June2010Banner


غازي القصيبي..
إبداع ضد النسيان
أفكاره المحلقة، وأشعاره المبدعة، وكتاباته المنثورة، أشاعت لغة فارهة، كانت محط نظر المعجبين والخصوم.

في الرواية الأخيرة، التي صدرت للدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي عن دار بيسان، وتحمل اسم «الزهايمر»، يلوح في ثناياها، عبء النسيان الذي يداهم الذاكرة في فترة الشيخوخة، فتغيب التفاصيل.

الرياض: خالد السهيل

هذه الضبابية التي يدلف من خلالها بعض الناس في أواخر العمر، أحالها الأديب والمفكر والشاعر والوزير غازي القصيبي، إلى بوابة يخاتل من خلالها ذلك البياض الذي يبدو كستارة تمتص الصور والحكايا، فلا يبقى سوى بقع محدودة تظهر لتتوارى.
ذاك الوميض الذي يبدو ضئيلاً، يلتقطه القصيبي ليشغل من خلاله نسيج رواية نادرة، يقدم عبرها رؤاه وحكايته في سلسلة رسائل يكتبها لزوجته، لتغدو تلك الرسائل في مجملها قصة حب لا تطفئها برودة الزهايمر، بل تعطيها دفئًا.
كان من المقدر أن تصل هذه الرسائل إلى زوجته في أعقاب وفاته. هذا النسيج الذي يطفو ليغيب، يعبر عنه الكاتب مؤكدًا أنه «بلا ذاكرة لا يوجد سوى الفراغ.. فراغ الموت». ذلك أن العقل يغدو إثر الإصابة بالزهايمر «عقل حبة طماطم أو كوسة أو بامية».
لم يكن القصيبي يعاني النسيان. كان يبدو ضد النسيان، وضد اليأس، وضد الخوف، وضد المواربة في طرح أفكاره ورؤاه.. هذا الأمر وضعه في عين العاصفة منذ بداياته الأولى.
أفكاره المحلقة، وأشعاره المبدعة، وكتاباته المنثورة، أشاعت لغة فارهة، كانت محط نظر المعجبين والخصوم. لكن الشيء الذي اتفق عليه كل خصومه، أنه كان فارسًا نبيلاً في خصومته، لهذا السبب قرأنا في أعقاب وفاته شهادات ممن كانوا على خصومة معه، تؤكد فروسيته ونبله، وقابليته لأن يجعل خلافه الفكري يعني استمرار الحوار، فهو أيضًا ضد القطيعة مع من يختلف معه.
الذين يحاولون مجاراة غازي القصيبي في ذاكرته، سيتذكرون صولاته وجولاته، وكتاباته في الصحف المحلية، ودأبه على النشر شعرًا ونثرًا، حتى أصبحت تلك الصفة أمرًا لافتًا. فالرجل كان منشغلاً بكَمٍّ كبير من المسؤوليات والأعباء. ولكنه كان حاضرًا من خلال كتبه في المشهد الثقافي بشكل لافت. وبقي حتى في أيام مرضه، يمسك بالقلم ليخط إبداعاته الشعرية والنثرية. لهذا السبب لم يستغرب أحد أن تأتي «الزهايمر» التي كان يراجع مسودتها وهو على فراش المرض.. بل إنه أعاد المسودة إلى الناشر عقب مراجعته لها قبل وفاته بأيام قليلة.
علاقة غازي القصيبي بالسنوات وبالموت علاقة لصيقة، ولم يكن يكتنف هذه العلاقة فوبيا الرحيل والغياب. الموت حقيقة، وإيقاع السنوات حقيقة أخرى.. وهو في كلتا الحالتين أبدع في تجسيدهما.
كان القصيبي يعيد صياغة إيقاع السنين شعرًا، هو مثلاً عن الأربعين يقول:
مالت على الشعرات البيض تقطفها
يارا، وتضحك: لا أرضى لك الكبرا
يا دميتي هبك طاردت المشيب هنا
فما احتيالك في الشيب الذي استترا
هذا الإيقاع نراه يتواصل، وقد لفتتني قصيدته التي نشرتها جريدة الجزيرة في 22/5/2005 تحت عنوان: «حديقة الغروب»، وكتبت عنها في ملحق الأربعاء في جريدة المدينة. قلت في ثنايا تلك الكتابة إن غازي بدا مثقلاً بعبء السنين وهموم الواجبات. كانت تلك القصيدة تخاتل فترة الستين بكل ما فيها:
خمسٌ وستُونَ.. في أجفان إعصارِ
أما سئمتَ ارتحالاً أيّها الساري؟

وكما أن السنوات وإيقاعها ترافق القصيبي، تلمح أيضًا في الخلفية مشهد الموت الذي يتكرر من خلال أكثر من صورة. آخر مشاهد الموت، تقفز من خلال روايته الأخيرة «الزهايمر»، عندما تنتهي حياته، وتبقى رسائله التي يذيلها طبيبه في المستشفى برسالة إلى زوجته يبلغه فيها أن زوجها قد توفي إثر أزمة قلبية، ويضع بين يديها رزمة الرسائل التي طلب الزوج أن تتسلمها زوجته في أعقاب وفاته.
في ذات السياق كتب غازي القصيبي الكثير في الرثاء.. في هذا الأمر يظهر موقف الرجل من الموت. لم يكن القصيبي يهاب الموت، لكنه كان يتألم من الفقد، عندما يترجل أحد القريبين منه. ومن هنا شهدناه في مراثيه التي كان ينشرها في الصحف، تصوغه عبارات الفقد، فيتحول إلى إنسان مرهف الشعور، لا يجد حرجًا في إرسال دمعته.
لم يكن غازي القصيبي من أولئك الرجال الذين يجدون أن نزول الدمعة دليل ضعف. وهذا لعمرك قمة الصدق والتصالح مع النفس ومع الآخر.
والأمر ذاته بالنسبة إلى علاقته بالأنثى، حيث يتبدى في هذه العلاقة ذلك الوضوح، وتلك العاطفة التي لا يصوغها الكبرياء المغروس في صحراء الذات، وهو سلوك لصيق بمجتمعنا، فالمرأة زوجة وحبيبة، تبدو منفية بشكل أو بآخر في زاوية تملؤها العتمة. في إحدى ورقات «100 ورقة ورد» تسمعه يقول:

«تريدين أن تعرفي كم اشتقت إليك؟
سأحاول أن أصف يومي بدونك.
أصحو وأفتح الستائر، فتبدو الأشجار في الحديقة متعبة شاحبة تسألني: أينها؟».

ثم يختم ورقته السادسة، بعد أن يحلق بنا في كل عوالمه المحيطة به، الحمام، جريدة الصباح، المنزل، الوجوه، الكتب، المذياع، السرير، المخدة، الأحلام.. والتي تصوغ ذات السؤال: أينها؟ ليختمها ببوح راق وجميل:
«أيتها الغالية:
هل بدأت تعرفين كم أشتاق إليك؟»

لغة القصيبي الحميمية، لا يتقنها إلا القصيبي. لأنها تعكس جوهره الجواني. وتعكس ثقافته الثرية، التي تضعه في إطار إنساني شامل. ولهذا فأنت تتلاقى في قراءتك لميراث غازي القصيبي مع شخوص كثيرة من الماضي والحاضر.
وهو لا يجد الأمر يستحق النفاق أو السعي لعدم إظهار ما يمكن إبطانه. الأمر بالنسبة إليه موقف من الثقافة والحياة. ولهذا فأنت تجد المتنبي على سبيل المثال يظهر في تفاصيل كثيرة ومن خلال استشهادات متعددة حتى إنك ترى أبيات المتنبي تتصدر بعض رواياته. وفي المقابل تظهر الليدي ديانا التي يصوغ القصيبي صورتها بشكل مختلف ولافت، على أساس أن قصتها مع الأمير تشارلز ومن بعدها مع محمد الفايد أمثولة تستحق التأمل، خصوصًا مع النهاية المأساوية التي شهدتها القصة إثر حادثة النفق التي راح ضحيتها الليدي ديانا ومحمد الفايد.
كان غازي القصيبي الكاتب والمثقف والشاعر، يجعل من كل موضوع يخوض فيه، موضوعًا يستحق الاهتمام والمتابعة. ولك أن تمسك بين يديك أي رواية من رواياته أو دواوينه الشعرية أو كتاباته النثرية الأخرى، وحتمًا سوف تلمس تلك السهولة والليونة في الصياغة، وتلك الاحترافية في الكتابة.
والتشويق عند غازي القصيبي نهج ونسق تراه في «شقة الحرية» التي أثارت عند ظهورها جدلاً، مرورًا برواية «العصفورية» ورواية سبعة... وانتهاء بروايته الأخيرة «الزهايمر».
وهذا التشويق يكتنف أنماط الكتابة المختلفة. وهو لا يتخلى عن التشويق في كل حالاته إن كان من خلال كتابته للسيرة الذاتية، أو في دواوينه الشعرية.
ولا أظنني سأستغرب إن كشفت لنا الأيام المقبلة عن مذكرات كاملة لغازي القصيبي، يكمل من خلاله ما بدأه في حياة في الإدارة، خصوصًا أنه في الوزير المرافق وهو من إصداراته الأخيرة أيضًا، يعمد إلى نوع من المقاربة مع سلسلة من الشخوص التي التقاها الوزير القصيبي في عمله الحكومي خلال نحو 40 عامًا.