June2010Banner


رحلة الماء

بقلم: محمد سعيد المولوي رسم: ريم العسكري

كان الحرُّ شديدًا والعطشُ يأخذ بالألباب، حينَ دخلتْ العائلةُ إلى البيتِ راجعةً من زيارتِها للمزرعة، وجاءت الأمُّ تحملُ إبريقًا من الماءِ الصافي الذي يشعشع بالثلج، فامتدتْ الأيدي بالأكوابِ إلى الأمِّ لملئها، وتساقطَ الماءُ في الأكوابِ تتبعه النظراتُ، ثم ارتفعت الأكوابُ إلى الشفاه، فقابلتها ودخلت المياه في الأفواه حتى فرغت الأكوابُ وارتفعتْ أعينُ الجميعِ إلى السماءِ وهي تقول: الحمدُ لله الذي أسقانا من عطشٍ من غير حول لنا ولا قوة.

ملأت الراحةُ والبسماتُ الوجوهَ. وبادرتْ سلمى إلى سؤال أبيها:
لماذا نحنُ نشربُ الماءَ.. ومن أينَ يأتي الماءُ؟ فقال الأبُ: سؤال جيِّد يا ابنتي، أما لماذا نحنُ نشربُ الماءَ، فمن المعروف أنَّ الله تعالى خلقَ الأحياءَ جميعًا من الماء فقال:
}وجعلنا من الماء كل شيء حي{، والماءُ ضرورةُ الحياةِ، فهو يغذي الخلايا ويسحبُ منها السمومَ، ويطهِّرُ الجسدَ ويقويه، ولو أن الإنسانَ لم يتبولْ فإنه سيصابُ بالتسمم، وسيكونُ ذلك سبيلاً لوفاته.
والله تعالى خلقَ الإنسانَ وخلقَ الماءَ وجعلَ خلقَ الإنسانِ من الطين، وهو الترابُ والماءُ. ويحتل الماءُ من جسمِ الإنسانِ من الوزن الأكثر على بقية العناصر.
أما من أين يأتي الماءُ يا أبنائي، فإنَّ الله تعالى، حين خلقَ الكرةَ الأرضيةَ جعلَ أكثرَ ما فيها الماءَ، وجعلَ البحارَ تطغى على ثلاثة أرباع الكرة الأرضية. وقد قضى الله تعالى أنه إذا سطعت الشمسُ بخَّرت الماءَ فعلاً في الجو، مكونًا سحابًا دافئًا، ثم يرسل الهواء فيدفع السحابَ إلى الأرض التي قضى الله أن يسقيها المطر، ويقابل السحابُ الدافئ هواءً باردًا، فيفقد قطرات من المطر تتساقطُ على الأرض. ألا ترون أنا إذا وضعنا إبريقَ الشاي على النار فغلي وعلا منه البخارُ، فإذا أحضرنا طبقًا من الزجاج أو المعدن وكان باردًا ووضعناه فوقَ البخارِ فإنَّ هذا البخار ينعقدُ ماءً كالمطر. وهكذا فإنَّ المطرَ يهطلُ من السماء إلى الأرض، فإنْ كان الهواءُ باردًا كثيرًا فإنَّ المطرَ يتجمدُ كراتٍ صغيرةً من البَرَد كاللؤلؤ، فإنْ زاد البَرَدُ فإنَّ المطرَ يتحوَّلُ إلى قطرات من الثلج تكسو الأرضَ بياضًا ناصعًا ساحرًا.
وهذا المطرُ وما يصيرُ إليه من بَرَدٍ أو ثلجٍ تشربه الأرضُ العطشى فينزل إلى مستودعات داخلها والتي تتفجر ينابيع من الماء تسيل جداول فيشرب منها الإنسانُ والحيوانُ والنباتُ. وهذه الجداولُ تجتمع مع بعضها لتشكل الأنهارَ وتمضي فتصب في البحر، ثم هي تعيدُ الكَرَّةَ فتتحولُ إلى سحابٍ فمطرٍ أو بَرَدٍ أو ثلجٍ.
على أن المطرَ أحيانًا تشربه الأرضُ العطشى، وتحتضنه في جوفِها، فيتحوَّلُ إلى آبارٍ جوفيةٍ تكونُ بمنزلةِ مستودعِ تخزينٍ للمياه في الأرض، وحينَ يحتاجُ الإنسانُ إلى الماءِ على سطحِ الأرضِ، يمدُّ إليها الإنسانُ بوساطة الحفارات أنابيبَ تستخرِجُ الماءَ منها.
وفي سبيل تأمين المياه للمواطنين للشرب، والاغتسال، والغسيل، والمعامل الصناعية المختلفة، فإنَّ الدولَ المتحضرةَ تسحبُ الماءَ من الأنهارِ والآبارِ والينابيعَ، وتفحصُ صلاحيةَ هذه المياه للشرب أو الاستعمال، فإنْ كانت المياهُ غيرَ صالحةٍ، فإنها تعالجها بطرقٍ مختلفةٍ لتنقيها من الشوائب والأتربة والمواد الضارة، ثم تضخها إلى مستودعات كبيرة ضخمة مرتفعة، ثم توزعها بوساطة أنابيب خاصة على أماكن الاستعمال، مستفيدةً من الضغط الذي يحدثه ارتفاع خزانات المياه والذي يتولى إيصال الماء إلى البيوت وغيرها.
وعادةً حينَ تكونُ المياهُ ملوثةً، فإنَّها تنظَّفُ عن طريق الترسيبِ والترشيحِ من خلال مرشحات ضخمة من الرمال والفحم وإضافة مواد كيميائية كالكلور، أو تعريض الماء إلى غاز الأوزون الذي يطهِّر المياه من الجراثيم.
وفي البيوت تكون هناك عاداتٌ فرديةٌ في المجتمعات لتنقية المياه، فقديمًا كان الناسُ يستعملون الجِرارَ والقللَ، حيث تتولى هذه الجِرارُ والقللُ ترشيحَ الماءِ، فتدخل الشوائب ضمن الشقوق التي يتسرب منها الماء أو ترسب في أسفل القلل والجِرار.
على أن أعظمَ أعمالِ التنقيةِ في العالَم، تلك التي تعمدُ إلى تغذيةِ المدنِ بالماءِ في أماكنَ يندرُ فيها الماءُ، حيثُ تدورُ أعمالُ التنقيةِ على استخراج الماء المالح من البحار، ثم تنقيته بطرقٍ معقدةٍ حتى يتخلصَ من الأملاحِ والشوائبِ، وتكون كمياتُ المياه المنقاة كثيرةً جدًا، حتى تكفي مدينةً أو مجموعةً من المدن، كما هي الحالُ في إسقاء مدن الدمام والرياض وجدة من مياه التنقية، وتسمى هذه المياه مياه التحلية.
وتابع الأبُ فقال: اعلموا يا أولادي أن الماءَ نعمةٌ من الله عز وجل، وشكرُ الله على النعمةِ يقتضي أن يحافظَ الإنسانُ عليها، وألا يفرط فيها، لذلك يجب علينا ألا نهدر المياه، وأن نذكرَ قولَ الرسولِ عليه الصلاة والسلام: «لا تسرفْ ولو كنتَ علَى نهرٍ جارٍ».