أالعطر والتطيب عند العرب
كان للعرب عناية كبيرة بالعطور وأنواعها تفرَّق ذكرها في أشعارهم وأقوالهم.
استخدم العرب العطر بأنواعه للتطيب،
لأن الفطرة الإنسانية تسعد بالرائحة الجميلة الطيبة، ولأنهم أدركوا،
أيضًا، آثار الرائحة الطيبة على المرء معنويًا وحسيًا، فضلاً عن آثارها الاجتماعية.
لقد وصف القرآن الكريم الجنة بقوله تعالى: }ويدخلهم الجنة عرَّفها لهم{.
أ.د.رياض بن حسن الخوام
جامعة أم القرى، مكة المكرمة
قال بعض اللغويين: عرَّفها لهم، أي طيبها لهم، ومن أوصاف الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنه إذا مَرَّ في طريق من طرق المدينة وجدوا منه رائحة الطيب وقالوا: مَرَّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من هذا الطريق، وكان ابن مسعود، رضي الله عنه، إذا خرج من بيته إلى المسجد عرف جيران الطريق أنه مَرَّ من طيب ريحه. وحكي عن ابن عباس، أيضًا، أنه كان يطلي جسده بالطيب فإذا مَرَّ في الطريق قال الناس: أمَرَّ ابن عباس أم مَرَّ الطيب؟
وسار الخلفاء والولاة على هذا النهج، فكان المتوكل يلبس أيام الورد الثياب الموردة، ويفرش الورد في مجلسه، ويطيب جميع آلاته بالورد، وقالوا: كانت ملوك الفرس تأمر برفع الطيب أيام الورد.
وقَلَّ أن تجد أمة من الأمم لم تهتم بالتطيب، لأن الرائحة الطيبة، كما قال الشعبي، تزيد في العقل، وشم رائحة المسـك يحيي القلب، كما قال الأحنف، أما سيدنا علي، كرم الله وجهه، فقال: تشمموا النرجس ولو في العام مرة، فإن في قلب الإنسان حالة لا يزيلها إلا النرجس. ونقل عن جالينوس قوله: المسك يقوي القلب، والعنبر يقوي الدماغ، والكافور يقوي الرئة، والعود يقوي المعدة، والغالية تحلّ الزكام، والصندل يحل الأورام.
ولأهمية التطيب في حياة الناس ألَّف بعض العلماء كتبًا تتناول العطر منها كتاب العطر، وكتاب كيمياء العطر للكندي، وكتاب العطر لحبيب العطار، وكتاب العطر وأجناسه للمفضل بن سلمة, وكتاب العطر لإبراهيم بن العباس.
والظاهر أن النساء حرصن على التطيب كالرجال بل أكثر منهم. فكنَّ يصنعن أنواع الطيب ويجعلنه من خواصهنّ لا يطلعن أحدًا على سرِّه، وهو ما يسمى الآن «بسر الصنعة». لقد شمّ مالك بن سليمان بن خارجة من أخته هند رائحة «الغالية»، نوع من أنواع التطيب، فقال: علميني كيف تصنعين طيبك؟ فقالت: لا أفعل تريد أن تعلّمه جواريك، هو لك مني كلما أردته، ثم قالت: والله إني ما تعلمته إلا من شعرك حيث تقول:
أطيب الطيب عرفُ أم أبان
فأر مسكٍ بعنبر مسحوق
فكأن هندًا خلطت أنواع الطيب التي ذكرها بالبيت وقدّمت نتاجها إلى مالك أخيها. وتحدثت كتب التراث اللغوي عن أنواع العطر وأجناسه، منها:
• المسك: وهو أطيب الطيب كما قال الرسول، صلى الله عليه وسلم. قالوا: من فوائده أنه مقوٍّ للقلب، مشجع للسوداويين، نافع للخفقان والرياح الغليظة في الأمعاء والسموم.
• العنبر: قالوا هو روث دابة بحرية، وحكي أن العنبر يأتي على سطح الماء لا يدري أحد معدنه، فلا يأكله شيء إلا مات، ولا ينقره طائر إلا بقي منقاره فيه، ولا يقع عليه حيوان إلا علقت أظفاره فيه، وقال الزمخشري: سمعت ناسًا من أهل مكة يقولون: هو من زبد بحر سرنديب. والعنبر أصناف أجوده الأشهب، ثم الأزرق، ثم الأسود.
• العود: وأجوده المندلي وهو منسوب إلى المندل وهي قرية من قرى الهند وأجوده أصلبه، وامتحان رطبه أن تطبع فيه نقش الخاتم فإن انطبع فهو رطب. ومن خصائصه أن رائحته تُطبع في الثوب أسبوعًا.
• الكافور: قيل هو ماء شجر بجزيرة الكافور يحزونه بالحديد، فإذا خرج ظاهرًا وضربه الهواء انعقد كالصموغ الجامدة على الأشجار.
• النّدّ: وهو العود المستقطر والعنبر واللبان فهو مصنوع منها، قال الشاعر:
لو كنت أحمل جمرًا حين زرتكم
لم ينكر الكلب أني صاحب الدار
لكن أتيت وريح المسك يقدمني
والعنبر النّدّ مشبوب على النار
• فأرة مسك: هي دويبة تصاد لسرّتها فإذا صادها الصياد ربط السرّة بعصابة شديدة، فيجتمع فيها دمها ثم يذبحها، ثم يأخذ السرة فيدفنها في الشعير حتى يستحيل الدم المجتمع فيها مسكًا ذكيًا.
• الغالية: وسبب تسمية هذا النوع من الطيب بالغالية أن عبدالله بن جعفر أهدى منها قارورة لمعاوية فسأله معاوية: كم أنفِقَ عليها؟ فذكر مالاً جزيلاً فقال هذه غالية، فسميت بذلك.
ومما ذكرته كتب التراث تلك الخلطات التي ينتج عنها طيب له خصائص خاصة. قال الحسن بن سهل: أمهات الرياحين تقوى بأمهات الطيب، فالنرجس يقوى بالورد، والورد يقوى بالمسك، والبنفسج يقوى بالعنبر، والريحان يقوى بالكافور، والنسرين يقوى بالعود.
وقد ربط بعض الأذكياء الطيب بالعطاء والجود والخير. لقد ناول المتوكل فتى فأرة مسك، فقال الفتى:
لئن كان هذا طِيبنا وهو طيبٌ
لقد طيبته من يديك الأناملُ
وقال سلمة لابن عباس وعنده جعفر بن سليمان: ما شمت أنفي من ريح مسك شممتهُ من الناس إلا ريح كفك أطيب منه، فأمر له بألف دينار ومئة مثقال مسك ومئة مثقال عنبر.
قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، مرغبًا بهذه الصنعة: لو كنت تاجرًا ما اخترت على العطر، إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه.