجرة إلى الحبشة والطائف، وذلك بسبب ما لاقاه الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من الاضطهاد والتنكيل في مكة، لذلك كان، عليه السلام، يسعى إلى إيجاد حماية له ولأصحابه، ولتبليغ دعوة ربه.
فلم تكن الطائف أرضًا صالحة للقيام بمهمات الدعوة، بسبب ما لاقاه من مقاومة واعتراض وعدم استجابة... فلم ينالوا شرف استقباله، ولم تكن تلك الصعوبات التي واجهوها إبان هجرتهم إلى الطائف لتولد هزيمة في نفوسهم، لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، علَّم أصحابه أن الغلبة والنصر له، فكان الإيمان أقوى سلاح.
وما ينبغي التفطن إليه أن الرسول، عليه السلام، دعا نفرًا من أهل المدينة، وذلك في السنة الحادية عشرة للبعثة، فاجتمعوا بالرسول، صلى الله عليه وسلم، في العقبة بمنى أيام التشريق في موسم الحج، فعرض عليهم الإسلام، فأسلموا، فلما رجعوا إلى قومهم، عرضوا عليهم الإسلام فأسلموا، فلم تبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وهكذا، فكان الأنصار ينتظرون قدومه، صلى الله عليه وسلم، بحرارة وشوق.
وهنا بدأت الهجرة، فأخذ المسلمون يتركون مكة واحدًا تلو الآخر، الأمر الذي لفت أنظار المشركين بأن المسلمين وجدوا مكانًا يحتمون به، ما ولد عندهم هاجس الخوف مما ستنتج عنه هذه الحركة الإيمانية... فسارعوا إلى عقد الاجتماعات ليتخذوا قرارًا حاسمًا، حتى انتهى بهم الأمر إلى قرار قتل الرسول، صلى الله عليه وسلم، ولكن محــاولاتهم باءت بالفشل، كمــا أوضح لـنا القــرآن ذلك بقـــوله: }وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين{ «الأنفال: 30».
لقد كان، عليه السلام، ينتظر سلامة المهاجرين في أثناء خروجهم، ثم يبدأ، عليه الصلاة والسلام، ومن سيرافقه.
إن الهجرة من مكة إلى المدينة تمثل أكبر التضحيات في سبيل العقيدة والدين، فلا قيمة للوطن وما فيه إذا كان الدين يهدده الأعداء ويحاربونه بالوسائل كافة، فبالتضحية يضمن الناس ما فقدوه، ويكون النصر حليفهم... وحري بالمسلمين أن يستلهموا من الهجرة: هجرة الفرقة والاختلاف، وهجرة المعاصي والذنوب، وهجرة الكراهية والحسد، وهجرة الدسائس التي تفرق وحدة الأمة.
وأخيرًا أقول: بمبادئ هذا الدين وقيمه، تقام الحضارات الإنسانية النافعة المستندة على أنوار الرسالة المحمدية.
والله يقول الحق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

1- رواه البخاري «فتح الباري» 7/262 برقم «3926».
2- رواه البخاري «فتح الباري» 4/99 برقم «1889».
3- رواه مالك في الموطأ 2/60-61 برقم «1858»، والبخاري «فتح الباري» 7/662 برقم «3926». والجحفة كانت قرية كبيرة على طريق المدينة، وكان اسمها: مهيعة، وإنما سميت بالجحفة، لأن السيل اجتحفها، وحمل أهلها في بعض الأعوام، وهي ميقات أهل مصر والشام.
4- رواه مسلم في صحيحه 4/113.
5- رواه الترمذي في السنن 5/304 برقم «3139»، وقال: حسن صحيح.
6- رواه البخاري «فتح الباري» 7/226، ومسلم في صحيحه 4/1779.
7- رواه البخاري «فتح الباري» 7/231، ومعنى اللابة: الحجارة السوداء، والمدينة تحيط بها لابات أي أحجار سوداء.
8- رواه البخاري في صحيحه 7/231.