June2010Banner

 


أحجار القمر تنسج لغة الحلم في الرياض وتتألق شبابًا
العاصمة التي يعشقها من يفك رموزها.

بدا الأمر أقرب إلى اللقاء الحلم بين شخصين، أعادا تشكيل علاقتهما مع مدينة، نسجاها من أحجار قمرية مضيئة، فتحولت إلى بدر يتغلغل عشقه في النفس، حتى إذا مضيت أو نأيت، اكتشفت أنك تشتاق إليها.

الرياض: خالد السهيل
suhail@srpc.com
تصوير: هشام نصر شما

الرياض مدينة الأبيض والأسود، لا تعرف الحياد، هي مثل طقسها غير المحايد، البارد شتاء والحار صيفًا. بعضهم قد يشعر عند زيارته لها في الوهلة الأولى ببعض الغربة، لكنه إن أتقن قراءة رموزها لا يملك إلا أن يعشقها. وهذا ما يؤكده صديق فلسطيني يمم صوب كندا بعد سنوات طويلة من السكنى في الرياض، لكنه لا يزال يعود إلى الرياض من حين إلى آخر.
تتكئ الرياض على إرث ضارب في عمق التاريخ، لكن يندر أن تجد من يتذكر هذا، فحضور الرياض الطاغي لا يحتاج، برأيهم، إلى أن تفتش في زوايا التاريخ، ولا أن تسائل التخوم عن شخوص خطواتها تعطي صدى الزمن الذي عاصرته وتعيد صوغ حكايته.

رقة الرياض.. رمزها الخفي
لعل الأغنية التي صدح بها الفنان محمد عبده، منذ سنوات، ويتحدث من خلالها عن رقة الرياض وعذوبتها، حاولت أن تعكس جزءًا من شاعرية المدينة التي تخفيها زحمة المكان الذي يحتضن نحو خمسة ملايين إنسان، 40% من سكان الرياض لا تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة. هذا يجعل حيوية الرياض تستمر نهارًا وليلاً. ولهذا السبب تجد رواجًا أكبر للمحال التي تتوجه إلى هذه الشريحة مثل محال الكوفي شوب التي تنتشر في مختلف الأحياء حاملة أسماء عالمية ومحلية.
وأصبحت تلك المقاهي بديلاً للجلسات المنزلية الرتيبة، وبدأت هذه الممارسة العصرية تحل محل أسلوب الأجيال السابقة الذين يرون أن واجب الضيافة الحقيقية لا يتم إلا داخل المنزل. لكن فكرة الزيارة للمنزل في عرف الشباب تبدو غير ضرورية، إذ إن اللقاء في الكوفي شوب أجدى، بل إن جولة بالسيارة في شارع العليا أو شارع التحلية أو التوجه إلى الفيصلية أو المملكة أو أي من المولات التي تمتد في مختلف الاتجاهات في الرياض، تمثل خيارًا أنسب لأبناء الرياض وبناتها وزوارها أيضًا، وهناك من يلوذ بالأرصفة المخصصة للمشاة، وهو سلوك أصبح شائعًا في الرياض، وقامت أمانة المدينة بتشجيعه بإعادة صياغة كثير من الشوارع بشكل يجعل هذه الشوارع صديقة للمشاة.
وبالعودة إلى التوأمة بين الكلمة واللحن التي أعادت تشكيل صورة الرياض، أضاء الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن والفنان محمد عبده، مساحة مغمورة بالحب، وعكسا صورة من صور التعلق والوله، هذا التعلق تحول إلى غواية، تتملكك منذ اللحظة الأولى، حين يتهادى اللحن مثل شلال يعرف مساراته، فيمهد في الإطلالة الأولى للكلمة:
في الليالي الوضح
والعتيم الصبح
لاح لي وجه الرياض
في مرايا السحب
كفّها فلة جديلة من حروف
وقصة الحنا طويلة.. فـي الكفوف
هكذا هي إذًا الرياض في لغة عاشق وفي لحن عاشق آخر وصوته، عذوبة كلمة في عذوبة لحن في عذوبة غناء. وفي حضور الرياض تستمر ثنائية العشق حتى تصل إلى ذروتها حين يقول:
آه.. ما أرق «الرياض» تالي الليل
أنا لو أبي
خذتها بيدها ومشينا
إتقان حب الرياض، والتعلق بها، يحتاج إلى عاشق عارف، مثلما هو حال الشاعر العذب بدر بن عبدالمحسن، الذي أعاد رصف الطريق من أجل كتابة قصيدة جديدة لها إيقاعها الخاص الذي حاول كثيرون تقليده، ويبدو أنه حتى هذه اللحظة لم ينجح أحد في محاكاته.

من كندا.. ما زلت في الرياض
«إنها الرياض»، هكذا يغمغم الرجل الذي كان يجلس في بهو فندق الفيصلية. يضيف: تعرف أنني كنت أعيش في الرياض، غادرتها مهاجرًا صوب كندا، ولكنني أعود إليها لأنني أشعر بأن أجزاء مني تلتصق بهذا المكان ولا تريد أن تلحق بي إلى مكان هجرتي.
هنا ذكريات طفولتي، أصدقائي، وبيتنا العتيق الذي اختاره والدي كي نلوذ به بعد أن خرجنا من فلسطين ذات لجوء، واختارتنا الرياض لتكون محطتنا الحنونة، نسيت أنني من هناك، لم أنتبه لمثل هذه التفاصيل، كان يقيني أننا من هنا.. «إنها الرياض!» يقذف بالعبارة بحب.
خرج صاحبي مغادرًا الرياض، لكنه لا يزال يحملها معه، وهو وإن كان قد حمل الجواز الكندي، إلا أنه يؤوب دومًا إلى الرياض، يهاتفني: هييه، نلتقي في الفندق أو في الكوفي شوب؟ يجلس يتحدث عن تفاصيل المدينة وكأنه لم يغادرها أبدًا.
ذات يوم، كان يقول: مثلما يجلب رائد الفضاء أحجارًا قمرية، وتتحول مع الزمن إلى مقتنيات غالية، تضع قصيدة البدر مدخلاً مهمًا، خصوصًا لأولئك الذين لم يزوروا الرياض من قبل، أو زاروها لمامًا ولكنهم لم يتمكنوا من الدخول في تفاصيلها.
نعم، إنه يستحضر دومًا أغنية «ما أرقك يا الرياض» ويدندن بها، وقد تلمح خلف نظارته لمعة ماء مالح!
حسنًا، ما الذي قلته هنا؟
هل كانت كتابة عن الرياض أو للرياض؟ أم أنها كتابة عن مهندس الأغنية بدر؟ أم أنها عن محمد عبده؟
أظنها أرادت كل ذلك، ولكنها لم تقل شيئًا عن أي شيء.
لا تنسوا أن تبتسموا وأنتم تزورون الرياض، فثمة أكثر من لمحة فريدة لن تجدوها في غير الرياض، وأبرزها بذرة نشاط مسرحي يمتد لأشهر طويلة من العام، خصوصًا في أوقات الإجازات والأعياد، وهو فعل عصري تتفرد به الرياض بين كل المدن السعودية.